الورقة المؤطرة: “الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الأقليات”.

 

الورقة المؤطرة: “الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الأقليات”.

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه

 

ستكون هذه الورقة: عبارة عن أسئلة وأجوبة مختصرة

·         ما هو الواقع والتوقع؟ ما هو تحقيق المناط؟

·        ما هي وسائل التعرف على الواقع “تحقيق المناط” ؟

·        من يحقق المناط؟

·        ما هو أصل تأثير الواقع شرعا في الأحكام؟

·        ما هو الواقع المعاصر: ما هو واقع الأقلية المسلمة ومتوقعها؟

·        وما هي قضاياها الفقهية، وما هي القواعد الفقهية الموجهة الهادية لفقه الأقليات، ما هي الكليات والمقاصد؟

·        خاتمة.

ما هو الواقع؟

التمكن بنوعين من الفهم، قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما .

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع.  ثم يطبق أحدهما على الآخر ؛  فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً.

فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان صلى الله عليه بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما”. إلى معرفة عين الأم، وكما توصل أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله للمرأة التي حملت كتاب حاطب لما أنكرته: لتخرجن الكتاب أو لنجردنكَ… إلى استخراج الكتاب منها، إلى أن قال: ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله.

قال القرافي في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك ، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح ، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات ، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية ، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة”.

إن التشديد على الفهم والفقه والاستنباط – وهي المفردات التي وردت في النص أعلاه- تدلُّ على أن الواقع لا يكون دائما واضحا وضوح الفجر الصادق؛ ولكنه قد يكون مغلفا بغلالة من غسق ظلام الشك والتشاكك، تفتقر إلى تسليط مصابيح الفكر مفعمة بضياء التجربة والخبرة ؛ لتبديد حلك الظلمة بنور اليقين الساطع والحقيقة الواضحة.

ولعل ذلك ما دعاهم إلى أن يقدموا وسائل لفهم الواقع؛ لأن الفهم يعني الإدراك الحقيقي، والفقه يعني الفطنة الخاصة، والاستنباط يعني استخراج الغامض، مأخوذ من النبط أول ما يخرج من ماء البئر بعد حفره من بين حمأة وحصى. فإظهار الواضح لا يكون استنباطا -كما يقول ابن القيم نفسه في موقع آخر.

لعل هذا الغموض -الذي يلف الواقع أحيانا- هو ما ألجأ الأصوليين إلى وضعه تحت عنوان ” تحقيق المناط”، وما جعل أبا حامد الغزالي يقدم ميزانا خماسيا لوزن الواقع، والكشف عن حقيقته.

فما هو الواقع الذي يجب فهمه والفقه فيه واستنباط علم حقيقته؟

حسب عبارة ابن القيم- إنه يعني الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات أو علاقة أو نسبة ليكون المحكوم به وهو الحكم الشرعي المشار إليه بالواجب في الواقع مطابقاً لتفاصيل هذا الواقع ومنطبقا عليه.

الواقع اسم فاعل من وقع الشيء وجب، ووقع القول ثبت (فوقع الحق) ، ووقع الطير نزل ومنه قول المرار الفقعسي:             أنا ابن التارك البكري بشر      عليه الطير ترقبه وقوعا

الواقعة النازلة، واستعمل الأحناف الواقعات كالنوازل والواقعات للناطفي، وهي من أسماء القيامة ( إذا وقعت الواقعة) .

وبدون تقديم تعريف يجعل الواقع مصطلحاً محددا  ؛ فإن ما قدمنا يشير إلى أن للواقع وجودا ثابتا، إلا أن الواقع قد يطلق على واقع مستقبلي إذا كان وقوعه في المستقبل لا يرقى إليه شك، كما في قوله جلت قدرته ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ﴾ وكما في قوله تعالى جده وتبارك اسمه ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ﴾ مع أن اسم الفاعل كما يكون للماضي فإن صيغته كصيغة المضارع صالحة للحاضر والمستقبل وذلك شرط في إعماله بين شروط أجملها ابن مالك بقوله:

كفعله اسم فاعل في العمل    إن كان عن مضيه بمعزل

وولي استفهاما أو حرف ندا   أو نفيا أو جا صفة أو مسندا

أما الغربيون فلهم جولات مع الواقع تعريفاً وتدقيقا وتشذيبا وتشقيقا، وبخاصة في التخصصات الفلسفية؛ فمنهم من يرى أنه واضح وضوحا يكون التعريف فيه مدعاة للغموض والتحريف، فقد جعله “ديكارت”: ضمن «المفاهيم الشديدة الوضوح في ذاتها, لدرجة أن كل محاولة لتوضيحها أكثر, تقود بالضرورة إلى إغراقها في الغموض».

ومنهم من يشك في وجوده أصلا وهم المسمون بفلاسفة الشك.

ومنهم من يقول: إنه التطابق بين مقتضيات الوعي من جهة, والواقع أو «الشيء في ذاته» la chose) (en soi كما يقول “كانت”، وهو تعريف غير سديد لأنه يحيل الشيء على نفسه، فلا جنس ولا فصل.

ومنهم من يقسمه إلى واقع من صنع الإنسان يمكن رفعه كالأعراف والتقاليد، وواقع إلهي -والعبارة من عندي- لا يمكن رفعه ولا دفعه كالحياة والموت والليل والنهار وحاجة الحي إلى الغذاء والهواء.

ولكن ما هو نوع الواقع، الذي يبحث عنه الفقيه؟ ولماذا يبحث؟

إنه الواقع الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتها حاقة فيه، أي ثابتة ثبوتاً حقيقيا يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئيا أو كليا فرديا أو جماعيا، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف.

فالواقع المطلوب فقهه هو الواقع المحكوم فيه والمحكوم عليه؛ لأن المحكوم به هو ما سماه ابن القيم “الواجب في الواقع”، وهذا هو الحكم الشرعي الباحث عن محل مشخص.

لأن المحكوم فيه أو عليه سواء كان ذاتاً أو صفة أو نسبة، جنساً أو نوعاً، كلاً أو جزءاً، فعلاً أوْ انفعالاً ، له حمولة من المعنى هي التي تجعله قابلا لحكم ما، تلك الحمولة ،،، هي الواقع الذي يبحث عنه الفقيه والتي تسمى في الغالب علة أو سبباً، وقد تكون مانعاً أو شرطاً.

وهكذا يكون هذا الواقع مفتاحاً لتعامل الفقيه مع الأشياء والأشخاص، فالذي يقول عن النقود الورقية “إنها ربوية” فهو يبحث عن واقع معين هو الثمنية مثلا، وعن التين أو الموز فهو يبحث عن الطعمية أو الاقتيات والادخار . وهو بحث في الأولى عن الوظيفة، وفي الثانية عن الطبيعة.

وليقبل شهادة شخص في حق فهو يبحث عن صفة خلقية ليست محسوسة ولا ملموسة لكنها قد تكون محدوسة، وقبول الشهادة بالنسبة لدرجة تحقيق العدالة مرتبط بعوامل أخرى زمانية ومكانية ومجتمعية، فالعدالة في زمان هي اجتناب الكبائر والصغائر في الغالب، والمباحات المخلة بالمروءات كالأكل في الأسواق؛ ولكن المتأخرين في بعض الأزمنة اكتفوا بالسلامة من جرحة الكذب.

ولو كان الواقع محل الحكم هو سلامة عقد من الغرر أو التياثه به؛ فإن البحث هنا عن معنى مشكك لا يستوي في أحواله ولا في محاله، فالتأثير في العقد يفتقر إلى درجة يجتهد فيها، وكذلك مفهوم المصالح والمفاسد، وكذلك أحوال المجتمعات، وبذلك يتضح إلحاح العلامة ابن القيم على فهم الواقع وفقهه واستنباطه لأنه غامض في بعض جوانبه.

وقد لا يجب أن يجاب عن الأسئلة المفاتيح كلها لإدراك الواقع الذي يبحث عنه الفقيه؛ بل قد يعتبر بعضها طرديا، لكن بعضها أحيانا قد يسعفه من طرف خفي، فبعض الفاكهة عند من يعلل بالاقتيات والادخار بالإضافة إلى هذا الواقع – فإن الفقيه يسأل بـ”أين”؟ أي في أي مكان يدخر ؟ ويسأل بـ”متى”؟ كان ذلك؛ ولذلك اهتموا بهذه الجزئية لتغيير حكم البراءة الأصلية في التين لإلحاقه بالبر والشعير. ويقول الأحناف وهُمْ يخصِّصون النصَّ بالتعامل: إن من شرط ذلك أن يكون التعامل في كل الأقطار كالاستصناع.

ولهذا فعلى الفقيه لإدراك الواقع بخفاياه وخباياه أن يستحضر الأسئلة المفاتيح: ماذا ولماذا وأين ومتى وكيف؟

فالأول عن الماهية، والثاني عن العلة والسبب، والثالث عن المكان، والرابع عن الزمان، والخامس عن الحال والخبر.  وغالبا ما استفهموا عن الخبر بكيف والحال؟ وربما يجر . ولو أنه سيذود بعضها عن حياض الحكم، ويطرده عن مائدة الدليل؛ ليكون وصفاً طردياً.

ما هو الواقع الذي نبحث بالخصوص في وضع الأقليات؟

هو الواقع الذي جعل العالم قرية واحدة تتعايش فيها الديانات والثقافات، ويتأثر كل طرف منها بما يجري في الطرف الآخر، والواقع جعل العالم مرتبطا ومشدودا إلى مواثيق دولية.

والواقع الذي نحاول التعرف عليه هو الذي لم يترك أي قطر من أقطار العالم خالصاً لقوم ينتمون إلى عرق واحد أو إلى ديانة واحدة. نعم قد توجد أكثرية تنتمي إلى جذور خاصة أو إلى ديانة معينة ولكنك واجد بإزائها أقلية يقل عددها أو يكثر تختلف معها في الديانة أو تفارقها في العنصر البشري بحيث أصبح ما يسمى بالنقاء العرقي متعذرا؛ وما تقدم له تأثير على وصف الدار وما تفرع عنه من اختلاف الفقهاء في فروع معللة به كالإقامة والجنسية وبعض المعاملات التي ميزها بعض العلماء بطابع خاص، وكذلك فإن النظام العام المعتمد على القيم يختلف في البيئة الجديدة عنه في البيئة الأصلية، فالتعامل بالفوائد الربوية والمضاربات التي لا تحترم، والحريات الشخصية التي قد لا تلتزم بالمواصفات الدينية المحافظة، وعقود الزواج والطلاق والعلاقة بين الرجل والمرأة وما يجب للوالدين من الاحترام والبر، مما يهمنا في مشكلة تربية الأولاد تربية تراعي تلك القيم والأخلاق وتلتزم بأصول العقيدة، ومسائل الطعام والتعايش المتسامح مع الجار والشراكة والمواطنة ومفهوم العلمانية والاندماج وحقوق الإنسان فردا، وحقوق المجموعة في الاحتفاظ بخصوصيتها.

كل ذلك الموكب من الإشكالات التي تورث نوعا من الاعتراض والامتعاض لدى المسلم المحافظ يقابله رفض من البعض لأيِّ مظهر غير مألوف كمآذن المساجد مما قد يصل أحيانا إلى ما يشبه العنصرية، إنه تحدٍّ مشتركٌ للأصلي والوافد، واختبارٌ لفلسفة المساواة والعدل والتسامح والأخوَّة الإنسانية، وهو في نفس الوقت تحد للمنظومة الفقهية التي يتمسك بها المسلم المتدين.

فنحن من جهتنا نريد أن نسهم في مواجهة هذا التحدي بتقديم البدائل الممكنة واستكشاف السبل المتاحة ؛ لإبراز المرونة التي يوفرها التأويل المقارب للنصوص الدينية وللمورث الفقهي لتربية العقول على الانفتاح لإيجاد انسجام ووئام بين التدين والتوطن، ولكن الشرط المسبق لذلك العمل البحثي المضني الذي يحاول أن يكون وفياً للأصول، ومرنا في الفروع، أصيلا في المنطلقات ؛ هو معرفة الواقع معرفةً ليست نظرية فقط وإنما معرفة عملية حركية، والمطلوب هو معرفة الواقع بكل تفاصيله وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة لكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه واحداثاته، غير أن كل ذلك لن يكون كافياً دون استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات؛ وذلك ما سميناه بالتوقع.

بذلك تكتمل الصورة التي تمثل كلي الواقع، والمثال المتخيل هو مثال من يقف على وسط نهر يتأمل جريانه وقوة اندفاعه وسلاسة انسيابه، لكنه ليعرف الأسباب يحتاج إلى العودة وأن يرتد على آثاره ليشاهد منابع النهر ومصبه ومنتهاه، وهكذا فإن الأحكام الشرعية ترنو إلى الماضي استصحابا وتنظر إلى الحاضر استصلاحا، وترقب المستقبل والمئالات سدا للذرائع “حماية”

مهمتنا البناء على أرضية الواقع للتأصيل الكلي

إن مجرد كشف من الجزئيات ليس مناسبا لإصدار حكم عليها دون ربط بعضها ببعض، من خلال دراسة أوجه التشابه والتباين ولمح الجذور المشتركة لبناء كلي شبيه بعملية الاستقراء التي تمثل أصلا من الأصول الثلاثة للاستنباط خارج دلالة اللفظ، وهي: الاستدلال بالجزء على الكل، أو تصفح الجزئي للوصول إلى كلي كما يقول أبو حامد، وذلك عكس القياس الشمولي الذي يكون فيه الاستدلال بالكلي الأشهر على الجزئي الخفي، بالإضافة إلى النوع الثالث وهو: الاستدلال بجزئي أظهر على جزئي أخفى – حسب عبارة ابن رشد في تلخيصه لأرسطو .

قال الأخضري في السلم:

وَإِنْ بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيْ اسْتُدِلْ … فَذَا بِالاسْتِقْرَاءِ عِنْدَهُمْ عُقِلْ

وَعَكْسُهُ يُدْعَى القِيَاسُ المَنْطِقِيْ … وَهْوَ الَّذِيْ قَدَّمْتُهُ فَحَقِّقِ

وَحَيْثُ جُزْئِيٌّ عَلَى جُزْئِيْ حُمِلْ … لِجَامِعٍ فَذَاكَ تَمْثِيْلٌ جُعِلْ

إننا هنا نستعمل كل تلك الطرائق ونسلك كل السبل والمسالك في اتجاهين اتجاه يتعلق باستكشاف الواقع، وبامتداده المستقبلي من خلال التوقع. أما الاتجاه الثاني فهو استنطاق النصوص والقواعد وعمل الخلفاء والفقهاء وتعاملهم مع المعاني والمقاصد، أما التوقع فهو على أربعة أقسام:

التوقع هو مصدر توقع الشيء، وتفعَّل تدل على التكلف كتشجَّع وتصبر، قال في زيادات اللامية:

بها تكلف وجانب واتخذ  وبها          كرر  تجـرعْ  مُطيـلا شُرْبَـكَ العسـلا

والعرب تقول: “استوقع الشيء وتوقعه” انتظر وقوعه، وفي الأساس: ارتقب وقوعه. وبالمعنى الحديث: هو انتظار وترقُّب فيه نوعٌ من التظني والتوهم الذي تحمله كلمة التوقع. هو تأصيل بل هو إخبار صادق عما سيقع كواقع وهو إناطة حكم شرعي لحدث مستقبلي في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في الكتاب العزيز فأدلة الذرائع تؤذن بإضافة حكم في واقع حاضر إلى مستقبل، كقوله تعالى: ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فالنهي عن السب في الوقت الحاضر “الواقع” والعلة في المستقبل “التوقع” وهو الجزاء ولا يسمى توقعا ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ﴾ ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ النهي للمرأة عن الضرب بالأرجل بناء على ما سيقع من الإثارة ولفت الانتباه.

أما في السنة فهو كما في حديث الدجال، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة. فأمره عليه الصلاة والسلام بأن يقدروا أوقات الصلاة في الأيام الطويلة بأوقاتها في الأيام العادية. “قلنا يا رسول الله و ما لبثه في الأرض قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قال: يا رسول الله فذلك الذي كسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره”.

وأما حديث حذيفة فهو توقع من حذيفة، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسُول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَن. قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قوم يستنُّون بغير سنَّتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتُنكر. فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله صِفهم لنا، فقال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: يا رسُول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزِل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك. متفق عليه. وحذيفة هنا يفترض والمصطفىr يجيبه وكأنه يصدقه في افتراضه حالة كهذه.

القسم الثاني: توقع له علاقة سببية بتصرفات المكلفين، فيبني المفتي فتواه على ما يحقِّق مصلحة أو يدرأ مفسدة في المستقبل، فحيثيات الحكم أو علته كامنة في توقُّع ما يحدث في المستقبل؛ أن لو ترك الأمر على أصل الإباحة أو الحظر . وهذا أصل الذرائع والنظر في المئالات.

القسم الثالث: هو توقُّع افتراضي أو افتراض لمسائل غير واقعة، وقد لا تكون متوقعة قريبا لإصدار أحكام اجتهادية فيها . وهذا النوع كرهه بعض العلماء كمالك عندما سئل: “إن وقع كذا” فقال للسائل: هذه سلسلة بنت سليسلة، اذهب إلى العراق. وكرهه أحمد، والنص التالي لابن القيم يقدم توجيها في المسألة، فبعد أن ذكر الخلاف في المسألة قال: والحق التفصيل: فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر: فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يُستحب له الكلام فيها . وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد -وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت- استحب له الجواب بما يعلم لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك، ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى والله أعلم.

يقول الإمام الغزالي عن الصحابة: إنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع، بل وضعوا المسائل وفرضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله؛ لأن ذلك مما أمكن وقوعه فصفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه ؛ إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه، وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها. ( إلجام العوام عن علم الكلام)

ولهذا نجد الفقهاء افترضوا كافتراض مالك أن تكون الجلود نقودا، وكره أن تباع بالذهب والفضة نظرةً. وافتراضهم طيران الولي من المشرق إلى المغرب والعكس، وفصَّل فيه القرافي؛ فلو طار الولي من المشرق إلى المغرب بعد الزوال وكان قد صلى الظهر وأدركه الزوال في الوقت الذي طار إليه فلا يعيد .

وقد أصبح اليوم الطيران متاحا للولي وغير للولي . وقبل أربعة أشهر صليت الظهر والعصر في جدة لأصل إلى واشنطن بعد ساعات في وقتهما فلم أصل شيئا لأنهم أراحونا من الاجتهاد.

وقد افترض إمام الحرمين خلو الزمان من حملة العلم، فأجاز بيعاً لم يحترم فيه إلا ركن التراضي، معرضا عن المفسدات التي منها الربا والغرر والجهالة . وجملة أخرى من المسائل في كتابه “الغياثي”، ولي وقفة هنا أشار إليها المرحوم الدكتور/ عبد العظيم الديب في كون هذا الرأي منوطاً بخلو الزمان والمكان من أهل العلم أم أنه رأي من إمام الحرمين؟

وافترض ابن القيم خلو المكان من العدول، وقبل شهادة الفاسق، وشهادة المرأة.

القسم الرابع: التوقع الذي يسمى الترقب عند المقري والزقاق وغيرهما.

وقد بنوا عليه قاعدة المترقبات التي هي أصل لقاعدة التقدير والانعطاف، وتقابلها قاعدة الظهور والانكشاف، أو ما يسميه القانونيون الأثر الرجعي . وحقيقة الأولى : توقع أفضى إلى واقع، فثبت الحكم بالواقع مستندا إلى التوقع، فهل يثبت الحكم بأمر رجعي من تاريخ التوقع (الترقب) لقيام سببه أو لا يثبت الحكم إلا من تاريخ الوقوع؟ أما عكسها فهو عبارة: عن واقع مزيَّف ترتَّبَ عليه حكمٌ “حقٌّ” اتَّصل به صاحبُه فانكشف زيفه.

وقاعدة المترقبات: هي نوع من التوقع المتردد، إذا تحقق هل تثبت أحكامه يوم التوقع باعتباره ابتداءً السبب؟ أم لا تثبت أحكامه إلا يوم الوقوع لأن مجرد التوقع كالعدم الذي لا يثبت حكما؟ وهنا نرى تنازعا وتجاذبا بين التوقع والوقوع:

وهل يراعى مترقب وقع          يومئذ أم قهقرى إذاً رجع

لسبب الحكم كمعتق ومن      ربح أو امضى لبيع اعلمن

وهي التي تدعى بالانعطاف     عكس التي تدعى بالانكشاف

كطالق يوم قدوم من قصد       ورد منفق كمال من فقد

كما قال الزقاق.

وتسمى قاعدة التقدير والانعطاف، وبنوا عليها الربح في المضاربة؛ هل يعتبر في الزكاة من أوَّل الحول أو من يوم الشراء، وإمضاء بيع الخيار هل يقدر البيع منعقدا من يوم الخيار، وكصيام بنية قبل الزوال هل ينعطف؟

وعكسها الظهور والانكشاف وهو: حكم بني على واقع مزيف يظهر بطلانه؛ كالمرأة تأخذ نفقة لحمل فيظهر ريحاً فتردُّ النفقة. يقول المازري حضرت مجلس الشيخ أبي الحسن اللخمي رحمه الله وقد استفتاه القاضي في امرأة دعت زوجها للدخول فدافعها منكرا أصل النكاح ثم أثبتت النكاح، فهل لها النفقة ؟ فأجاب: إذا كان يرجع إلى شبهة فلا نفقة لها، وإلا فهو بمنزلة الغاصب فلها حقها.

وقد أصلوا كذلك للتوقع الزائف يصدر القاضي على أساسه حكماً، وبكسب المحكوم له به حقاً ثم يكذبه الواقع، فهل يثبت الحق المكتسب بناء على التوقع؟ أم يرد بناء على الواقع ؟ وذلك كمن حكم له بالتعويض عن زرعه الذي أفسدته الماشية ثم ينبت الزرع.

قال الزقاق:

وإن جرى الحكم على ما يوجب       توقعـا هل  بالوقـوع  يذهب

كالزرع والسـن وعين ذي كــرا        ورفعه بما الرحـى اللخمي يرى

فالحاصل: أن التوقع له موقع كبير في الفقه، ويجب أن نتعامل بالوسائل الحديثة لإدراك حقائق الأشياء.

وفقه المآل إنما هو توقع، وعبارة عن توازن لكنه توازن بين حاضر وبين مستقبل، هذا الذي نسميه فقه المئال، والفقيه عليه أن يعتمد على الأدوات التي بإمكانها أن تكتشف هذا المستقبل، وعليه أن يعرف الواقع حتى يعرف المتوقع؛ لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته؛ لأن الذريعة عبارة عن وسيلة يتوسل بها إلى شيء، أو يتوصل بها إلى شيء.

وأهم ما في الذرائع هو عنصر الإفضاء، فإذا أفضت الوسيلة قطعا، فلا يختلف الفقهاء في اعتبارها إذا كانت الوسيلة غالباً تؤدِّي إلى المتوسَّل إليه، فهنا يختلفُ الشافعيُّ وهو الذي لا يقولُ بالذرائع مع مالك وأحمد وهما يقولان بها، وإذا كان ذلك أكثريا فمالك يقول بالذرائع في الأكثرية وبنى عليه -كما يقول القرافي- ألف مسألة في بيوع الآجال “ومنع للتهمة ما كثر قصده”.-خليل-

ولكن القضية هي قضية ضبط، أن نضبط النصوص الجزئية والقواعد الكلية، وأن نعرف الواقع بكل تضاريسه ومتوقعاته حتى نطبق عليه حكما متوازنا لا هو بالمتحلل ولا هو أيضاً بالمتشدد المتزمت المتقوقع، وكان بين ذلك قواما، والتوقعات ليست أوهاماً ولا افتراضات بعيدة الوقوع، ولكنها مستندة إلى معطيات أو احتمالات راجحة.

فالتوقع قد يكون بعيداً وقد يكون قريباً، وبالتالي فإنَّ التوقع لا يعني البتة التوهم والاستباق (anticipation) مع أن الاستباق أيضا كالتوقع ليسا دائما رجما بالغيب؛ وإنما تعني أن نحصل من خلال معطيات الحاضر على معرفة توجه للمستقبل، قد يكون سلوكاً اقتصاديا ومالياً هو حركة السوق، قد يكون سلوك الفاعلين التجاريين نعرفه من خلال ما يسمى بنظرية الاحتمال (probability) أو من خلال العينات المختلفة التي نطلع عليها ومن خلال الاستقراء، والاستقراء مؤصل في الفقه، فالتوقع له أدوات، هذه الأدوات قد تكون بديهية، حدس المفتي قد يعرف هذه الأدوات، وقد تكون نظرية.

الواقع شريك في إنتاج الحكم

إن تحقيق المناط بفقه الواقع والتوقع هو عبارة عن تجديد أو تحديث للفقه أو تحيين (actualisation) والتحيين يعني مراجعة العديد من الأحكام على مر التاريخ لتلائم الزمان، كما جدد المالكية تحت قاعدة “جريان العمل” مئات المسائل، فعدلوا عن القول المشهور والراجح إلى القول الضعيف بناء على مصلحة زمنية وتغيرات في الإنسان والمكان؛ ولهذا تعددت صور العمل من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، فمنعوا العمل بغير مذهب مالك، كما قال الفلالي في نظمه للعمل:

ومنذ دهر وزمان قد مضى  كان بأفريقية والي القضا

محجرا عليه ألا يحكما      بغير ما شهر عند العلما: أي المالكية.

وجرى عمل أهل الأندلس بجواز إحداث الكنائس خلافاً للمذهب بناء على ظروفهم الخاصة.

ويمكن هنا أنْ نقول: إن الواقع شريك في عملية استنباط الأحكام أي تنزيل الأحكام وإن لم يكن شريكاً في تقرير أصل الحكم.

تحقيق المناط

التحقيق: من حقّ الشيء يحِقّ إذا ثبت، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيّر، ومن أسماء الله الحسنى(الحق)، والمناط: هو العلة من النوط أي التعليق، فالحكم معلق بها، تقول: ناط به نوطاً أي علقه.

وتحقيق المناط له صورتان:

الصورة الأولى: “تطبيق القاعدة العامّة في آحاد صورها” وحينئذ يكون تحقيق المناط بعيدا عن القياس، وهذا التعريف هو الذي مال إليه الغزالي في كتابه “المستصفى”، مثال ذلك: قاعدة العدل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِـﭑلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾ فتعيين ولي الأمر العدل يعتبر تحقيقاً للمناط؛ لأنّك طبّقت القاعدة العامّة وهي “العدل” في آحاد صُورها وجزئيّاتها وهو: تعيين أولياء الأمور، ونصب القضاة.

وكذلك في قوله تعالى: ﴿ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ﴾ فلو قتل شخصٌ حماراً وحشياً فعليه بقرة لأنّها تشبه الحمار الوحشي، فهذا تطبيق للقاعدة العامة في مسألة معيّنة.

الصورة الثانية: إثباتُ علّةٍ -متـّـفقٍ عليها في الأصل- في الفرع لإلحاق الفرع بها، وهذا ما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله :

تَحقِيقُ عِلَّةٍ عَلَيْها ائْتـُـلِفا         في الْفَرْعِ تَحْقيقُ مَناطٍ اُلِفا

وهذا التعريف أدقّ من التعريف الأوّل، فالعلّة المتفق عليها في الأصل إذا أثبتناها في الفرع فهذا هو تحقيق المناط. مثال ذلك:

علّة الربا في المطعومات عند مالك هي “الاقتيات والادّخار” وكان الإمام مالك رحمه الله بالحجاز، وكان التين عندهم غير مقتاتٍ مدّخرِ؛ فلذلك لا يجري فيه الربا. فلمّا ذهب تلاميذ الإمام مالك إلى الأندلس وجدوا أنّ التين يُقتات ويدّخر فأثبتوا العلّة التي هي الاقتيات والادّخار في الفرع الذي هو التين من باب تحقيق المناط، وقد أثبتوا رواية عن مالك في ربويته . وقد ذهب خليل في مختصره إلى أن التين غير ربوي؛ ولعله لم يكن مدخرا في مصر في ذلك الأوان، ونصه:” لا خردل وزعفران وخضر ودواء وتين وموز وفاكهة ولو ادخرت بقطر”.

كذلك لو جزمنا أنّ العلّة في الذهب والفضة هي الثمنية ثمّ وجدنا أنّ النقود الورقية أصبحت ثمنا للأشياء، فحينئذ نقوم بتحقيق المناط ونثبت العلّة الثابتة في الأصل في الفرع الذي تنطبق عليه، فعملية تحقيق المناط عبارة عن البحث عن الواقع، وملاحظة هذا الواقع حتى نطبّق عليه حكم الأصل.

والفرق بينها وبين القياس: أنك لا تلحق فيها بأصل معين، بل تنزل الحكم بناء على العلة التي أصبحت بمنزلة الكلي، وقال الشاطبي: الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف وذلك عند قيام الساعة، والثاني يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.

فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف بين الأمّة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله().

فإذا كان الشاطبي أبرز تحقيق المناط في الأنواع والأشخاص باعتباره إضافة أصولية مشيراً إلى أن ما سواه قد تكفل  به الأصوليون، فإن الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى قد أقام على هذا النوع ميزانه في الفقه المقارن؛ حيث اعتبر أن اختلاف الأئمة يرجع إلى هذا الميزان المتمثل في حالة المكلفين من قدرة وقوة تتحمل عزائم التكليف وشدائده، ومن ضعف أو فقر تستدعي حالة الترخيص والسهولة، بل علل بها أحكام الشارع ضارباً صفحاً عن دعوى النسخ كما في مس الذكر في حديث طلق بن علي: “إن هو إلا بضعة منك”. مع حديث: “من مس ذكره فليتوضأ”، باعتبار أنَّ الأولَ أعرابيُّ، والثاني صحابي راسخ.

ومن ذلك حديث عدي بن حاتم في الصيد عندما أجابه عليه الصلاة والسلام بقوله: “كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت”، فمنعه من أكل الصيد إذا غاب وفيه السهم ولم يمت فورا، مع حديث أبي ثعلبة الخشني الذي قال: “كُل ولو بات ثلاثاً ما لم ينتن” . ووجَّهه أبو حامد في الإحياء بأن حالة الأول اقتضت التشديد، وحالة الثاني وهو فقير يحتاج إلى الطعام اقتضت الترخيص.

وأشار القرطبي إلى هذا الجمع في تفسيره، فقال: ولما تعارضت الروايتان رامَ بعضُ أصحابنا وغيرهم الجمع بينهما فحملوا حديث النهي على التنزيه والورع، وحديث الإباحة على الجواز وقالوا: إن عدياً كان موسَّعاً عليه فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالكف ورعاً، وأبا ثعلبة كان محتاجاً فأفتاه بالجواز، والله أعلم()، وبالغَ إمامُ الحرمين فجعل أفكار العلماء في الواقع بمنزلة النسخ على ألسنة الأنبياء.

إن الاختلاف في التعريف هو اختلاف عبارة وإشارة، وليس اختلاف دلالة وإيالة، والقول الفصلُ فيه أنه القنطرة الواصلة بين حكم معروف العلة، وبين مناط موصوف، وبين محل مشخص معين لتحقيقها؛ لجعلها حاقة أي ثابتة تترتب عليها الأحكام المنوطة بتلك العلة، والمحل قد يكون ذاتاً حسية فيعمل الحس فيها؛ لإصدار حكم بتحقيق مناط الحكم ثم ترتيب الأحكام عليها، ولهذا افتقر الأمر إلى مقدمتين، ككون الماء مطلقاً أو متغيرا لترتيب الأحكام المنوطة بعلة الطهارة.

وهذا من باب تحقيق المناط في الأعيان كما سماه ابن تيمية في قوله: كما اتفقوا على تحقيق المناط، وهو أن يعلِّق الشارعُ الحكمَ بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان، كأمره باستقبال الكعبة، وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء، وكتحريمه الخمر”().

والمطلوب الآن -بالإضافة إلى الأنواع والأشخاص والأعيان- أن نحقق المناط في أوضاع الأمم، ومقتضيات الزمان والمكان.

وقد يكون مناطُ الحكم صفةً معنويةً كالعدالة لتحقيقها في شخص معين لترتب عليها أحكام الشهادة والولاية . إلاَّ أنَّ تحقيق المناط هو تنزيل الحكم، فهل يمكن اعتبارهما متباينتين؟ فيكون تنزيل الحكم مرحلةً لاحقةً، فيتحقَّقُ المناطُ بالمقدمة الأولى عند الشاطبي أي التأكيد على أن الماء مطلق، وينزل الحكم بأن التطهر به جائز.

فتحقيق المناط ليس تشخيص القضية مِنْ حيثُ الواقع فقط بل تنزيلها أيضا، فإذا كانتْ عَقْداً يكون ذلك بالتعرّف على مكوناته وعناصره وشروطه. بل هو تشخيص القضية والبحث في محيطها، فمعرفة عناصر العقد لا تكفي بل أيضا التعرف على الفاعل “العاقد أو غيره”.

وإذا كانَ الأمرُ يتعلّقُ بذاتٍ معيّنة لإصدار حكمٍ عليها كالنقود الورقية، فإنَّ الباحثَ يجب أن يتعرَّض إلى تاريخ العملات، ووظيفتِها في التداول والتعامل والتبادل، وما اعتراها على مرّ التاريخ من تطور يتعلّق بذات النقد، كمَعْدِنٍ نفيس إلى فلوسٍ، أو يتعلّق بعلاقته بالسلطة وهي جهةُ الإصدار أو بالسّلَع والخدمات، وهذه هي مرحلة التكييف والتوصيف التي يعبر عنها بتحقيق المناط عند الأصوليين؛ لأنه تطبيق قاعدةٍ متفقٍ عليها على واقعٍ معيّنٍ أو في جزئيةٍ من آحادِ صورِها، وهذه المرحلة لا غنى عنها للفقيه، فإنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وبدون هذا التصور والتصوير يمكن أَنْ يكونَ الحكمُ غيرَ صائبٍ؛ لأنه لم يصادف محلاً.

وتزدادُ أهمية هذه المرحلة عندما ندرك تعقُّد العقود المعاصرة، وانبنائَها على عناصر لم تكن موجودةً في العقود المعروفة لدى الفقهاء مِنْ بيعٍ وسلَم وإجارة وكراءٍ وقِراض وقَرْض ومساقاةٍ ومزارعةٍ وكفالةٍ ووكالةٍ إلى آخرها ؛ فهنا يتوقف الفقيهُ برهةً من الزمن للتعرف على مكونات العقد، وردّه إلى عناصرِه الأولى لتقرير طبيعته، وهل هو مشتملٌ على شرطٍ ينافي سَنَن العقود المجمع عليها والمختلف فيها ؟

ومن الواضح أن عملية التشخيص في معظمها تستدعي من الفقيه رجوعاً إلى بيئات هذه العقود، وأصول التعامل عند أهلها قبل أَنْ يزنَها بميزانِ الشرع.

وأعتقدُ أنَّ الخلاف بين أعضاء المجامع الفقهية في جملةٍ من المسائل يرجعُ إلى تفاوتُ بين الباحثين في قضية التصوُر والتشخيص أكثرَ مما يرجع إلى اختلافٍ في فهم النُّصوص الفقهية. إذاً فالخلاف هو خلافٌ في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعاً للزاوية التي ينظر إليها الفقيه مِنْ خلالها؛ أو اختلاف شهادة وهو: أن يكون موضوع الحكم يحتمل حالين، فيفتي المفتي بناء على أحد الحالين مستبعدا الوصف الآخر، كما يقول البناني، ولهذا فمن الأهمية بمكانٍ أَنْ يبذُلَ الاقتصاديون الوَضْعيون، والأطباء، وغيرهم من أصحاب الصنائع والتخصصات جهداً لإيصال كل العناصر التي يتوفّرون عليها إلى زملائهم الشرعيين ليحقق هؤلاء المناط لتنزيل الحكم على واقع العقد وعلى حقيقة الذات.

ونحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للواقع في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور.

وإن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يظلان النبراس الدائم، والينبوع الدافق، بهما يستضاء في ظلمة الدياجير، ومنهما يستقى في ظمإ الهواجر، بأدوات أصولية مجربة، وعيون معاصرة مستبصرة، فالاستنباطات الفقهية القديمة كانت في زمانها مصيبة، ولا يزال بعضها كذلك، والاستنباطات الجديدة المبنية على أساس سليم من تحقيق المناط هي صواب؛ فهي إلى حد ما كالرياضيات القديمة التي كانت تقدم حلولا صحيحة، والرياضيات الحديثة الآن التي تقدم حلولا سليمة ومناسبة للعصر.

هل من سبيل إلى تنزيل كلي الشرائع والإيمان على كلي العصر والزمان، وإيجاد مشتركات ومعايير تخفف من غلواء الاختلاف، وتسهِّل الائتلاف، من خلال تحقيقِ مناطِ كليِّ العدل والإحسان؟

فهناك الواقعُ السياسيُّ الذي لا يزال متجاذبا بين فهم خاص للشورى يعتمد على أصول عمل القرون الماضية ومفهوم نظام البيعة وواقع جديد يعتمد على عقد اجتماعي وسياسي جديد يوزع ممارسة السيادة بين سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية إلى جانب السلطة القضائية.

وهناك واقع التكنولوجيا التي غيرت أسلوب وأدوات التواصل والاتصال -فالفيسبوك وتويتر ويوتيوب- أعانت الفرد على الإفلات من رقابة المجتمع، والتماهي مع قيم أخرى بحيث تصبح الوسائل التربوية عاجزة أمام هذا الكائن الذي يعيش ببدنه في بيئة ويعيش بأحاسيسه وعواطفه في بيئة أخرى، وكذلك تقنيات الجينوم البشري وما اقترح من معضلات أخلاقية إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مئالات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من يعلم الخبء في السموات والأرض.

فالمجامع الفقهية أمام التلقيح الصناعي والرحم المستعارة والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الأزواج وتغيير الجنس في حيرة. بله القضايا الاقتصادية وتحديات المضاربات وتسليع النقود وتسيل العروض وسرعة المداولات والرواج في الأسواق وإبرام الصفقات في المراكز العالمية للاقتصاد التي لا تحترم الوضوح “الشفافية” التي تدرأ خطر الغرر وغائلة الجهالة.

أما في المجال الاجتماعي فقد أصبحت الأسرة تهب عليها رياح التغيير من جنوب وشمأل جعلتها كدار حب أمرئ القيس:

فَتُوْضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُها       لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وشَمْألِ

والواقع يفرض نفسه في قضايا شرعية بلا استئذان؛ كإلغاء الرق في العالم، فإنه أسقط أحد الخيارات في الكفارات، وأحيانا لا يبقى إلا خيار واحد، وعند تعذره يعرو المحل عن كفارة، والاجتهاد مطلوب، ومشكلة بداية أشهر العبادة ونهايتها كل سنة، وإن كنت ممن يقول: بتقديم الرؤية مع التأكيد على العدالة والاستكثار من الشهود، والواقع فرض قبول الناس بإرسال المركبات إلى الكواكب بعد أن كان البعض يعتبره كفرا انطلاقاً من مفهوم الصعود إلى السماء المذكور في نواقض الإيمان.

والواقع فرض قبول الصلاة في الطائرة، وتغيير مفهوم السجود على الأرض أو ما اتصل بها، والواقع ألغى الخلاف في شرب القهوة بعد أن كان بعض علمائنا كميارة الفاسي يقول في التكميل: والقهوة التي بمصر تعمل تجري على الدخان فيما نقلوا وحكمه التحريم لا لذاته  …………………

والواقع فرض على المجامع الفقهية الاعتراف بالموت الدماغي بعد أن كان الفقهاء مطبقون على أن الموت هو موت القلب، والواقع جعل الحامل لم تعد بعد ستة أشهر مريضة مرضا مخوفا.

إن كثيراً من القضايا الذي ينظر إليها من خلال الأدلة الفرعية بنظر جزئي، وهي قضايا تتعلق بكليِّ الأمة؛ كمسألة جهاد الطلب، وتصنيف الدار والعلاقات الدولية المالية، التي لا تحترم أحياناً من ماهية العقد إلا ركن التراضي الذي حصر فيه إمام الحرمين صحة العقد في حال تصور خلو العصر والقطر عن علم.

فالواقع الجديد يقترح صورة مغايرة للصورة التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، ومعنى قولنا الجزئية أن الأحكام الكلية التي يستند إليها التنزيل تشمل الصورة القديمة والحديثة.

فجهاد الطلب كان في وقت لا توجد فيه معاهدات دولية ولا حدود إلا تلك الثابتة بقوة السلاح  أو بعد المسافة ولم تكن فيه إمكانية إيصال الدعوة لأكثر الأقاليم دون إسناد حربي، ولم تكن أسلحة نووية فتاكة يمكن أن تقضي على الجنس البشري.

ذلك هو الواقع اليوم، والواقع القديم مختلفٌ،  الحكم الكلي يحكم على الجزئي وذلك دون مناقشة أصل وجوب جهاد الطلب اختصارا على الباحث.

الدار: كان كل قطر يدين أهله بديانة معينة لا يسمحون للغرباء أن يكونوا بينهم ولا أن يمارسوا ديانتهم؛ الواقع اليوم مختلف لا يوجد قطر إلا وفيه مختلف الديانات، فالأقليات لم تكن لها حقوق والمعاهدات لم تكن موجودة؛ الواقع اليوم مختلفٌ. الحكم الكلي يحكم على الجزئي.

في الربع الأخير من القرن العشرين الدولةُ المتدخلةُ حلَّت محلها الدولةُ -في كل مكانا تقريبا- الباحثةُ عن جذب الاستثمارات الأجنبية وتسهيل الإصدارات الوطنية، وحل محلها أيضا الشركات التي تندمج تصاعديا في مجموعات عابرة للجنسيات والقارات تعتمد على تقنيات جديدة ورياضية بإمكانها أن تدر أرباحاً كبيرة من الحركة المعلوماتية في الوقت الحقيقي.

إن هذه التحولات السريعة كانت نتيجة لتدويل الإنتاج والمبادلات التي ستفضي إلى العولمة الاقتصادية؛ مما أدى إلى تفكك المجتمعات المعاصرة.

نحتاج اليوم إلى نظر كلي يلاحظ الواقع المستجد ؛ لتركيب الدليل مع تفاصيله، وترتيب الأحكام على مقتضياته، كما أنّ واقع الحريات في عالم أصبحت فيه السيادة شبه ناقصة، والمعاهدات والمواثيق الدولية شبه حاكمة يمثل واقعاً مؤثرا في مسألة الحدود الشرعية وبخاصة في قضايا المعتقد وجرائم الأخلاق ومسألة التعددية الدينية.

إن حالة العولمة لا يبدو أنها حالة عابرة؛ بل هي حضور للآخر الذي هو في ظاهره اختياري وفي حقيقته إجباري، والدول الصغيرة فيها لا تتمتع بسيادة كاملة مهما كان الوضع القانوني لها، إنه واقع يؤثر في النظم والقوانين ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل.

إن فهم الواقع هو الوسيلة: لـتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو وجود الواقع، أو الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة.

هذا الوجود الخارجي مركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها ورخائها وقترها وضروراتها وحاجاتها وتطور سيرورتها، فإطلاق الأحكام مقيد بقيودها، وعمومها مخصوص بخصائصها، ولذلك كان خطاب الوضع شروطاً وأسباباً وموانع، رخصا وعزائم، ناظماً للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه: طلب إيقاع، وطلب امتناع، وإباحة، وبين الواقع بسلاسته ورخائه وإكراهاته.

إن التنزيل والتطبيق هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، في جدلية بين الواقع وبين الدليل الشرعي، تدقِّق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده.

وهكذا فإن التحقق من مناط حكم الشرع موزوناً بميزان المصالح والمفاسد معتبرة بمعيار الشرع الكلي والجزئي ومعيار العقل الفاحص في كل قضية، هو موضوع ورقتنا هذه.

للفت الانتباه إلى أهميته والإمكان المتاح من خلاله لمراجعة كثير من الأحكام التي لو تركت فيها عمومات النصوص على عمومها، ومطلقاتها على إطلاقها، دون تخصيص في الأولى وتقييد في الثانية، دون مراعاة للواقع، لذهبت مصالح معتبرة بكلي الشرع مقدمة على الجزئي في الرتبة والوضع؛ وبهذا ندرك قول القرافي: الجمود على المنقولات أبداً ضلال وإضلال” . وقول الشاطبي بأن العالم الرباني هو الذي ينظر في كل حالة ليقدم الحكم المناسب . وقول ابن القيم بأن إطلاق حكم واحد على كل الحالات هو بمنزلة الطبيب الذي يعطي دواء واحدا لكل المرضى دون تمييز.

ولهذا تعامل الأصوليون مع قضية الواقع باعتباره مقدمة لتحقيق المناط ؛ فالواقع بمنزلة التصور وتحقيقه وتنزيل الحكم عليه من خلال مقدمتين فيصير بمنزلة التصديق وشرح الواقع، ولو اشتمل على المركبات فإنه لا يعدو أن يكون وسيلة للتصور؛ ولهذا سماه المناطقة بالقول الشارح، قال في السلم: وَما إِلى تَصَوُّرٍ بِهِ وُصِلْ .. يُدْعى بِقَوْلٍ شَارِحٍ فَلْتَبْتَهِلْ

“وبالمعرِّف يُسمى فاعرف    والكليـــــات مبدأ المعــــــــــرف”

وَمَا لِتَصْدِيقٍ بِهِ تُوُصِّلا  …  بِحُجَّةٍ يُعْرَفُ عِنْدَ العُقَــــــــلا

“وبالقياس ومبادي الحجج    هي القضايا وهي بعد ستجى”

فإذا انتقلنا إلى التصديق كان تحقيق المناط؛ لأنه انطباقٌ وتطابقٌ بين الواقع وبين الحكم فينزل عليه . فتحقيق المناط يقول عنه الغزالي بأنه: تسعة أعشار النظر الفقهي.

وسائل تحقيق المناط

وسائل تحقيق المناط التي من خلالها نتعرف على الواقع لتنزيل الأحكام عليه، وهي في حقيقتها شارحة للواقع، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق، وقد أسماها أبو حامد الغزالي الموازين الخمسة وهي: (اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية)، ويمكن أن نضيف إليها ميزان المصالح والمفاسد، والنظر في المئالات، واعتبار الحاجات في إباحة الممنوعات كاعتبار الضرورات في إباحة المحظورات، كما يقول ابن العربي، إن هذه المسالك تشرح الواقع وتفسره بمنزلة القول الشارح عند المناطقة.

وإذا اعتبرنا المصالح والمفاسد من حيث إدراكها بالعقل داخلة في العقلية، واعتبرنا الاكتشافات العلمية راجعة إلى الطبيعية وهي العلوم الطبيعة أو طبيعة الأشياء، كان هذا الميزان حاوياً بل حاصراً لأدوات تحقيق المناط، فالمثالُ بالربويات في المطعومات جنساً ونوعاً، إنما كان طعاماً لغة تحقق فيه مناط الربا عند المعلل بالطعمية -كما يقول الغزالي- وما كان تمرا لغة يكون نوعاً واحدا لا يجوز بيعه في مثله تفاضلا، كما يقول ابن قدامة، وبالحس والطبيعة معا كمشاهدة العلامات البيولوجية الفاصلة بين الصغر المانع للزوم أوامر الشرع والتي أشار إليها الشارع بقوله: والصغير حتى يحتلم، والبلوغ المشار إليه بالحديث السابق، وبقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ .

وبالعرفُ محققٌ للمناط في حالة سيولة اللفظ لعدم وجود حد من الوضع وتحديد من الشرع، وهذا في ألفاظ الشارع التي تركت مبهمة كالإنفاق على الزوجات والأقارب ذوي الإملاق، وكوصف الفقر الموجب للزكاة، وكذلك فإن العرف اللغوي في بيئة نزول الوحي قد يكون تحقيقاً للمناط في حالة وضوح المعنى وذلك لقصر اللفظ على بعض أفراده،كما يراه أبو حنيفة في حمل حديث “الطعام بالطعام” على البر خاصة؛ لأن ذلك الاستعمال العرفي لقريش.

إن هذه الوسائل ليست على وزان واحد، ولا حدٍّ متحد في مرونة التناول ودرجة المعلومة وحصول العلم وسهولة الإدراك:

فمنها: ما تسميته تحقيقاً للمناط فيه نوع من التجوز؛ لأن التحقيقَ ضربٌ من المعاناة،  ولا عنتَ في إدراك المحسوسات، فما كان مسلكُه الحسُّ ووسيلتُه الذوق أو اللمس كتغير الماء، وكمسألة النبيذ الذي ذهب ثلثاه بالطبخ لا يحتاج إلى تعمُّل، ومنها: ما يحتاج معرفة اللغة كمدلولات الألفاظ .

ومنها ما يحتاج إلى تجربة وخبرة كما في قضايا الأعراف والعوائد بين أن تكون عامة أو خاصة، أو العرف القولي في كنايات الطلاق والأيمان، والعرف العملي في المعاطاة في التجارة.

أما المسالك العقلية في قياس درجات المصالح والمفاسد المؤثرة في العقود الجلية، وقياس الحاجات المنزَّلة منزلة الضرورات لإباحة المحظورات ؛ فهذا النوع من مسالك تحقيق المناط مسلكه عسير، ومسربه دقيق في الفهم، لا يدركه كل متعاط ولو كان فقيهاً في الأحكام الشرعية، ما لم يكن كأبي حنيفة ممارساً للتجارة.

ولهذا أحيط هذا النوع بوسائل ضبط تجلت في إدراجه في دليل الاستحسان ودليل الاستصلاح ودليل الذرائع، إذ هي في حقيقتها ترجع في أغلب فروعها إلى تحقيق المناط؛ إلا أن لكل واحد منها مميزات هي في حقيقتها ضابطة.

وفي الجملة فإن الأجناس المشككة، والأوصاف المعنوية عند ما تكون محققة للمناط يدق فهمها، ويصعب نظمها، ويصبح غالب الظن أغلب مناطها، ويعسر على المستنبط الاستقاء من نباطها، وذلك كالمصلحة، والحاجة، والمشقة، والغرر، والجهالة، والذريعة، والمئال، فيكون الأمر فيها بين حد أعلى معتبر، وحد أسفل عديم الأثر، ووسط محل تجاذب، والآراء فيه موضع تضارب؛ فيختلف الفقهاء، ويفتقر إلى الخبراء.

وقد قال أبو حامد: إنه ما من لفظ إلا وفيه تقابل بين طرفين وثالث، ما ليس داخلا فيه قطعاً، وما هو داخل فيه قطعاً، وما يتمارى في دخوله وخروجه، وضرب مثلا بالطعام في الربويات.

ولهذا فإن تحقيق المناط في معظم القضايا -سواء كان في القضايا الاجتماعية أو المشكلات الاقتصادية أو الطبية- جدير بأن يكون ناشئاً عن جهد جماعي، ومنبثقاً عن اجتهاد مجمعي، إذا كانت تلك هي الوسائل فهي تحتاج إلى خبراء ومختصين بملاحظتها لكنها تحتاج إلى جهة مؤهلة لتنزيل الحكم الشرعي عليها.

أما في شأن الأقليات

فإن تحقيق المناط المطلوب للتأثير في الحكم – فبالإضافة إلى معرفة الواقع الذي أشرنا إليه وهو واقع المجتمع الذي يعيشون فيه ونظمه وقوانينه ومدى مرونتها وصلابتها وفلسفتها وخلفياتها يكون التعامل معه فإنَّ واقعَ الأقلية من ضعف وقوة وفقر وثراء وتعلم وجهل وانسجام وخصام ولا سيما بالنسبة لأقلية حديثة النشأة كوجود حقيقي منذ مائة سنة مهمشة في الغالب مع تفاوت -الأحكام هنا نسبية- فقيرة تعاني نوعا من التمييز وحملات إعلامية مؤذية وغير موضوعية بالإضافة إلى أن بعض أفرادها ارتكبوا أعمالا إجرامية خارجة على القانون وعن الدين.

إن واقعها يبحث عن أحكام استثنائية لأوضاع استثنائية ؛ فما هي الأصول والقواعد الكلية لوزن المشقات والمصالح والمفاسد في عرضها على سلم الأحكام ودرجات الطلب من خلال المقاصد والقواعد الضابطة والناظمة للعلاقة بين النصوص والقواعد والمقاصد؟

يمكن أن نشير إلى جملة قواعد على سبيل المثال لا الحصر يحقق المناط من خلالها، وبخاصة في أوضاع الأقليات وهي:

قاعدة الضرورات وهي التي تبيح المحرمات وهي المرتبة العليا من المشقات، وهي الهلاك أو مقاربته، -حسب عبارة السيوطي- وهي الخوف على النفس من الهلاك أو من مرض مخوف أو زيادته أو طول مدته. أو انقطاع عن الرفقة أو خوف ضعف عن مشي.. إلى آخره –كما في مغني المحتاج- وهي حفظ النفوس من الهلاك أو شدة الضرر -الدردير في الشرح الصغير- زاد الزرقاني: خوف الهلاك علماً أو ظناً. الجصاص: الخوف على النفس أو بعض الأعضاء.

هذه الضرورة شخصية خاصة بالنفس لا تثبت حكماً في الجنس وتتحقق بقول الأطباء وغيرهم من أهل الخبرة وهي عامة في كل مكان تبيح العلاج بالمحرمات على اختلاف بين العلماء في تأويل حديث: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها”. وهو جائز فيما يظهر إذا لم يوجد غيره لعموم ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ .

قاعدة الحاجة وهذه أدق لأنها مشقة وسطى، وهي في عمومها تنزل منزلة الضرورة في حق آحاد الناس، كما يقول إمام الحرمين، وشرحَها بقوله: في المعنى الأول: والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة، ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره، ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة للشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال آحاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد، وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس، وهذا ما يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن.

وسلك تلميذه أبو حامد الغزالي مسلكه في كتابه ” شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ” حيث قال في معرض كلامه عن الضرورة الذي سنعود إليه في محله: والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد.

وقفا أثرَ الغزالي تلميذُه أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال في كتابه القبس “القاعدة السابعة”: اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرّم”.  وبعد أن ضرب مثلاً لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل. أضاف: ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس والعمل بالحرز والتخمين في تقدير المالين الربويين وتأخير القابض إن قلنا أنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل.

وهذه من أصعب قواعد تحقيق المناط، أولا: لأن تحديد طبيعة الحاجة والبدائل التي يلجأ إليها المجتمع تحتاج إلى بحث وربما إلى عملية إحصائية. ثانياً: لأن المحرمات التي تبيحها غير المحرمات التي تبيحها الضرورة . ولهذا قال الشافعي: وليس يحل بالحاجة محرّم إلاّ في الضرورات.

فما هي المحرمات التي تبيحها الحاجة؟ إنها تبيح المحرمات المجملة كالغرر، قال خليل: واغتفر غرر يسير لم يقصد للحاجة”.

الحاجة تبيح عقودا فيها رفق ومعروف .

الحاجة تبيح المختلف فيه .

الحاجة تبيح محرمات الوسائل دون محرمات المقاصد. – يراجع في “صناعة الفتوى”-

المصلحة: …

عموم البلوى: …

عسر الاحتراز: …

المئالات: وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار، ونصُّ الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة.

التعاون على الخير على أساس المواطنة الصالحة انطلاقا من: الآية الكريمة ﴿وتعاونوا على البر والتقوى﴾ ومن حلف الفضول، ومن وثيقة المدينة، ومن حديث فديك، والهجرة إلى الحبشة المسيحية، وعمل النبي يوسف عليه السلام مع ملك مصر، وإخباره عليه الصلاة والسلام إننا سنكون في حلف مع الروم لقتال عدو من ورائنا في آخر الزمان، وإذا كانوا سيغدرون فإن الذم ليس موجها لأصل التحالف ولكن للغدر اللاحق.

قاعدة أن الأصل في الأشياء والعوائد الإباحة، سوى ما نُهي عنه، والنص التالي من الزرقاني يجليه:

ابن عرفة: استحب ابن رشد تلثم المرابطين لأنه زيهم بكسر الزاي والياء المشددة به عرفوا وهم حماة الدين، ويستحب تركه في الصلاة لغيرهم ومن صلى به منهم فلا حرج. اهـ- قال بعضهم نهى النبي عليه الصلاة والسلام العرب عن التشبه بالعجم، ولم يأت أنه نهي وفداً قدم عليه من العجم عن زيهم وندبهم إلى زي العرب ولذا قال العز بن عبد السلام القائل فيه ابن عرفة لا ينعقد للمسلمين إجماع بدون زي الفقهاء إذا صار شعارا لهم ينبغي أن يلتزموه وليس كل ما فعلته الجاهلية منهيا عن ملابسته بل ما خالف فيه شرعنا بالنهي عنه، قال بعضهم: ومن هذا المعنى –أي ما وافق الجاهلية ولم يرد نهي شرعنا عنه- وصلة الناس أرحامهم في المباحات في النيروز والمهرجان”. بناء على أصل الإباحة.

قاعدة التدرج التي عبر عنها عمر بن عبد العزيز بقوله: -لما استعجله ابنه في التطبيق-: أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة.

كيف نصوغ من كل ذلك كليا للتعايش الإنساني المتصالح المتسامح في عصر العولمة -الذي من إيجابياته المواثيق الدولية لأول مرة في التاريخ ينخرط فيها سكان المعمور في نظام حقوق الإنسان واشتباك المصالح الاقتصادية فيما يسمى الاعتماد المتبادل،- إن المراد من هذه القواعد التي لا تختص بالأقليات لأنها قواعد عامة في الزمان والمكان مخصصة لعموم الأحكام مقيدة لمطلقاتها إلا أن حالة الأقليات تدعو إلى بحث هذا التخصيص بناء على خصوصيتها؛ ولهذا كانت هذه القواعد ألصق بحالها وأقرب إلى مجالها لتحقيق مناط أحكامها وضبط مسار تنزيل الأحكام في إقدامها وإحجامها.

فمن يحقق المناط ؟

فإذا كان تحقيق المناط لا يختص بالمجتهد المطلق، وليس كأخويه: تخريج المناط وتنقيح المناط لارتباطهما بتصور العلة ثبوتاً في الأصل وإثباتا في الفرع، وأما هو فعلاقته بالتصديق وهو بالضرورة النظر في تعيين المحل -حسب عبارة الشاطبي- لتنزيل الحكم عليه، فالعلة قائمة، والحكم جاهز ،لكنه معلق حتى يتعين محل قابل.

ولهذا كان خطاب الوضع بالمرصاد لخطاب التكليف ليقيد إطلاقه ويخصص عمومه، فقيام الأسباب لا يكفي دون انتفاء الموانع، والمعادلة هي وجود السبب وعدم المانع، ولن تنتج صحة أو إجزاءً دون توفير شروط، سواء كانت للوجوب مراعية للأسباب إيجاباً وللموانع سلباً أو شروط أداء وصحة، فالعلاقة بين العلة والمعلولات في الشرعية غير ثابتة التلازم إلا بمقدار، فاللزوم الشرعي ليس كاللزوم العقلي، فقد يبطل الأصل ويثبت الفرع؛ كثبوت الإرث دون ثبوت النسب.

والرخصة بمعناها الاصطلاحي تثبت تجاوزا عن النهي، وإعفاء من الطلب، وعلة التحريم قائمة، ومقتضى الوجوب ماثل، فلولا ذلك ما صح صوم المريض ولا المسافر، والرخصة حكم غيـِّر إلى سهولة لقيام عذر مع بقاء العلة الأصلية، ولكن الأسباب والموانع منها الخفي، ومنها الجلي، ومنها الظاهر، ومنها الغائر.

ولقد أجاب الشاطبي عن ذلك بأن من يحقق المناط هو العالم الرباني العاقل الحكيم الذي ينظر في كل حالة.

ولكن هذا الجواب ليس على إطلاقه.

وللخطاب الشرعي مستويات ومراتب، فمنه ما هو موجه إلى الفرد في خاصة نفسه “استفت قلبك ولو أفتوك”؛ كما شرح الشاطبي في “الاعتصام”: ]ذَلِك لِمَنْ خَشيَ الْعَنَت مِنكُمْ[ من خاف المشقة أو الوقوع في الفاحشة إذا لم يتزوج الأمة، فهذا صاحب القضية والخطاب موجه إليه، فهو الذي يحقق المناط بتقدير حالته التي هو أعلم بها.

لكن هناك خطاباً موجها إلى الجماعة، لكنه يقصد به الفرد ]فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً[ فمن يحقق المناط هو الذي يريد أن يتزوج أكثر من واحدة. كما أنه بإمكان الجماعة ممثلة في الجهات الولائية إذا لاحظت حيفاً أو تحققت من مفسدة غير مرجوحة أن تحقق المناط.

لكن الخطاب قد يكون موجهاً إلى الجهة الولائية ممثلة في القضاة ]وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا[ فبعث الحكمين يرجع إلى الجهة الولائية، فالجهة الولائية هي التي تحقق المناط دون غيرها؛ لأن الأمر معقد، وقد تكون فيه أسباب خفية تفتقر إلى تدقيق لتنزيل حكم الفراق أو ترتيب شمل الوفاق.

إلا أن الخطاب قد يكون موجهاً للسلطان الأكبر ]وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ[ فالذي ينبذ العهود ويعلن الحروب ويوقع الهدنة والسلام ويصدر حكماً بناء على التوقع المشار إليه بـــ”تخافن”؛ لأن الخوف هو توقع مكروه في المستقبل فالذي يحقق المناط للأمة هنا هو الجهة السلطانية التي تستوعب الأسباب والدوافع الخفية والموانع والشروط الغامضة، فتحقيق المناط لا يتعلق بالأفراد؛ ولهذا طلب بنو إسرائيل من نبيهم -عندما كتب عليهم القتال- أن يعين ملكاً لأنه بدون سلطان الملك تكون الحروب فوضى ]إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[ لأن نبيهم لم يكن يمارس وظائف الملك.

وهنا أيضا توجد مشكلة قيام بعض الطوائف بإعلان جهاد عالمي تضررت منه الأمة الإسلامية والإنسانية، غير ملتزمة بالضوابط الشرعية ولا بتحقيق المناط.

وهكذا فإن جهة تحقيق المناط تختلف باختلاف الجهات المقصودة بالخطاب، فيقول إمام الحرمين في “الغياثي” –وهو يتحدث عن الحدود- أنها لا يتولاها إلا الخليفة أو نائبه، وأما التعازير فإنها كما يقول الشافعي طبقاً لإمام الحرمين- موكولة إلى تقدير الإمام أو نائبه فلو شاء أنزلها ولو شاء رفعها بناء على المصلحة.

فمن يحقق المناط هنا؟ بالتأكيد هو السلطان الذي يمكن أن يكون لديه من الأسباب الخفية ما ليس عند غيره.

ومعنى الخفاء هنا أن العامة قد لا يتوقعون النتائج التي تتوقعها الجهة السلطانية بما لديها من معلومات وتقارير، فعمر عليه رضوان الله عندما أوقف حد السرقة عام الرمادة كان يرى أن الشدة التي فيها الناس لا تتناسب مع العقوبة، فدرأ الحدود بالشبهات، وكذلك عندما أوقف نفي مرتكب الفاحشة كان يتوقع خروج المنفي عن الإسلام بالكلية لمشاهدته حالة من هذا النوع، ولما نمى لعلمه من ذلك. وهذا ما أسميه بالموانع الخفية، وكذلك مسألة الحاجات العامة والمصالح فإنها -مع أنها تمس حياة الأفراد المعيشية- لا يمكن أن يوكل إلى فرد من العامة تحقيق المناط فيها.

تأصيل تأثير الواقع في الأحكام

لولا حدثان قومك بكفر – لا يتحدَّث النَّاس أنَّ محمدًا يقتل أصحابه  – أ ينقص الرطب إذا يبس؟

– هل لا سألوا إذ جهلوا فإنما دواء العي السؤال –للذي أفتى بالاغتسال-

وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر – في قصة حاطب-

وفي فقه الصحابة

يقول إمام الحرمين إنهم واجهوا قضايا مستجدة، وكانت لديهم نصوص محدودة وأحكام محصورة معدودة، مع ذلك أفتوا في تلك القضايا وما خرجوا عن حدود الشريعة (الغياثي)

ولعل الأمثلة التالية تثير ذلك وتشير إلى ما هنالك:

في التاريخ الإسلامي:

 1- قرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قتال مانعي الزكاة، وكان ذلك اجتهاداً منه. ولم يكن بعض الصحابة بما فيهم أقرب المقربين إليه يؤيدون وجهة نظره، ولكنهم أطاعوه؛ لأنهم – كما يرى إمام الحرمين- يرجعون إلى أصل قطعي هو وجوب طاعة الإمام، وأن قرار القتال كان اجتهادياً ، وجمع المصحف.

2- في أيام عمر رضي الله عنه نزلت مسألة الأراضي الخراجية، وعقدت مجالس الشورى وكان رأي الإمام فيها راجحاً، وخالفه بعضهم  في الرأي إلا أنه لم ينزع يد الطاعة. وممن خالفه عبد الرحمن بن عوف وبلال بن رباح وهما من كبار الصحابة اعتمادا على ظاهر النص في توزيع الغنائم في سورة الأنفال]وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ[

ومسألة تنزيل الديوان منزلة العاقلة في الديات، وتعطيل سهم المؤلفة قلوبهم، وإيقاف حد السرقة عام الرمادة، وإيقاف النفي بناء  على مئالات مظنونة، وكل ذلك بناء على واقع كان بمنزلة المخصص للنصوص والمقيد لإطلاقها.

3- في أيام الخليفة الثالث سيدنا عثمان رضي الله عنه حج بالمسلمين فصلى الصلاة الرباعية كاملة دون قصر، وقد كان النبيr والخليفتان من بعده يقصرون الصلاة في الحج فهي سنة متواترة، فأنكر بعض الناس ومنهم ابن مسعود ولكنه لما وصل إلى مكة أتم الصلاة مع الخليفة، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر.

وكان عثمان رضي الله عنه ينزل الحكم على وضع فيه عناصر جديدة هي كثرة الداخلين الجدد في الإسلام، ويخاف أن يظنوا أن الصلاة الرباعية أصبحت مقصورة أبدا فقطع الشك باليقين تنزيلا لا نسخاً.

وأمر بالتقاط ضالة الإبل، وإحداث الأذان الأول يوم الجمعة، وورث المبتوتة في المرض من مطلقها؛ في قضية عبد الرحمن – تماضر الكلبية فكان طلقها في مرضه-، كل ذلك مراعاة لتغير الزمان وواقع الإنسان.

4- وفي أيام الخليفة الرابع سيدنا علي رضي الله عنه – وقد قل الفقه وعظم الخطب- بعد اغتيال الخليفة الثالث قال علي: لا يقتص من القاتل حتى يجتمع المسلمون على إمام، كما ذكر القرطبي وغيره.

وعلق القرطبي بقوله: ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.

ولكن بعض الناس لم يطع الإمام المبايع فبدلا من بيعته شنوا الحرب عليه فاعتبر ذلك خروجاً عليه. ولما قبل أمير المؤمنين علي التحكيم ثار الخوارج الذين لا فقه لهم، وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال رضوان الله عليه: كلمة حق أريد بها باطل. وكذلك ضمن الصناع، وجادل الخوارج.

وبالجملة فكل قضايا الصحابة المشتهرة التي تخالف ظاهرا من كتاب أو سنة أو قاعدة أو لم يسبق لها اعتبار بنص، فهي من باب تحقيق المناط في الواقع بناء على مصلحة تجددت أو مفسدة تبدت، سواء وضعناها تحت عنوان الاستحسان أو الاستصلاح كجمع المصحف، وتولية عمر من طرف الصديق.

وقد قال عمر بن عبد العزيز كلمة اتخذ منها الفقهاء والأمراء نبراساً في التعامل مع واقع الناس في تقلبه : تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور”. وبخاصة الإمام مالكا رحمه الله تعالى في مسائل التعزيرات على الرغم من اللوم الذي وجهه أبو المعالي لمذهب مالك.

وهكذا فإن قضايا الأعيان التي لا عموم لها -كما يسميها المالكية- يمكن اعتبارها تحقيقا للمناط لواقع خاص كرضاع الكبير، ومن قتل قتيلا فله سلبه، شهادة خزيمة.

وهكذا توسع أصحاب المذاهب فكان كل فريق يواجه عصره بما يناسبه، وكأنهم يرددون مع الأحناف: إن الاختلاف اختلاف زمان، وليس اختلاف حجة وبرهان”، فأجاز الأحناف الأجرة على تعليم القرآن، بعد أن كان ممنوعا في المذهب، وأجاز الحنابلة بيع المصحف وشراءه بعد أن كان الإمام يمنع الأول ويجيز الثاني استحساناً.

وهكذا خصصوا استحسانا عمومات السنة كتخصيص الاستصناع وهو بيع من النهي عن بيع ما ليس عنده، حسب عبارة الذخيرة البرهانية.

إن مقتضيات الواقع قد تقلب الحكم رأسا على عقب، فتجعل المحظور المتفق عليه مباحا، وتجعل المباح محظورا؛ طبقا لدرجات الضرورات والمصالح والمفاسد، إلا أن الواقع قد يرجح من خلاف، فيرفع ضعيف الأقوال إلى درجة الاعتماد بشروط خمسة عند المالكية.

وقال الحنفية إن العرف الطارئ بعد النص يصار إليه، بناء على أن النص معلول بالعرف، في مسألة معيار صرف النقود.

وكل ذلك بناء على واقع كان بمنزلة المخصص للنصوص والمقيد لإطلاقها.

مجال الأقليات المسلمة في دول غير إسلامية:

إنه موضوع ينبغي أن يحقق فيه المناط لإيجاد فضاء من السعة، ومناخ من التيسير، قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية “إثنية” ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية، إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي؛ لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية، وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.

لقد شهد التاريخ مآسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية، ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات قد عاشها العالم وما زال يعيشها في القرن الواحد والعشرين، إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم، حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.

وفي فترة من التاريخ  كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها، وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر أربعة عشر قرناً محمية بحماية الإسلام، كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.

ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات، كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.

إن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.

ولهذا احتاجت إلى فقه خاص، ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته: الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة، والتي تمثل ثراء وسعة.

فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع، وهي بحاجة إلى تحقيق مناط بناء على المكان والزمان وتغيرات الأحوال.

لماذا فقه الأقليات: إن فقه الأقليات يبحث عن إيجاد مسطرة لسلوك الأقليات فهو عبارة عن واجبات الأقلية في ثلاثة اتجاهات:

أولاً: اتجاه المحافظة على ممارسة إيمانها ودينها ليس على مستوى الفرد فحسب بل أيضا على مستوى المجموعة.

ثانياً: فقه الأقليات يرمى إلى تذكير الأقلية بواجباتها تجاه المجموعات الأخرى التي يجب أن تتواصل معها بحيث لا تصبح ديانة الأقلية جدار عزل وفصل بل جسر تواصل ووصل بمعنى أنه يفعل المشترك الإنساني مع غيرهم من المجموعات التي لا تشاطرهم المعتقد من خلال تفعيل القيم الدينية التي يشتمل عليها الدين من دعوة إلى الرحمة والمحبة والتعارف بين البشرية واحترام حقوق الإنسان في نفسه ودينه وممتلكاته.

وبالتالي لتكشف عن منجم حسن السلوك الذي يدعو إليه الدين {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} تجنب العنف اللفظي “وخالق الناس بخلق حسن”.

فقه الأقليات يقدم لك عملياً نظام حسن سلوك من موروث الفقه الإسلامي.

إن فقه الأقليات يعلمك كيف تتعايش مع الناس في بلاد الله كما في حديث المسند عنه r:”البِلادُ بِلاَدُ اللهِ والعِبَادُ عِبَادُ اللهِ فَحَيْثُمَا أَصَبْتَ خَيْراً فَأَقِمْ.”

إن الدين كالطاقة قد تستعمل لأغراض سليمة تجلب الإزدهار والرفاهية والفرحة والبهجة فتخرج المياه وتغرس الأشجار التي تشدو عليها الأطيار وقد تتحول إلى قنابل مدمرة تجلب الخراب وتترك الديار يباباً.

فقه الأقليات يُعلمنا العمل بديننا والتعامل بواسطته ومن خلاله ليكون برداً وسلاماً ونسيماً عليلاً فهو يعلمنا أن الجهاد من الأحكام السلطانية لا يعلنه الأفراد ولا الجماعات وإنما تعلنه الحكومات وأن جهاد المسلمين في دار الأقليات هو تحسين صورة دينهم وإنجاح مؤسساتهم واستشاراتهم وتربية أولادهم دينياً ودنيوياً.

ثالثاً: فقه الأقليات يسهل الحياة الدينية وييسرها فهو يعلم المسلم أن له فسحة في دينه ويسراً في أمره.

إن الأقلية أمام ثلاثة مواقف سلوكية :

الانعزال (isolation): يعني أن تعيش الأقلية في معازل ومجمعات.

الاندماج (inteqration) : نعني بها حالة من التفاعل الإيجابي تشير إلى تأثير وتأثر واع بذاته تحتفظ فيها الأقلية بخصائصها وثوابتها وتستعير من الأكثرية مزاياها وإيجابياتها لإيجاد فضاء من القيم المشتركة.

الذوبان (Assimilation) : هو حالة من انحلال الأقلية في الأكثرية وفقدانها لكل خصائصها.

وإن الوسطية تدعو إلى الموقف الثاني.

لهذا فإن فقه الأقليات له مقاصد وقواعد :

أما المقاصد فهي:

أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد و الجماعة.

ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.

ثالثاً: التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.

رابعاً: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.

أما القواعد فإنها لا تعنى إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعنى التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.

فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة : الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولاً: إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة، “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد”، كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين، وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.

ثانياً:  يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.

ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية، وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في غير أرض المسلمين أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي :”لا تقطع الأيدي في السفر”.

فانطلاقا من هذه الأسس التي ينبغي أن نتوسع فيها ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج؛ لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة  فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة.

واجتهاد في تحقيق المناط –الذي نحن بصدده- وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي؛ لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون، بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.

أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات إما لضعف المستند – وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.

فلهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.

من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما، بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم ولهذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.

والأقلية تحتاج لاستثمار المورث واستعمال أدوات الاجتهاد لترتيب مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس وفي التعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.

فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى مستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين إلى علاقة غير قائمة على أسس من البر والمودة والرحمة التي تورث السكينة.

أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطاول العقيدة التي نعنى بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.

ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.

كما تطاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.

كما تطاول العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي.  وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع ممكناً أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله] قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ[ ]وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ[  ]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[

كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.

وفي الختام:

لقد حاولنا أثناء كلمتنا هذه أن نتحقق بمقامات تحقيق المناط، وأن نتدرج في مدارج الاستنباط وأن نتجول معكم في مجالات التطبيق للمطابقة بين نصوص الشريعة ومقاصدها – وهي نصوص أزلية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها- مع واقع متقلب، ومتوقع مترقب، في قيمه ومجالاته ومراداته، وواقعٌ كل أمره عجب، متسع الأرجاء، مترامي الأطراف، تجوهرت فيه الأعراض، واستحال فيه إلى الحقيقة كل افتراض، فصدق فيه :

على أنها الأيام قد صرن كلها     عجائب حتى ليس فيها عجائب

حاولنا أن نقدم مقاربة ترجح الكلي على الجزئي بمسالك الاجتهاد بكل أنواعه، وإن كانت قد اصطفت تحقيق المناط إلا أنها لم تغفل أخويه.

مقاربة حاولنا من خلالها أن نرجع الجزئيات على ضوء الكليات باعتبار الكلي يقارع الأزمات.

وهكذا فقد توقفنا في مجال التطبيق:

مع فقه الأقليات على مواطن الضرورات والحاجات حيث تمسك الأكثرية بزمام الحكم وتضيق بخصوصيات الأقليات ذرعا، وربما اشتكت هذه فما تصيخ تلك سمعا، وحاولنا أن نتحدث عن الواقع وجودا حقيقياً كما هو ماثل للعيان، فيتفق أو يختلف معه المتعاطي، ليس خيالياً ولكنه قيم ونظم وأحداث ومعاملات أصبحت الأمة جزءًا منها، ونحاول أن يكون فقهنا حلا لمشكلاته بدلا من أن يكون أحد إشكالاته.

اعتبرنا أن ذلك لن يكون متاحاً إلا عن طريق إحياء الاجتهاد والتجديد في حياة الأمة وسبر أنواع الاجتهاد وطرق الاستنباط، فوجدنا أقربها موردا وأهداها وسيلة ومقصدا هو النوع الثالث من أنواع الاجتهاد الذي لا يختص بالمجتهد دون المقلد، ولا يستبعد نوعي الاجتهاد الآخرين: الاجتهاد في دلالات الألفاظ، والاجتهاد في معقول النصوص بأنواع العلل ومسالك التعليل؛ بل إن تحقيق المناط يشتبك مع نوعي الاجتهاد، وقد اعتبره بعض الأصوليين للوشائج الحميمية والعلاقة الصميمة نوعاً من قياس العلة.

فنحن نحاول من خلال هذا العمل أن نراجع الجزئيات على ضوء الكليات، باعتبار الكلي وحده كفيلا بمقارعة الأزمات.

فقد تبين مما تقدم أن أبا حامد عندما قال: -عن تحقيق المناط- إنه تسعة أعشار النظر الفقهي، كان يعني المفهوم العام لتحقيق المناط الباحث عن حقيقة وواقع؛ لبناء حكم عليه إنشاءً حيث لا نص، أو تخصيص نص أو تقييده، أو العمل بعلته ومفهومه بدلا من منطوقه.

ولا يعني مجرد تحقيق المناط المفسر بأنه إثبات العلة في الفرع لإعطاء حكم له وإن كان المعنى يتسع لكثير من ذلك، فالاستثناء بالاستحسان والإنشاء للأحكام والمصالح والمناسات -سواء كانت في محل القياس الجزئي أو الاستصلاح- تراعي حقائق الواقع لتنزيل الأحكام في الوقائع، كما أن الأعراف في تقلباتها والسياسات في تغلباتها كلها باحثة عن الواقع.

وبعد، فإن التحدي الكبير بالنسبة للأقليات يتمثل في ثلاثة أمور: الانفتاح والمحافظة، الاندماج والتمايز، العمل على أن يكون ذلك شيئا طبيعيا، إن لم يكن ضروريا، إن الماء مركب من(H2O ) ليكون ماء لا بد منهما -إن تمازجهما ضروري-، إن سواد العين وبياضها

ليكون الاختلاف قيمة وليس مشكلة ]وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى[

الإسهام في تخليق المجتمع بإظهاره على فضيلة ومزايا تماسك الأسرة وبناء البيت السعيد في مجتمع يعاني من تفكك الأسرة وعيش الشيوخ في معازل بعيدا عن الدفئ العائلي.

كما أن نظام المعاملات المالية الإسلامي الخالي من الفوائد والاستغلال والغرر والجهالة وبيع المعدوم يمكن أن يُقدم كنموذج للشراكة الحضارية القائمة على البذل المتبادل.

بذل كل جهد لإزالة الصورة النمطية للمسلم المرسومة في المخيال الغربي بناء على عوامل أملتها وسائل إعلام مغرضة تبحث عن السيء لإبرازه، وتمر على الإحسان متغاضية، لكن أهم هذه العوامل التي تهدد الوجود الإسلامي وجود عناصر قليلة من الجالية المسلمة تعتنق فكرا هداما، لا هو مؤصل شرعا ولا عقلا، يحث على القتل والعدوان على الآخرين، وهذا من أكبر التحديات فعلى المسلمين أن يبذلوا أقصى الجهود لإزالة هذا المرض الخبيث من جسد المجتمع المسلم وبكل الوسائل التثقيفية والترشيدية.

إن ذلك من صميم الشرع درءا للمفسدة العامة التي تسببها الأعمال الإجرامية.

 

 

 


– ابن القيم    إعلام الموقعين  1/69

– القرافي                  الفروق           1/176- 177  

– على الفقيه أن يطلع في كل نازلة على ما أصدرته المراكز المعنية وياليته هو نفسه كان يجتهد ضمن فريق من الفقهاء؛ لدقة المعارف وتشعب التخصصات؛ لا نطلب من الفقيه ما يطلبه أوجست كونت من الباحث: أن يستحضر عناصر البحث أي أن يبدأ بجمع الحقائق والملاحظات والمشاهدات، ويحاول أن يرجع العناصر المعقدة إلى عناصر بسيطة أولية بحيث يستطيع أن يدرسها دراسة علمية وصفية تحليلية. ويتطلب هذا المنهج أيضا أن يقف الباحث على تطور الظاهرة واختلافها باختلاف الشعوب والأزمنة، وأن يقارن حالاتها المختلفة وأشكالها المتباينة في كل زمان ومكان ليسهل عليه استنباط القوانين التي تحكم تطورها. ويتطلب هذا المنهج فوق ذلك أن يقف الباحث على الوظائف التي تؤديها الظاهرة وعلى العلاقات التي تربطها بما عداها من الظواهر الأخرى. وهذه الخطوات وما إليها تساعده كثيرا في مرحلة كشف القوانين التي تخضع لها الظواهر في نشأتها وتطورها والوظيفة الاجتماعية التي تحققها.( مصطفى الخشاب: أوجست كونت ص 64)   

– ابن القيم   إعلام الموقعين 4/170

– الشاطبي             الموافقات                   4/89-90 

– القرطبي        الجامع    5/70

ابن تيمية   الفتاوى  19/16

– إمام الحرمين       البرهان      ص924

– الغزالي         شفاء الغليل   ص246

– ابن العربي     القبس          2/790-791

– الشافعي    الأم         3/28  

– الشاطبي        الموافقات    5/177-178

– الزرقاني على المختصر 1/180    

– القرطبي    الجامع لأحكام القرآن   16/318

 

Comments are closed.