مدى حاجة الفقيه إلى اللغة العربية (2-3)

 

بقلم : الإمام العلامة    /عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

أما الفقهاء فإن مدار اختلافاتهم في كثير من المسائل الفقهية يرجع إلى مسائل نحوية أو لغوية في مسائل الشروط والأيمان والاستثناء وألفاظ الشارع وألفاظ المكلفين في عقودهم وخصوصاً في قضايا الأوقاف والوصايا. 

ولهذا فقد ضمن محمد بن الحسن الشيباني كتابه الجامع الكبير في كتاب الأيمان منه مسائل فقهية تبني على أصول عربية لا تتضح إلا لمن له قدم راسخ. ومن مسائله الغامضة أنه لو قال:”أي عبيدي ضربك فهو حر فضربه الجميع عتقوا. ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضرب الجميع لم يعتق إلا الأول منهم”. قال ابن يعيش موجهاً كلامه ذلك بأن الفعل في المسالة الأولى عام وفي الثانية خاص  [1]  .

وقد نبه الزمخشري على حاجة الفقيه إلى اللغة التي هي العلم بالكلم المفردة والإعراب التي هي اختلاف أواخرها لإبانة معانيها، قائلاً في تقريعه للشعوبية:”فإن صح ذلك فما بالهم لا يطلقون اللغة رأساً وإعراباً” إلى أن قال:”ولا يتكلموا في الاستثناء فإنه نحو وفي الفرق بين المعرف والمنكر فإنه نحو وفي التعريفين: تعريف الجنس والعهد فإنه نحو وفي الحروف كالواو والفاء وثم ولام الملك والتبعيض ونظائرها وفي الحذف والإضمار وفي أبواب الاختصار والتكرار وفي التطليق بالمصدر واسم الفعل وفي الفرق بين إن وأن وإذا ومتى وكلما وأشباهها مما يطول وكل ذلك نحو.

قال ابن يعيش شارحاً كلامه:”يشير – أي : الزمخشري – بذلك إلى شدة فاقة الفقية إلى معرفة العربية، ألا ترى أن الرجل إذا أقر فقال لفلان عندي مائة غير درهم يرفع غير يكون مقراً بالمائة كاملة لأن غير هنا صفة للمائة وصفتها لا تنقص شيئاً منها، وكذلك لو قال عليَّ مائة إلا درهم كان مقراً بالمائة كاملة؛ لأن إلا تكون وصفاً كغير. قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا…} (الأنبياء: 22)، ولو قال له عندي مائة غير درهم أو إلا درهماً بالنصب، لكان مقراً بتسعة وتسعين درهماً لأنه استثناء والاستثناء إخراج ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناوله الأول، وكذلك لو قال ماله عليَّ مائة إلا درهمين لم يلزمه شيء، كما لو قال ماله عليَّ ثمانية وتسعون درهماً، ولو رفع فقال: ماله عندي مائة إلا درهمان لكان مقراً بدرهمين والمسائل في ذلك كثيرة . ومن ذلك لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنه لا يقع الطلاق إلا بدخول تلك الدار المعينة، ولو قال: إن دخلت داراً فأنت طالق، وقع الطلاق بدخول أي دار دخلتها، لأنه علق الطلاق بدخول دار منكورة ولشياعها تعم، وفي الأول علق الطلاق بدخول دار معهودة فلا يقع الطلاق إلا بدخولها. أما الفرق بين لام العهد ولام الجنس فمن جهة المعنى وأما اللفظ فشيء واحد وذلك أنك إذا قلت الرجل وأردت العهد فإنه يخص واحداً بعينه، ومعنى العهد أن تكون مع إنسان في حديث عن ثالث غائب ثم يقبل الرجل فتقول وافي الرجل أي الذي كنا في حديثه وذكره قد أوفى. وأن أردت تعريف الجنس فإنه يدل على العموم والكثرة ولا يكون مخبراً عن إحاطة بجميع الجنس لأن ذلك معتذر غير ممكن فإذا قلت العسل حلو والخل حامض فإنما معناه العسل الشائع في الدنيا المعروف بالعقل دون حاسة المشاهدة حلو، وكذلك الخل والذي يدل على أن الألف واللام إذا أريد بهما الجنس تعمان قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…} (العصر: 2-3)، فصحة الاستثناء من الإنسان تدل على أن المراد به الجماعة ومن ذلك حروف العطف نحو الواو والفاء وثم فإن الواو معناها الجمع المطلق من غير ترتيب والفاء تدل على أن الثاني بعد الأول بلا مهلة، وثم كذلك إلا أن بينهما تراخياً، فعلى هذا إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، وكلمتك فهذه تطلق بوقوع الفعلين جميعاً بدخول الدار والكلام لا تطلق بأحدهما دون الآخر، فإن دخلت الدار ولم يكلمها لم تطلق وإن كلمها ولم تدخل الدار لم تطلق، ولكن إذا جمع بينهما طلقت ولا يبالي بأيهما بدأ بالكلام أم بالدخول، أي ذلك بدأ به وقع الطلاق بعد أن يجمع بينهما لأن المعطوف بالواو يجوز أن يقع آخره قبل أوله ألا ترى أنك تقول رأيت زيداً فيجوز أن يكون عمرو في الرؤية قبل زيد، قال الله تعالى:{…وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (آل عمران: 43). وكذلك إن قال لخادمه إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت حر، فإن قال ذلك لا يقع إلا بوقوع الفعلين جميعاً كيف وقعا ولا فرق فيه بين وقوع الأول قبل الثاني أو الثاني قبل الأول في اللفظ، ولو قال ذلك بثم لكان في الترتيب مثل الفاء إلا أنه يكون بينهما تمادٍ وتراخٍ، ومن ذلك حروف الجر نحو من واللام فإن الرجل إذا حلف وقال : والله لا آكل من طعام زيد، فإنه يحنث بأكل اليسير منه، ولو قال لا آكل طعام زيد فإنه لا يحنث إلا بأكل الجميع، وكذلك لو كان عنده فقال: هو لزيد بفتح اللام والرفع لم يلزمه شيء، ولو قال لزيد: بكسر اللام والخفض لكان مقراً له به؛ لان اللام إذا فتحها كانت تأكيداً وكان مخبراً أن الخادم اسمه زيد. وإذا كسر اللام كانت لام الملك الخافضة وكان مخبراً أنه ملكه… ومن ذلك مسائل الطلاق إذا قال: أنت طالق طلقت منه وإن لم ينو ولو أتى بلفظ المصدر فقال: أنت طلاق لم يقع الطلاق إلا بنيته؛ لأنه ليس بصريح إنما هو كناية على إرادة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل على حد ماء غور، أي: غائر. ومنهم من يجعله صريحاً يقع به الطلاق من غير نية كاسم الفاعل لكثرة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل وكثرة استعماله في الطلاق حتى صار ظاهراً فيه… ومن ذلك الفرق بين أن المكسورة مخفضة وبين المفتوحة، وذلك أن المكسورة معناها الشرط والمفتوحة معناها الغرض والعلة، ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار لم يقع الطلاق حتى تدخل الدار؛ لأن معنى تعليق الشيء على شرط هو وقوف دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود ولو فتح لكانت طلاقاً في الحال؛ لأن المعنى أنت طالق إن دخلت الدار أي من أجل أن دخلت الدار، فصار دخول الدار علة طلاقها لا شرطاً في وقوع طلاقها كما كان في المكسورة وكذلك لو شدد أن يقع الطلاق في الحال كانت دخلت الدار أو لم تكن ومن ذلك إذا ومتى وكلما تستعمل في الشرط كما تستعمل إن، إلا أن الفرق بين هذه الأشياء وبين إنَّ أنَّ إنْ تعلق فعلاً بفعل، وإذا وكلما للزمان المعين، فإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، أو قال: أنت طالق إذا دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار، أما إن فشرط لا يقع الطلاق إلا بوجود ما بعدها، أما إذا فوقت مستقبل فيه معنى الشرط فكأنه قال: أنت طالق إذا جاء وقت كذا وكذا، فهي تطلق وقت دخول الدار فقد استوت إن وإذا في هذا الموضع في وقوع الطلاق وتفترقان في موضع آخر، فلو قال: إذا لم أطلقك أو متى لم أطلقك فأنت طالق، وقع الطلاق على الفور بمضي زمان يمكن أن تطلق فيه ولم تطلق، ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، كان كأنه على التراخي يمتد إلى حين موت أحدهما، وذلك لأن إذا ومتى اسمان لزمان المستقبل ومعناهما أي وقت. ولهذا تقع جواباً عن السؤال عن الوقت، فإذا قيل متى ألقاك؟ فيقال: إذا شئت كما تقول يوم الجمعة أو يوم السبت ونحوهما وليست كذلك إن ترى أنه لو قيل متى ألقاك لم يقل في جوابه إن شئت وإنما تستعمل إن في الفعل، ولهذا يجاب بها عن السؤال عن الفعل، فإذا قيل: هل تأتيني؟ فيقال في الجواب: إن شئت ومتى حالها كحال إذا في أنها للزمان وليس في هذه الكلم ما يقتضي التكرار إلا كلما، وذلك انك إذا قلت كلما دخلت الدار فأنت طالق طلقت بكل دخول إلى أن ينهي عدد الطلاق؛ لأن ما من كلما مع ما بعده مصدر، فإذا قال: كلما دخلت فمعناه كل دخول يوجد منك فأنت طالق وكل معناه الإحاطة والعموم فلذلك يتناول كل دخول  [2].

وهذا كلام جيد نقلته على طوله للتدليل على أهمية اللغة والنحو للفقيه وهو طل دون وبل، وغيض من فيض.

الهوامش والمراجع




[1] – شرح المفصل، لابن يعيش ج1 ص14.

[2] – راجع أبي يحيى على المفصل، ج1 ص11-13.

 

Comments are closed.