كتاب مشاهد من المقاصد ,الطبعة الثانية,2012 م , عرض الدكتور عادل قوته

بسم الله الرحمن الرحيم

    يَا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ

الحمد لله رب العالمين الذي كرَّم هذه الأمة بالشريعة السمحة الطاهرة، وأيَّدها بالحجج الباهرة القاهرة، ووطَّدها بالقواعد المتظاهرة المتناصرة، ونوَّرها بالأوضاع المتناسبة  وأقامها بالمقاصد المتآزرة.

الحمد لله الذي هدانا للإيمان، وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الذي جعل مناط الشهادة على الناس، ودلالتهم على الخير: مرتبطاً بالإيمان بوحي الله المنزل، واتباع النبي المرسل ﭽ ﭑ    ﭒ  ﭓ   ﭔ  ﭕ  ﭖ  ﭗ  ﭘ   ﭙﭼ .

أحمده على نعمه الباطنة والظاهرة، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أنموذج الاقتداء، وسبيل الإتباع، معلِّم الناس الخير، الهادي إلى صراط الله المستقيم، نبيِّنا وسيِّدنا محمد، صلاةً وسلاماً متواصلي الصِّلات في الدنيا والآخرة.

اللهم إني أسألك أن تعينني بلطفٍ من عندك لا يغيب عني ولا أغيب عنه، وبتأييد من لدنك يصحبني وأصحبه، وأسألك قولاً مسدَّداً موشَّحاً بالصواب، ورأياً مقروناً بالهداية والتوفيق، وفطنة عقلٍ مضروبةً في سلامة صدر، ونيةً صالحةً خالصةً مرفوعةً بالقبول.

أما بعد:

فهذا عرضٌ مطَّردٌ وحديثٌ مرسلٌ، وبيانٌ منتخلٌ مهذَّبٌ ووصفٌ عذْب مُسَلسل، في التعريف والتوصيف لهذا الكتاب الكريم “مشاهد من المقاصد“، في نشرته الثانية (1433هـ=2012م).

لشيخي وكبيري، ومؤدِّبي وأستاذي، وسيدي ومولاي، العلامة الكبير، عيلم العلم الزاخر، وبدر العلماء الزاهر، مرجع المشكلات، المحقِّق الموفَّق، من لا يُسْبر غورُه، ولا ينال دركه، الشيخ الإمام سيدي عبد الله بن سيدي الشيخ المحفوظ بن بيَّه.

كتبتُه بناءً على طلبٍ من قلبي، وإلحاح من عقلي، وإذنٍ لاح لي، وتيسيرٍ أرجو أن يكون قد قُسم لي.

جمعتُه وأقمتُه على مقصدين:

    الأول: في شيءٍ مما يمكن قوله عن هذا الإمام. 

    الثاني: في نواحي التجديد والجدَّة في هذا الكتاب الكريم. 

*    *    *    *

المقصد الأول: في شيء مما يمكن قولُه عن هذا الإمام.

كان من واجبي العلمي، ومن فرضي الأدبي، ومن البرِّ وتجزية الإحسان بمثله: أن أكتب عن هذا العيلم الزخَّار، من زمنٍ بعيد.

الذي حدب عليَّ، وأحاطني بعلمه ومعارفه، وبفضله وبرِّه، وبهمَّته ودعائه، من أول لقائي به قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وصحبني بلحظه وتوجيهه، وتعليمه وإشرافه، في جملة أبعادي العلمية والسلوكية والحياتية، طيلة هذه المدة الطويلة، بلطفٍ من هذا القَدَر الجليل، وخلال كلِّ ذلك الزمن الجميل.

ولا عذر لي فأعتذر، لكني أقول:

أنني كنتُ كذلك الذي حيَّرته القسامة، وأدهشه الجمال، فأبهته فلم يدر كيف يقول! أو أنني أتوارى خلف قول أصحابنا من علماء القواعد الفقهية “الوصف في الحاضر لغوٌ وفي الغائب معتبر”، وهو حفظه الله حاضرٌ حاضرٌ.

وإن قدر فأدار لسانه وحرَّك ناطقته، قال: ﭽ ﭪ  ﭫ  ﭬ  ﭭ  ﭮ  ﭯ     ﭰ    ﭱ    ﭼ.

كذلك كنتُ ولا زلتُ، لم تخفَّ –وحاش لله- منزلتُه، ولم يُدْرك غورُه، ولم أبلغ مداه، مع طول ملازمةٍ ومشامَّة، بل إني واللهِ لأتحيَّر معه، متى قُسم له جمع كلِّ هذه العلوم، مع الرسوخ والتحقيق فيها، ومع الخصال الجليلة النبيلة، والخلال المتوازنة الرفيعة التي خفقت فوق رأسه الشريف.

ولئن كان النحاة قد ذكروا أمثلة للجرِّ بالجوار، فإني وما إليَّ من أمثلة الرفع بالجوار، من هذا الإمام!.

وأخرى أقولها: إنه من القليل النادر في عصرنا الصَّعب هذا أن نظفر بمثل شخصية هذا الإمام التي جمعتْ ووائمتْ بين ما سبق بعض وصفه، وبين السياسة والعمل الحكومي في أرفع مستوياته وأعلى فئاته، والاقتدار على عنته وإعناته، فآلف بينهما وهما متنافران، وضمَّ -مؤيِّداً- وأقامهما معاً بينهما برزخٌ لا يبغيان!.

ووفِّق في ذلك حفظه الله تعالى إلى بعيد الحدود ومديد الآفاق، واستطاع برعاية الله تعالى له وتوفيقه إياه، أن يلائم بين متطلبات الدين والقيام به والدعوة إليه، وبين ظروف الواقع وضغوطه وتقلباته.

فقام أتمَّ قيام بما أملاه عليه تديُّنه المتين، بل تنسُّكه وتعبُّده، والعِرْضُ الصحيح الذي نجلَه وربَّاه، فحمى عنه هو وحماه، والمآثرُ الصالحات التي عُرِف بها آل بيَّه الأماجد في الحوض الشرقي من موريتانيا.

شارك في السلطة في بلاده –موريتانيا- بل شارك في تأسيس موريتانيا الحديثة، وقاسم الدولة مسئولياتها، ومثَّلها في المحافل الدولية أحسن تمثيل، وقام بمهامها أسلم قيام.

ثم خرج من وظائفها بشرفٍ وسلامٍ، محافظاً على طهارة مكانته ونزاهة منزلته أجود حِفاظ.

لستُ بصدد الحديث عن هذا الإمام، فذاك الحديث عندي لو بدأ لا ينتهي، وكيف ينتهي!! لكنِّي في معرض العرض بتقديم هذا الأثر الكريم “مشاهد من المقاصد”، فأقول:

إن شيخنا الإمام مقاصديٌّ مضاعفٌ !! من فَرعه إلى قدمه.

فهو-أعلى الله تعالى مقامه- مالكيُّ المذهب والعصب والمزاج، وهذا المذهب الجليل النبيل أولى المذاهب على الإطلاق بعلم المقاصد؛ بسببٍ من طبيعة أصوله وقواعده، ولجمعه الفريد بين النقل والعقل، والأثر والرأي.

وأكتفي هنا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي: “مَن تدبر أصول الإسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد” (مجموع الفتاوى: 2/238).

وهو –أطال الله في العافية بقاءه- مغربيُّ الأَرومة، والمغاربة –أولى في الجملة- بعلم المقاصد من المشارقة!.

وهو –حفظه المولى الكريم- عربيٌّ صميمٌ، نسباً وصهراً، وعلماً وثقافةً وعقلاً، وهو لو أخلى وجهه الشريف شطر العربية وعلومها لاغتبطت به، وتاهت بعلمه بها على غيره وغيرها! وحسبك ممَّن يكون أيسر محفوظاته من العربية شعر هذيل وديوان غيلان!.

والعربية الشريفة كانت ولا تزال وجه الشريعة وبابها الأول، ونافذة التعليل والتقصيد والتقعيد، ومجمع البحرين في إدراك معاني النصوص ودلالات ألفاظها.

هل كان من سَعْد المقاصد وَجدِّها أن كان أباؤها وأولياؤها تنتظم فيهم خصالٌ وأبعادٌ ثلاثة، هذه الأبعاد الثلاثة مجتمعة، هي:

–  علوم الشريعة والفقه، والمذهبُ المالكي، على الخصوص منها.

–  العربية وفنونها وأفنانها.

– المغربية-غير المعلَّلة- إلا بالنحائز الكريمة، والتمدُّن القديم، والحضارة الأصيلة!.

وهذه هي المكوِّنات لهذا العلم الجليل الشريف الشفيف، علم مقاصد الشريعة.

ألم تر إلى المعلِّم الأول الإمام الشاطبي في تحقُّقه بها، وهو في العربية شارح الخلاصة الألفية في عشر مجلدات!.

ألم يأتيك والأنباء تنمي عن المعلِّم الثاني الإمام محمد الطاهر ابن عاشور، وهو في هذه الأبعاد ولدى المقاصديين مكينٌ أمينٌ.

وهو في العربية، شارح ديوان زياد وابن بُرْد، وصاحب التحرير والتنوير.

وشيخنا الإمام –حفظه الله تعالى- عند من عرفه على الحقيقة -وقليلٌ ماهُم-“لا تخطئُ مشيتُه مشيتَهم”، أتدري لماذا؟!. “لأن هذه الأقدام بعضها من بعض”.

فتأمل ثم تأمل اجتماع هذه الأبعاد في ثلاثتهم، وانظر كيف تطلع الشموس من مغربها!!.

وقبل أن أنتقل إلى المقصد الثاني، أقول وصادقاً أقول: إن ما يثتبه هذا الإمام في كتبه ومكتوباته، وأماليه وأملياته، لا يبلغ عشر ما هو عليه من علمٍ وتحقيق، وَقَف عليه أو على بابه عارفوه وغارفوه.

وأختم هذا الحديث الذي لا ينتهي عنك أيها الإمام بما قاله شاعر العربية الأكبر فيك وفي نظيرك:

ولقد عُرفتَ وما عُرفتَ حقيقةً        ولقد جُهلتَ وما جُهلتَ خمولا

*    *    *    *

    المقصد الثاني: في شهود “المشاهد”، والشهادة لها، والتعرف والتعريف بهذا الكتاب الكريم “مشاهد من المقاصد”.

    أنا في هذا العرض كاتبٌ مشاهدٌ، وشهيدٌ شاهدٌ ﭽ ﯬ    ﯭ  ﯮ      ﯯ  ﯰ ﭼ   وﭽﭘ  ﭙ   ﭼ، أختار من شواهد الكتاب ونصوصه ما يكون شاهداً على ما أنا بصدده، مستعيناً بالله تعالى على كلِّ أمري، والعرض والتعرف قائمٌ على مفاصل الكتاب الكلية، لا لتفصيلاته وجزئياته، ومن خلال نشرته الثانية 1433هـ=2012م، التي جاءت عن دار وجوه ودار التجديد في (215صفحة).

*    *    *    *

    توطئة:

في هذا الكتاب الكريم “مشاهد من المقاصد” التجديدُ والجدَّةُ والجديَّة هي لحمته وسَدَاه، من عنوانه وفاتحته إلى خلاصته وخاتمته.

ومن معاني هذه المادة، شهد: حضر، وأخبر خبراً قاطعاً، وأدَّى ما عنده من الشهادة، وأقرَّ بما علم، وعاين، والمشهد: الحضور، وما يشاهد، وجمعه: مشاهد.

وهذه المعاني: حاضرةٌ في مثاني الكتاب وتضاعيفه- عند مؤلِّفه- ولذا كان اختيار العنوان “مشاهد من المقاصد” موفقاً مطابقاً.

وأول شواهد ذلك وفاتحته:

    محاصرة الأسئلة المرتبكة بالأجوبة المسدَّدة، وإرساء المعايير الحاكمة:

فمن ذلك، قوله:

أن علم المقاصد= فلسفة التشريع الإسلامي في غاية الخطورة والأهمية؛ لأنها تقدم إجابة لثلاثة أسئلة أساسية:

السؤال الأول: ما مدى استجابة التشريع الإسلامي للقضايا البشرية المتجددة؟

السؤال الثاني: ما مدى ملاءمة هذا التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة؟

السؤال الثالث: ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري العقلي المؤطَّر بالوحي الإلهي في التشريع الإسلامي؟

(انظر: 9).

ومن ذلك:

“ثلاث قضايا لم تَبتَّ فيها نظرية المقاصد، كانت من أسباب اختلاف المتعاملين بالمقاصد، في اختلافٍ لا يزال ماثلاً في لفيف القضايا العقدية والعملية.

عناوين هذه القضايا:

    الأول: من يعرِّف المصلحة؟ العقل أم النقل؟

    الثاني: العبادات بين المعقولية والتعبد؟

    الثالث: الكليُّ والجزئي، أيهما يقدَّم؟” (ص10).

*    *    *    *

    عرض أهم مفاصل المشاهد:

بعد بسطٍ وتحقيق للمعنى اللغوي والجذر العام للكلمة، وبيان كيفية تنزيل المعاني الاصطلاحية للمقصد عليها.

جاءت مناقشة تعريفات “المقاصد” الاصطلاحية (15-26)، ومحاولة الانتهاء فيها إلى مفهومٍ أو تعريفٍ جامعٍ مانعٍ (32-33)، وفي تضاعيف ذلك: مناقشة الإمام الشاطبي في جهات التعرف على المقاصد الشرعية (26-32)، وسيأتي ذلك كرَّة أخرى.

    وهذا هو المشهد الأول.

ثم في عرضٍ تاريخيٍّ جميلٍ لتشريع المقاصد واعتبارها، وبيان “المسيرة العلمية للعمل بها والتعامل معها” جاء المشهد الثاني.

من عهد الصحابة y إلى زمن المعلم الأول للمقاصد الإمام الشاطبي، مع نظراتٍ نقديةٍ بصيرةٍ كاشفة عن الإضافات العلمية الحقيقية لكلِّ مرحلة من المراحل أو علمٍ من الأعلام!.

    وهذا هو المشهد الثاني (35-46).

ثم ذيَّل هذا المبحث بحديثٍ عن العقل، وإشكالية التحسين والتقبيح العقليين الكلامية والأصولية (46-56) تمهيداً للمشهد الثالث: المصلحة بين العقل والنقل.

وهي فرعٌ عن القضية الخالدة الأكثر إشكالاً وحضوراً دائماً متجدداً “جدل العقل والنقل”، وهذه المسألة من أكثر المسائل العلمية والفكرية، بل الإنسانية والحياتية جدلاً وتأثيراً.

ومن آثار هذا المشهد في هذه المسألة، هذه الأسئلةُ المحاصرة للإشكال:

– هل المصلحة التي تبنى عليها الأحكام عقليةٌ أم شرعيةٌ؟ أو: مرجعية المصلحة هل هي عقلية أم شرعية؟

ثم قسم الاتجاهات المجيبة عنها إلى اتجاهين أوضح كلاًّ منهما، ودلَّ عليه، وباحثه في توجهه.

وختم ذلك بوعيٍ وحضور في المشهد الفكري والثقافي المعاصر، بقوله:

“ولا يزال لهذه القضية ضربٌ من البزوع، بعد أن خبت جذوتها…، وقد ظهرت في ثوب حداثي، لا يريد التصريح بمراغمة الوحي، لكنه يتوكَّأ على المصلحة العقلية، أو ما سمَّاه بعضهم: بالمقصد الجوهري، الذي يلغي النصوص والمقاصد الأخرى” (ص67).

ثم انتقل إلى عرض قضيتين أخريين: أولاهما: دوران الشريعة بين معقولية المعنى والتعبد، حرّر فيه المراد بالمعقولية والتعليل، والمراد بالتعبد ونفي التعليل عنه (69-76).

والثانية (وهي الثالثة في المشهد): التجاذب بين الكلي والجزئي.

وهي من أهم مباحث التقصيد وتفعيل وتطبيق علم المقاصد وإعماله.

وختمها بقوله: “والقول الفصل في هذا أنه لا الكليُّ يقدَّم بإطلاق ولا الجزئيُّ كذلك” مبيِّناً مسؤليات تعامل المجتهد في هذه الحالة (76-79).

ثم يأتي المشهد الرابع، المعنون بـ: “أصناف المقاصد“، وفيه الحديث عن رتب المقاصد ودرجاتها، وعن تقسيماتها وأقسامها.

وفيه عرض لجملة ذلك من خلال استعراض علميٍّ وتاريخيٍّ، وفكريٍّ منطقيٍّ، ومع تحقيق أصوليٍّ مقاصديٍّ، ومما جاء فيه:

ذكر ثلاث شعبٍ منتجة من المقاصد: المقاصد العامة الكبرى، والمقاصد الخاصة، والمقاصد الجزئية.

وأيضاً تقسيم باعتبارات أخرى، منها: كليّ وجزئيّ، وإلى عامٍ وخاص، وأصليٍ وتابعٍ، وفيها جاء الحديث إلى: المقاصد القدرية أو الكونية، والمقاصد التشريعية غير منكشفة المصلحة = التعبديات، ومن جميل ما ذكر هنا:

“الأمر صنو الخلق ﭽ ﮞ  ﮟ  ﮠ   ﮡﭼ  فكما أن أسرار الخلق وحكمه لا تحصى      ولا تدرك جميعاً وتفصيلاً، فكذلك في عالم الأمر لا يمكن حصر المقاصد” (85-86).

وقسيم هذا المبحث في المشهد نفسه حديث عن المقاصد الكبرى (91-102).

ومن أهم ما نوقش فيه “توالد المقاصد وترابطها وتضامنها” وأيضاً: قضيتان لها كبير الأثر في تصنيف المقاصد (95-102).

1-   معيار الانتماء إلى المقصد الضروري.

2-   تذبذب الانتماء –لبعض القضايا- بينه وبين الحاجي.

ومن خلال الجدل والحوار في تحقيق هاتين القضيتين، ذكر في تضاعيفها جملةً من التحقيقات الموفَّقة الرفيعة، منها قوله:

“وفي النهاية فأنا أرى –والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم- أن الكليَّ الضروريَّ، أو الحاجي، لا ينبغي حصرهما بالعدِّ؛ اكتفاءً بتسويرها بالحد، وهو حدٌّ لا يضع حاجزاً لقبياً، وإنما يضع علامات تؤشر إلى: وزن المصلحة، ووزن الدليل، وحالة المجتمع وظروفه؛ ليكون التواصل بين منظومتي الضروري والحاجي منساباً…” فلا غنى لأحدهما عن الآخر، بل تتواصل المنظومتان دون تقيُّد بالألقاب بل بالنظر لرجحانية المصالح، في ضوء الدليل والقرائن الحافَّة” (98-102 باختصارٍ وضمٍّ).

وختم هذا المشهد بقوله: ” وعلى كل حال فمن أراد أن يتعرَّف إلى المقاصد في كلِّ جزئية، فما عليه إلا أن يرجع إلى ميزان النصوص، وضرورات الناس وحاجتهم؛ ليثبت المرتبة”.

ويأتي المشهد الخامس معنوناً بـ”استنباط المقاصد واستخراجها” فاتحتُه كلام الإمام الشاطبي عن جهات التعرف على المقاصد (103-106+137-138) مع مناقشة دليل الاستقراء وجعله من جهات التعرف إثباتاً له أو توجيهاً لعدم إثباته هنا.

والتثنية بـ: طرق التعرف على المقاصد عند ابن عاشور (138-143) ومناقشته في بعض ما أثبته، ومن الإضافة العلمية الجديدة، لهذه الطرق قوله:

– “كما تعرف من مُثْبَت الأخبار التي تقوم مقام الأوامر، ومنفيّها الذي يعتبر نواهي.

– كما  أنها تعرف من أحكام الصحابة وفتاويهم؛ لأنهم كانوا يتبعون المقاصد والمعاني” (144 باختصار).

ومن أهمِّ ما ذكر في هذا المشهد قولُه في ختامه:

“ويبدو لي أن شعب الإيمان تمثل مستودعاً لاستنباط المقاصد؛ لأن كلَّ شعبة تشتمل على معنىً من المعاني، سواء كانت من جنس العبادات أم من جنس المعاملات” (148).

وهذا إلى ما يأتي في المشهد السادس بابٌ علميٌّ واسعٌ، ومشروع مقاصديٌّ كبيرٌ، ينادي: ها هنا علمٌ، لو وجدتُ له نقلةً بحثةً نقَدَةً!.

ونصل في هذا العرض إلى آخر هذه المشاهد، وأهمها، وهو المشهد السادس، المعنون بـ: “الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها“.

وهذا المشهد أهم مشاهد الكتاب ومباحثه وأخطرُها وأدقُّها، وأكثرها عائدةً وفائدةً على أهل هذا العلم “علم المقاصد الشرعية” والممارسين لقضاياه.

وأدع المشهد يعرض عنوانه؛ إذ يقول:

“المراد بـ الاستنجاد، هو إدراك طبيعة التعامل مع المقاصد، وبالمقاصد.

نعني بهذا: كيف تنجدنا المقاصد، وترفدنا وتسعفنا، وتتحفنا بفوائد تشريعية، فهو الثمرة التي يجنيها الفقيه من مقاصد الشريعة” (154، 151، 210).

وهو معقودٌ أيضاً لبيان خطورة التعامل بها ومعها، فهي:

“ليست ترفاً ذهنياً ولا ثقافة عامة، يتعاطاها الصحفي والاجتماعي، ولا موضوعاً فلسفياً مجرَّداً أو نظرياً.

إنها أداة لاستنباط الأحكام الشرعية؛ ولتكون كذلك لا بد أن تنزل من سماء التنظير إلى أرض العمليات، ومن التصور الذهني إلى ميدان التطبيقات” (154).

وأهم ما في هذا المشهد ثلاثة أبعاد علمية كبرى، أضع قلمي عندها، وأضع معه عيني وفكري، وأحثُّ إخواني من أهل العلم وطلبته إلى ترجيع النظر فيها وتأملها، ومناقشتها، وأدعو جهرةً إلى جعلها مشروعاً علمياً، يُقسم ويقسَّم على البحوث العلمية المفردة أو رسائل الدراسات العليا، لإقامة هذه الأبعاد ومدِّها، فهي –لو تمَّت كما ينبغي- مع بعض المقدمات والمتممات لكان منها معلمةٌ مقاصديةٌ، هذه رؤوس موضوعاتها، وأقول: كما يجب وينبغي؛ لأن جملة هذه الأبعاد والموضوعات كسيف أبي دجانة لا ينبغي أخذه إلا بحقِّه!.

وأشير إلى هذه الأبعاد الثلاثة، وأنقل منها ما يمكن نقله:

 البُعد الأول: مدارك المقاصد، وأفاد مُبْلغاً ومبلِّغاً أنها أكثر من ثلاثين منحىً من مسائل علم الأصول وسردها ابتداءً، ثم أبان عنها بالبيان وضرب الأمثلة مع شيءٍ من المناقشة والتحقيق (154-180).

قال في خاتمة ذلك: “وهذا المناحي التي تسجَّل لأول مرة، لو أردنا نشرها لكانت جزءاً كبيراً، لكن مقصودنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهذه المناحي والمدارك أمثلةٌ للوشائج الحميمة، والتداخل والتواصل، ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها”.

ثم وضَّح في خلاصةٍ معبرةٍ صلة المقاصد بعلم الأصول، فقال: “وإذا كان بعض المقاصديين في هذا العصر قد استشعر إمكانية استقلال المقاصد عن علم أصول الفقه، فبما قدَّمنا نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفَنَد،     وأبنَّا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد والمعدود في العدد” (181).

البعد الثاني: ضوابط التعامل مع المقاصد، وحقق ثمانية ضوابط، ثمرتُها الصَّرامة العلمية في التعامل مع هذا العلم الجليل الدقيق (181-185).

وهي أيضاً من أهم وأخطر مباحث هذا العلم الشريف الشفيف، وقد عبَّر عن هذه الضوابط ملهماً موفقاً بأنها في حقيقتها تعاملٌ مع القوادح (207).

    البعد الثالث: في مجالات الاستنجاد بعلم المقاصد، وهو توظيفٌ واستثمارٌ وتجديد لإعمال علم المقاصد وأثره.

وذكر ثلاث مجالات:

1-   في تفعيل أصول الفقه، في ضوء إعمال المقاصد في بنيتها (185-191).

2-   اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية، حتى ولو كانت مهجورةً، مادامت نسبتها صحيحة، وصادرة عن ثقة، ودعتْ إليها الحاجة (191-194)، مع الدعوة إلى مراجعة الفتاوى وضبطها بمعيارٍ ثلاثي الأبعاد.

3-   تفعيل النظرية المقاصدية في وضع فلسفة إسلامية معاصرة شاملة، تجيب على مختلف الأسئلة في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقديم قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي والعقل، والقضايا الكبرى التي تشغل الإنسان (194-200).

ومع كل مجالٍ من هذه المجالات والمجالي أمثلةٌ وتطبيقاتٌ، وتحقيقٌ ومناقشاتٌ.

ثم جاءت “خلاصة القول” المركزة المذكِّرة بجملةٍ مما تقدَّم من هذه المشاهد (207-211).

*    *    *    *

    خاتمة:

    وأختم هذا العرض بخير فأقول:

إن مما يتقاضاه هذا العلم الجليل وتقتضيه المرحلة التي تمر بها الأمة، ومما نطلب تحقيقه والتحقُّق منه من قلم هذا الإمام، ومن عقله الحرِّ الجوَّال، ومن ذهنه الذي يثقب الماس، وينفي اللَّغو والدَّغل، الكتابةُ ووفاء الديون العلمية الحالّة، فيما يلي:

1-   معايير/مسالك الاستحسان الأصولي، وقوادح الاستدلال به، هذا الدليل الكبير والخطير تأصيلاً وتنظيراً، الغامض المحيِّر تطبيقاً وممارسةً!.

2-   المقاصد العامة الكبرى؛ لتكون نواةً ومدخلاً لفلسفة إسلامية أصولية فقهية.

3-   مقاصد السياسة ونظم الحكم بين محكمات الشريعة وموجبات الواقع.

وهذا الأخير لا أقول لا يكتبها أو يكتب فيه إلا مثله، بل أقول: لا يكتبها إلا هو، لما تقدَّم بعض الحديث عنه.

وأخاطبك –ياسيدي الإمام- بما سلف أن شرفتُ بمخاطبتك به قبل نحو عشرين عاماً:

أطال الله يا سيدي في العافية بقاءك، وأحسن إمتاع العلم وأهله بك، لا زلتَ للعلم تمنح أعلاقه، وتفتح أغلاقه، وتوفِّي الله سبحانه وتعالى عهده المأخوذ فيه وميثاقه، بحوله تعالى وقوَّته.

اللهم أنت المرجو المسئول أن تبلغنا أملنا، وتصلح قولنا وعملنا، وتجعل سعينا مقرِّباً إليك، نافعاً برحمتك لديك.

وصلى الله وسلَّم وبارك على معلِّم الناس الخير سيِّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتبه:

د.عادل بن عبد القادر قوته

جامعة الملك عبد العزيز –كلية الآداب- جدة

عضو خبير بمجمع الفقه الإسلامي –رابطة العالم الإسلامي

عضو خبير بمجمع الفقه الإسلامي – منظمة التعاون الإسلامي

الجمعة 8 رمضان 1433هـ

dr.agoutah@gmail.com

******************************

Comments are closed.