مدى حاجة الفقيه إلى اللغة العربيه (1-3)

 

                           بقلم : الإمام العلامة    /عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

مدخل: 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.

هذا العنوان اخترناه لتنبيه المهتدين باستنباط الأحكام من الكتاب والسنة والمتصدرين للقضاء والفتوى وأساتذة الجامعات إلى أهمية إتقان اللغة العربية كإتقان مصطلح الحديث أو أصول الفقه، وهذا المقال أيضاً إهابة بطلبة الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة الذين قد يظن بعضهم أن اللغة العربية هي شأن طلاب كلية اللغة أو كلية الآداب، نهيب بأولئك ليعطوا اللغة العربية من العناية ما تستحق، فهي شرط أساسي ومفتاح ضروري لفتح أبواب الشريعة إذ بدون معرفتها تلتبس عليهم الوجوه وتلتوي بهم السبل، ويحزون في غير مفصل ويفزعون إلى غير معقل، لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(الشعراء: 192-195)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا…} (الشورى: 7)، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3). إلى غير ذلك من الآيات التي تشير إلى عربية القرآن ولا أقول عروبية، فالقرآن هو رباني المبدأ، عالمي التطبيق. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…} (سبأ: 28)، فليس دعوة لأقوام عن أقوام، ولا لزمان عن زمان. قال النبي – صلى الله عليه وسلم – “وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الأحمر والأسود”  [1]، وإنه لشرف للعرب أن تنزل الرسالة الخاتمة بلسانهم وتكون مسؤولية يتحملها مؤمنهم ليبين للناس ما نزل من هذا الدين خير بيان، وحجة على كافرهم حيث بلغته الرسالة أحسن البلاغ، وفي البحث الذي نقدمه بلاغ وبيان لطلبة العلم .

أهمية الخطاب الملفوظ:

وكمقدمة لما نحن بصدده نقول إن الشريعة تتلقَّى عن الشارع من ثلاثة طرق:

الأول: القول، الثاني: الفعل، الثالث: الإقرار[2].

أما القول فهو أن يقول الشارع افعل أو لا تفعل وهو شامل لما دلَّ عليه في محل النطق وهو المنطوق والنص والظاهر. ويشمل دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة على الأصح. وما دلَّ عليه لا في محل النطق وهو المفهوم الذي ينقسم على مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة[3].

أما الفعل، فهو أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم – حيث إنها تكون تارة بياناً للأقوال، فتنزل منزلتها على الصحيح، فإذا كان الفعل بياناً لقول واجب كأفعال الحج كان واجباً وإذا كان بياناً لمندوب كان مندوباً، وإذا كان بياناً لجائز كان جائزاً على خلاف بين الأصوليين في التفاصيل إذا لم يكن بياناً لقول فيختلف في دلالته بين قائل بالوقف لأنه لا صيغة له وبين قائل بدلالته على الإباحة فيما ليس من جنس القرب وعلى الندب فيما هو من جنسها[4].

أما الإقرار فهو أن يقر النبي – صلى الله عليه وسلم – غيره على قول أو فعل بحضرته أو في مكان يبلغه فلم نكره فيدل على الجواز.

مهما يكن من خلاف في الحكم الذي ينبغي أن يوصف به الفعل والإقرار، فإن الفعل والإقرار يرجعان إلى قول ولو لم يكن قول الشارع فهو قول راوٍ لحادثة من الحوادث كقول لراوي وهو عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -:”قضى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالشاهد واليمين”[5]، وكقول عمران بن حصين – رضي الله عنه – فيما يروي أبو داوود:”سهى النبي – صلى الله عليه وسلم – فسجد”[6].

فهذه الحكايات وإن كان الأصوليون قد اختلفوا في درجة وضعها من حيث المدلول هل يعطى لها ما يعطى لكلام الشارع، فقالوا في الأول في مبحث العموم هل يعم أو لا يعم، قالوا في الثاني إن التعقيب بالفاء يدل على العلية في كلام الشارع والراوي.

المراد بهذه المقدمة أن الشريعة ترجع إلى كلام وهذا الكلام جاء بلغة عربية سواء كان لفظاً للشارع أو حكاية لفعله أو تقريره. باعتبار آخر فإن الذي يتعامل مع النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام وتقرير المسائل فإنه يتعامل معها على أساسين لا ثالث لهما، النصوص والمقاصد.

أما الأساس الأول فما يفهم من اللفظ، سواء فهم في محل النطق وهو المنطوق أو فهم لا في محل النطق وهو المفهوم بشقيه على ما أسلفنا وهذا الجانب يرجع فيه حتماً إلى اللغة.

أما الأساس الثاني فهو المقاصد وهي لا تفتقر إلى اللغة افتقار الألفاظ إليها بل ترجع إلى حكمة التشريع ومعقولية النص وإلى جانب المصالح ودرء المفاسد، وهذا الأساس الثاني من ركائز الاجتهاد، وتدخل فيه أدلة كثيرة: القياس، والاستحسان وسد الذرائع، والمصالح المرسلة التي تنبني على المقاصد وهي ثلاثة: الضروري والحاجي والتكميلي أو التحسيني.

ويؤيد ما ذكرنا قول الشاطبي:”الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلابد من اشتراط العلم بالعربية وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها أو مسلمة من صاحب الاجته9اد في النصوص فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية وإنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلاً”. وأطال النفس في الاستشهاد، وقد نبه المعلق الشيخ عبد الله دراز إلى احتياج المقاصد أيضاً للغة العربية ومهما يكن من أمر فإن احتياج الأساس الأول إلى العربية لا خلاف فيه.

وهذه المكانة التي تحتلها اللغة العربية في خطاب الشرع جعلت السلف الصالح يهتم باللغة اهتماماً بالغاً: ويعيرها عناية فائقةً، فيحدِّثنا التاريخ عن الوقائع ذات مغزى عميق ولكنها طريفة في نفس الوقت.

فمن ذلك ما ذكره ابن يعيش في شرحه للمفصل من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – ورد عليه كتاب من أبي موسى الأشعري وكان قاضياً له بالكوفة وقد صُدِّر الكتاب بعبارة:”من أبو موسى إلى أمير المؤمنين”، برفع أبو، وكان لأبي موسى كاتب لا يحسن اللغة حيث لم يضع الياء علامة الجر موضع الواو علامة الرفع في الأسماء الخمسة. فلما ورد الكتاب على أمير المؤمنين عمر لفت انتباهه هذا اللحن ولعله اغتاظ للعواقب التي ستحيق بهذه اللغة إذا استمر الأمر على هذه الوتيرة، فما كان منه غلا أن كتب إلى أبي موسى يأمره بضرب كاتبه سوطاً وأن يعزله عن وظيفة الكتابة[7]. إنه تأديب شديد يلحق بموظف فينهي خدمته، ويمسه بلهيب السوط من إمام ملاء الدنيا عدلاً وبذ الحكام فضلاً، هل انتهكت حرمة الشريعة حتى يغضب عمر؟ هل حدثت بدعة في الدين حتى يرفع السوط؟ حقاً إن تلك المعاني لم تكن غائبة عن ذهن عمر، فعلاقة الشريعة باللغة أكيدة والابتداع قادم إذا لم تستقم الألسنة والأقلام.

ونجد الخليفة الاول ابا بكر الصديق – رضي الله عنه – يأسف للحن العامة وعدم دقتهم في استعمال أوجه الكلام حيث جاء في ربيع الأبرار “أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – مرَّ برجل يقال له أبو لفاقة في يده ثوب فقال له الصديق – رضي الله عنه – أتبيع هذا الثوب؟ فقال لا رحمك الله، فقال الصديق قد قومت ألسنتكم لو تستقيمون، لا تقل هكذا قل لا ورحمك الله”[8]. لأن الفصل أي: ترك الواو يوهم الدعاء عليه لا له. ومقتضى الأدب والذوق السليم وفقه اللغة يوجب إدخال الواو بين النفي الذي يمثل جملة خبرية وبين الدعاء الذي هو جملة إنشائية وردت بصيغة الخبر ويسمى إدخال الواو بينهما وصلاً.

وذلك يدل أيضاً على أن تقويم الألسنة من مهمات خليفة المسلمين. وبلغ اهتمامهم به أن أمير المؤمنين علياً – رضي الله عنه – علم أبا الأسود الدؤلي الاسم والفعل وأبواباً من العربية قائلاً:”انح هذا النحو”، فكان ذلك أصل النحو على قول، وقيل إن أصل النحو يوناني ومنه يوحنا الإسكندراني هكذا يقول الأزهري. قال ابن سيدة فقال:”إنه من انتحاه إذا قصده لأنه انتحاء سَمْت كلام العرب في تصرفه من إعراب وتثنية وجمع وتحقير وتكسير”، وكلام ابن سيدة هو الظاهر عند كثير من النحاة[9].

وتحتفظ ذاكرة كتب الشريعة والفقه بقصص لا تقل طرافة وظرفاً تقع بمحضر الخلفاء، بين الفقهاء والنحاة. فمن ذلك ما وقع بين الكسائي القارىء النحوي وأبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيقة – رحمهما الله – حيث تحدى الكسائي أبا يوسف قائلاً هل لك في مسالة؟ ويستفهم أبو يوسف عن طبيعة المسألة نحو أم فقه؟ فيقول الكسائي فقه فيضحك الخليفة الرشيد حتى يفحص برجله كما تقول الرواية استغراباً لهذه الدعوى. لكن الكسائي يبادر موجهاً خطابه إلى أبي يوسف ما تقول في رجل قال لزوجته: أنت طالق أن دخلت الدار. وفتح الهمزة فقال أبو يوسف تطلق إذا دخلت الدار. فقال الكسائي: – وقد أمكنت رميته فلم تشو – أخطأت قد طلقت امرأته، ذلك لأن الزوج في هذا لم يعلق الطلاق وإنما علله بأن المفتوحة المصدرية كأنه قال أنت طالق من أجل دخولك الدار، فعجب أبو يوسف وصار يتردد على الكسائي.

يعلق الشاطبي على ذلك قائلاً:”هذه المسالة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين”[10].

ويجري هذا المجراى سؤال الرشيد لأبي يوسف عما يترتب على الرفع والنصب في لفظي: عزيمة وثلاث ، في قول الشاعر:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ***  وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة***  ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم

فما على هذا القائل إذ نصب ثلاث أو رفعها – مع ملاحظة أن رفع عزيمة او نصبها سيدور في اتجاه معاكس حتماً – فقال أبو يوسف: ” وهو يقلب رسالة الخليفة هذه مسالة فقهية نحوية فلا آمن الخطأ فيها إذا قلت برأي، فذهب إلى الكسائي وهو في فراشه فأجابه بأنه في حالة نصب ثلاث تطلق ثلاثاً وفي حالة الرفع تطلق واحدة.

وتأويل ذلك أنها في حالة النصب تكون تمييزاً للطلاق المنبهم في جملة فأنت طلاق، وفي حالة الرفع مع نصب عزيمة، تكون خبراً للطلاق وهو مبتدأ في الجملة الثانية فكتب أبو يوسف الجواب للخليفة فأعجبه وبعث إليه بهدية فأرسلها أبو يوسف إلى الكسائي[11]. وفي البيت أوجه أخرى يمكن الاطلاع عليها في مغني اللبيب لا بن هشام وغيره.

وأهمية اللغة والنحو جعلت بعض النحاة يتصدر للفتوى فيقول أبو عمر الجرمي:”إنه يفتي من كتاب سيبويه منذ كذا سنة”، وكتاب سيبويه كما هو معروف في النحو وليس في الفقه، وتأويل بعضهم كلامه على انه كان يعرف الحديث وأن كتاب سيبويه كان يوضح له أساليب العرب ولطائف لغتها[12].

الهوامش والمراجع




[1] – رواه الشيخان والنسائي، جمع الفوائد ص277.

[2] – بداية المجتهد، لابن رشد، ج1 ص1، ومختصر الروضة للطوفي، ج2 ص62.

[3] – نشر البنود على مراقي السعود، ج1 ص89 وما بعدها.

[4] – بداية المجتهد، ج1 ص3.

[5] – أخرجه مسلم، ج5 ص128، وأبو داوود(3608).

[6] – رواه أبو داوود، 1039والترمذي، 2/241، الضياء اللامع لابن حلول، ج3 ص6.

[7] – شرح المفصل، لابن يعيش ج2 ص 95.

[8] – شرح عقود الجمان، للسيوطي، ص63.

[9] – تاج العروس، لزبيدي، ج10 ص360.

[10] – الموافقات، ج1 ص84، وهو منقول عنه بتصرف.

[11] – مغني اللبيب، لابن هشام ج1 ص53.

[12] – شرح مختصر الروضة، لطوفي ج3 ص39.

 

Comments are closed.