مشروع دولة اسلامية حديثة قابلة للاستمرار ومستدامة

 

ورقة مقدمة لمؤتمر : “مشروع دولة اسلامية حديثة قابلة للاستمرار ومستدامة ” المقام في المملكة الأردنية الهاشمية 

الدولة الإسلامية:

أما الدولة الإسلامية فمن حيث الأصل فهي ناشئة عن ضرورة عقلية وممارسة شرعية، وهي من نوع المصالح التي يوجبها الشرع لإدارة شئون الخلق والقيام بالخلافة في الأرض. وجماهير العلماء على وجوب قيام دولة، وهذا أصل لم يخالف فيه إلا قلة كابن كيسان الأصم وبعض المعتزلة وفي العصر الحديثة علي عبدالرزاق وبعض المعاصرين.

وأصل وجود الدولة راجع في الجملة إلى نصوص من الكتاب والسنة معروفة للخاصة والعامة قال تعالى  ]لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ  [

للقيام بالقسط لا بد من جهة حاكمة وسلطة نافذة، وهذا ما وردت فيه أحاديث وآثار كثيرة معروفة.

وضرورة سلطان يتولى القيام على مهماتٍ ووظائف لا يمكن للأفراد أن يتعاطوها أمرٌ معلومٌ من الدين بالضرورة، ومسلَّم من العقلاء في كل الملل والنِّحل.

ولهذا تناول الأولون موضوع الدولة الإسلامية تحت اسم الإمامة – الخلافة ووظائفها باعتباره أمر لا مرية فيه. ولقد أجمل إمام الحرمين معنى الإمامة ووجوب نَصْب الأئمة وقادة الأمة بقوله: “الإمامةُ رياسةٌ تامة، وزعامةٌ عامّة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظُ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامةُ الدعوة بالحجة والسيف، وكفُّ الخيف والحيف، والانتصافُ للمظلومين من الظالمين، واستيفاءُ الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين”.

وفصل بين إمامة الاختيار والسعة وإمامة الضرورة والغَلَبة في كتابه “الغياثي”، إلا أنَّ إمام الحرمين يرى أنَّ معظم ما يتعلق بالإمامة يقبل الاجتهاد لأنها عَرِيَةٌ من مسالك القطع خَلِيَّةٌ عن مدارك اليقين.

وهذه الجملة تعتبر المفتاحَ الذهبيَّ لباب الاجتهاد بتحقيق المناط في الأحكام السلطانية أو الفقه السياسي.

فما هو مفهوم الدولة الدينية أو الإسلامية؟

 إن تفكيك العنوان ضروري لإدراك المعنى المركب ومدى مدلوله.

فالدولة في الأصل اللغوي هي مصدر على وزن فعلة التي تكون للمرة، فالمفهوم العربي يلاحظ معنى النوبة ومعنى التداول الذي يشير إلى النصر أو الهزيمة. ولهذا فأكثر ما تذكر مضافة إلى معنى غيرها، كدولة بني العباس، وفي معنى التداول قوله تعالى{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم} قال الشاعر فروة بن مسيك المرادي:

               كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ … تَكُرُّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينًا

أما المفهوم الحديث فهي: “مجموعة بشرية تقيم على أرض محددة تخضع لسلطة واحدة، يمكن أنْ تعتبر شخصية معنوية، قد تكون إمبراطورية، أمة، بلداً، قوة، جمهورية، مملكة”.

ويمكن أن تعرف بأنها: السلطة السيادية السياسية التي تتمتع بالشخصية القانونية وتخضع لها مجموعة بشرية.

ولاعتبارات عملية يعتبر التعريف الثاني كافياً؛ لأنّ الاشكالات السياسية والفلسفية والقانونية مردها إلى السلطة أصلها وشكلها، من أين نالت مشروعيتها وما هي أرومتها وهل تورث أو تنتخب؟ ومن أي صورة تركب؟ ثم كيف تتصرف وتدبر وتؤلف؟

إنّ هذا النزاع هو مثل ما يتحدث عنه الغربيون في العلاقة بين الديني والدولة، أو ما تطور ليكون بين الروحي وبين الديمقراطية، أو بين المطلق والنسبي.

باعتبار أن الدين ينتمي إلى فضاء المطلق والسياسة -وهي هنا الديمقراطية- تنتمي إلى فضاء النسبي.

إنَّ التاريخ الأوروبي -الذي شهد الكوارث الطبيعية والبشرية مع طاعون القرنين السادس عشر والسابع عشر ومع الحروب الدينية- أصبح أكثر تذمراً من الدين وأكثر تركيزاً على الإنساني مع جملة من الفلاسفة كميكافيلى وهوبس ومونتسكيه وجان جاك روسو وغيرهم ممن أعاد الأمر إلى الشعب أو إلى الإنسان لإيجاد عقد اجتماعي مصدره الشعب كل الشعب، يمثله قول روسو في كتابه “العقد الاجتماعي” كل قانون لم يصادق عليه الشعب فهو باطل؛ إنه ليس بقانون.   

ومن هنا كان الواقع المعاصر في جيراننا الغربيين هو عزل الدين عن الشأن العام السياسي رسمياً، ومع ذلك فهناك بعض الدول كالاتحاد السويسري ينُصُّ دستورها على أنها دولةٌ دينية وكنيستها هي كنيسة دولةٍ مع ما يترتب على ذلك من التزامات الدولة تجاه المؤسسة الدينية.

ومع ذلك فإن الكثير من السويسريين غير مقتنعين إلى حد أنّ ألقى مستشارا فدراليا سويسريا محاضرة بعنوان استفزازي “هل الإله ضرورة للدولة؟” وذلك في محاضرة في جامعة لوزان في 2 فبراير 2005م 

أما الإسلامية: وهو القيد الأول أو الفصل الأول في التعريف، -كما يقول المناطقة في الحد الذي يكون بالجنس والفصل- فإذا كان هذا اللفظ وضعاً لا يكلف عناء فهو نسبة إلى الإسلام الدين الذي اختاره سبحانه وتعالى لأنبيائه وبعث به خاتم الأنبياء والرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

إلا أنّ الاستعمال التداولي عرفاً يحمل ظلالاً مشككة ومربكة، فما معنى كون الشيء إسلامياً؟ وما هي حمولة هذه النسبة الدلالية؟ وما هو الفرق بين الدعوى والحقيقة وبين الاسم والمسمى؟  ذلك ما سنراه.

 

إسلامية الدولة مفهوم واسع مشكك وليس متوطئا

فيمكن أنْ نعتبر إسلامية الدولة بناء على أنَّ أكثر سكانها يدينون بالإسلام؛ لتكون تابعة للسكان وليس للأحكام، كما تشير إليه فتوى الشيخ ابن تيمية الماردينية في وصف الدار.

ويمكن اعتبارها بوجود إقامة الشعائر الدينية ولو من قلة، كما يشير إليه موقف بعض الشافعية، كالماوردي والنووي في مسألة دار الإسلام، ولو كان بيتاً واحداً يستطيع أهله أن يؤدوا فيها شعائرهم.

أو باعتبار الأمن للمسلم فيها كما عند الحنفية، حيث أضاف إليه بعضهم والخوف للآخر، في مسألة الدار، وهي إضافة لا مبرر لها، فالمهم هو الأمن، وإن كان للجميع كان أكمل وأشمل.

ويمكن أعتبار الوصف بـ”الإسلامية” بناء على النصوص والنظم التي تحكمها، باعتبار أنَّ الدولة أصبحت شخصية اعتبارية لا عبرة فيها بالأشخاص الطبيعيين إلا بقدر ما يؤدونه من الأدوار، ولكن العبرة بالقوانين والنظم وبخاصة بالدستور، الذي يعتبر وثيقة التعريف. ولكن يعكر على هذا الوصف:1- أنَّ الإسلام والكفر وصفان للأشخاص الطبيعيين وليس للشخصية الاعتبارية؛ إلا إذا افترضنا قيام صفة الإسلام أو ضده بكل فرد.        

2- إنه لو فرضنا أنَّ الوثيقة تثبت صفة الدولة فما هو المقدار الذي يجب أنْ تشتمل عليه الوثيقة لتكون الدولة إسلامية.

يمكن أن نتصور ذلك في ثلاثة مستويات:  

المستوى الأول: اندماجٌ كاملٌ بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يَعتمِدُ على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ مفوَّضةٌ من الإله، معصومةٌ، هذا هو مفهوم الثيوقراسية.

هذا أصل المفهوم الغربي، وهذا لا يتصور في الإسلام إلا بوجود نبي معصوم أو على الأقل بالنسبة لأهل السنة الذين لا يرون عصمة لغير الأنبياء.

المستوى الثاني: نظامٌ يقوم على نصوصٍ دينيةٍ يمارسُ السلطةَ فيه علماءُ دينٍ لكنهم ليس لهم تفويض إلهي، فهم لا يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، ولكنهم يسعون ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية، يُمثِّل حالهم قول عمر: هذا ما رأى عمر. نافياً أن ينسب رأيه للباري جل وعلا.

المستوى الثالث: أنْ يكون التشريعُ مستمداً من روح الشريعة، ولكن الذين يمارسون السلطةَ فيه ليسوا علماء دينٍ، ولا رجال دينٍ، بل مدنيون ملوك أو رؤساء، مع اختلاف في مرجعية الوصول إلى الحكم.

خلاصة القول: إنَّ الدولةَ في الإسلام هي آلة من آليات العدل وإقامة الدين، وليست دولةً تيوكراسية بل مدنيةً بمعنى من المعاني، لكنها بالتأكيد ليست دولةً علمانية، إنها دولة يكون للدين فيها مكانُه ومكانتُه في مزاوجة مع المصالح واتساع من التأويل لا يقوم عليها رجال دين، ولكنْ رجالٌ مدنيون بمختلف الطرق التي يصل بها الحكام إلى الحكم، قد تكون بعض الطرق مفضلة بقدر ما تحقق من المصلحة والسِّلم الاجتماعي والاقتراب من روح الشرع ونصوصه.

إنَّ الأصلَ في النظام الإسلامي أنه يقوم على البيعة والشورى، وبتفسير هذين المفهومين نجد أنهما أحيانا يلتقيان في نتائجهما كثيراً مع ما وصلت إليه الأنظمة “الحديثة” مع التحفظ على بعض الممارسات التي تتم باسم الدين أو باسم الديمقراطية.

إنَّ الديمقراطيةَ التي يرى البعضُ أنها نهاية المطاف أو نهاية التاريخ، قد تمارس بطريقة غير ديمقراطية حتى ولو احترمت الشكلَ فإنَّ المضمونَ قد يكون مُختلاً، وفي بعض الأحيان مأساوياً، فإنَّ “أدولف هتلر” وصل إلى الحكم بطرق ديمقراطية، والنتائج معروفة.

إن ديمقراطية نصف المصوتين زايد واحد قد لا تكفي بل تحتاج إلى مقاربة أخرى لضمان السلم والوئام والاستقرار، وهما الشرطان الضروريان للاستثمار والازدهار لصالح الدين والدنيا.

إن أكثر علماء المسلمين على أنه لا تلازم بين الحاكم والفقيه، وإن كان يوجد نظرياً من يُلزم الحاكم بأن يكون مجتهداً، ولكن سرعان ما وقع فصل تام بين الاثنين منذ الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة، فانفصلت طبقة الفقهاء عن طبقة الحكام؛ إلا أنَّ الفقهاء ظلوا يمارسون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء والتعليم.

والإشكال في العلاقة بين الدين والدولة كان قائماً في كل العالم ليمنح شرعية لقول “هيجل”: لا يكفي أنْ يقول لنا الدين: “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. لأنه يبقى علينا بعد ذلك أنْ نعلم على وجه الدِّقة ما هي الأشياء التي لقيصر.

وإذا كان هناك إشكال لعصر العولمة بالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة، فإنَّ الإشكال لن يكون حله – حسب رأينا- بالدفع إلى القطيعة والحلول الحادة والرؤية الآحادية، وإنما بالبحث عن إبداع الحلول الذكية التي تحافظ على الصِّلات النافعة، وتقيم الموازنة السعيدة بين مستلزمات المعاصرة ومنتجاتها الفكرية والمادية، وبين القيم الروحية وميراث النبوات والأخلاق الفاضلة للتوفيق البارع بين المتناقضات التي تتجاذب حياتنا.

يجب الاعتراف بأنَّ الدولة الحديثة تختلف في نظامها السياسي وعلاقات الفرد مع السلطة والعلاقات بين السُّلَط، مع ما كان سائدا منذ قرون، وهذا يعني أن واقعاً حديثاً له متطلباتُه واضطراراتُه يقتضي فقهاً جديداً يقولب مفاهيمه ويجيب على استفهاماته.

إنّ أولئك الذين اعتبروا إيجاد الدولة أمراً يرجع إلى المجتمع، لا علاقة له بالدين تعلقوا ببعض الوقائع التاريخية حيث إنه عليه الصلاة والسلام لم يعين خليفة مكتفياً بالإنابة في الصلاة وورود نصوص ترد الأمر للاجتهاد البشري كقول عمر رضي الله عنه هذا ما رأى عمر.      

وقول علي رضي الله عنه للمحكمة الذين قالوا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق أريد بها باطل. وقال: الحكم لله، وفي الأرض حكامٌ، ولكنهم يقولون: لا إمارة، ولا بُدَّ للنَّاس من إمارةٍ يعملُ فيها المؤمن، ويستمتع فيها الفاجر والكافر، وَيُبَلِّغُ الله فيها الأجل.    

إلى غير ذلك من الممارسات والآثار، واعتماد الخلفاء على المصالح في تعاملهم مع الشأن العام بما يخالف ظاهر النصوص، مما يوحي لغير البصير بمخارج الشريعة وموالجها بأنّ إدارة الدولة لا تعتمد على الوحي. وذلك كقتال مانعي الزكاة من طرف الصديق، واستخلافه لعمر، وتصرفات عمر الكثيرة.

وبالنسبة للفقيه فإنَّ هذه التصرفات ترجع إلى الأصول الكلية للشريعة التي تقدم على النصوص الجزئية، وهي معادلة تسمح بالتعامل مع الواقع المتجدد المتمثل في ضرورات الحياة وحاجياتها واكراهاتها، دون اغتراب عن بيئة الشريعة ولا خروج عن مظلتها، انطلاقاً من مبدأين أو كليين؛ هما: كليّ العدل المنصوص عليه في أكثر من نص. وكليّ السلم الاجتماعي المقرر في عشرات النصوص؛ ولهذا فإن تصرفات الخلفاء الراشدين -التي قد يلحظ فيها المستشرق ما يحسبه ملوكية محضة أو علمانية على حد وصف بعضهم لبعض ملوك الدولة الإسلامية- إنما ترجع إلى مقاصد الشريعة، وإلى أنَّ المكانة المتاحة للعقل البشري في رعاية مصالح الناس من صميم الشريعة، ومن هنا يكون ملتقى بحري الإسلامية والحداثة وتتهيأ الأرضية المناسبة لإقامة دولة إسلامية حديثة لتكون مستدامة ومستمرة ؛ لأن أي دولة في العالم الإسلامي تضرب صفحاً عن موروثها الإسلامي وعن مقتضيات العصر الحديث لا يمكن أن تكون مستدامة ولا مستمرة.

وذلك هو التحدي الذي تجب مواجهته لاقتراح الحلول الإبداعية في السياق التاريخي والمساق الاجتماعي والنفسي، واستغلال مشتركات العدل والتنمية الاقتصادية والسلام الاجتماعي في أقصى الحدود، وهي متطلبات إسلامية وحداثية؛ لجعلها في أعلى السلم: مع سعة في التأويل ووضوح في الرؤية يبعد شبح الحروب العبثية، ويستعمل وسائل الدعوة والتربية الشفافة، في عصر أصبح فيه “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي” –وهي عبارة ابن خلدون مجملا فيها دور الدولة- لا يمكن أن يكون بوسائل قسرية دون أن يؤدي إلى مفاسد لا يقبلها الشرع ولا العقل إلا في حدود ضيقة.       

لقد كانت الدولة في الماضي والحاضر -ويجب أن تكون كذلك في المستقبل- هي التي تمتلك وتحتكر الحقَّ في استخدام القهر والقوة وإلا كانت الفوضى. ومما يجعل هذا الاحتكارَ مشروعاً وشرعياً العدالةُ في استعمال هذا الحق والشفافيةُ في ممارسته ووضوحُ القواعد والمبادئ والأنظمة التي تحكم استعمال القوة، وحيادُ السلطة القضائية واستقلالها النفسي والمادي. والوصول إلى قدرٍ معتبرٍ من الرضا العام عن النظام، ومقدارٍ من الثقة والاقتناع بالنظام والأحكام، مع صعوبةٍ تحقيق مبدأ الرضا العام في ظل ارتفاع سقف مَطلبية يجعل الفرد حريصاً على التدقيق في كيفية استعمال هذا الحق، كما أنه حريص على التأكد من أنّ حقوقه مصونةٌ مما يقتضي أنْ تكون معلومة، أي أنَّ تعريفَ المواطن حقوقَه وواجباتِه أصبح مطلباً مُلحاً تُدبَّجُ به الدساتير، ومن هنا تُعرَّفُ المواطنة بأنها حقوقٌ وواجباتٌ متبادلة. ومن هنا تنشأ دعوى العدالة الاجتماعية والعدالة في التوزيع بفضاءاتها المختلفة، كما سماها بعضهم. إن فقهنا يملك أُسساً متينةً وقيماً أصيلةً، لكن ذلك لا يغني عن تحقيق المناط في الواقع.

وذلك ما نسعى إليه من خلال طرح أسئلة في المفاهيم التالية:

السُّلطُ والعلاقة بينها، مكانة الدين، صلاحيات الحاكم. والتفاصيل كثيرة تحتاج صياغة مفاهيم أو إعادة تعريف بعض المبادئ في ضوء واقع الثورات والجدل الفقهي والدستوري الدائر في مختلف الدوائر والمنتديات: فما هو مفهوم الطاعة؟ وما هو مفهوم الخروج؟ وما هو مفهوم عقد البيعة؟ كيف يكون العقد الجديد؟ ومن هو السلطان؟ الرئيس أو البرلمان؟

هل ولي الأمر هو كل من وَلِي أمراً من أمور الناس، كما يفهم من اللغة، وكما يشير إليه الحديث: من ولي من أمر المسلمين”؟

هل ولي الأمر هو الحاكم خاصة، أم الحاكم والعالم؟ وفسرت الآية بالمعنيين.

هل يتعدد السلطان، وهل يكون غير قرشي؟ لقد تجاوزَ الواقع هاتين المسألتين في بعض البلاد وقد كانتا في محل شبه الإجماع برهة من الزمن. فأصبح تجاوز القرشية، وكذلك التعدد واقعاً، وقد نص الفقهاء عليه على استحياء عند تناءي الأقطار.

وأَلَحَّ إمام الحرمين على الكفاية، فقال في “الغياثي”: قلنا: لا نقدم إلا الكافي التقي العالم، ومن لا كفاية فيه فلا احتفال به، ولا اعتداد بمكانه أصلاً. ثم قال: وكأنَّ المقصودَ الأوضحَ الكفايةُ، وما عداها في حكم الاستكمال والتتمة لها.                                                                                             

مسألة الطاعة: وردت الأحاديث الكثيرة بالأمر بها مطلقة، وبعضها بالمعروف مقرونة ومقيدة.

وهكذا اختلف الفقهاء: هل الطاعة هي: امتثال الشرع إذا أمر به الحاكم (امتثال القانون) أم الطاعة هي لشخص الحاكم؟ هل الطاعة توجب أمره في الجائزات باعتباره المصلحة، وتحرم مخالفته؟ ما هي حقيقتها واستحقاقاتها؟ أم هناك طاعة أخرى من أجل سد ذريعة الفتنة والاحتراب لتقدير الإسلام لدماء الناس؟ أم أنها طاعة سلبية: طاعةُ انكفافٍ وليست طاعةَ امتثالٍ؟ أم أنّ الأمر يرجع إلى الوضع الزماني؛ ليُحَقَّق فيه المناط من خلال الوثائق الدستورية في هذا الزمان.

الخروج: هل ما زال مخالفةَ الحاكم لمنع حق أو لخلعه؟ –الباغية طائفة خالفت الإمام-

 والذي يظهر لي -والعلم عند العليم الحكيم- بعد مراجعة الأحاديث الآمرة بالطاعة الناهية عن نزع اليد منها، وتلك المقيدة بالمعروف الناهية عن الطاعة في المنكر- أنّ الطاعة لها معنيان يدل عليهما السياق، المعنى الأول، الطاعة التي تعني عدم الخروج على الحاكم، وعدم استهداف النظام العام، وهذه هي التي لا يجوز الخروج عليها إلا بعد خروج الإمام خروجاً لا شك فيه ولا ريب من الإسلام، وهي طاعة الجمهور، التي تعني لزوم الجماعة وهي الطاعة السلبية أو طاعة الانكفاف وعدم الاعتراض.

والمعنى الثاني: الطاعة الشخصية للقيام بعملٍ؛ تجب إذا كان مشروعاً ولا تجوز إذا كان غير جائز، ولكنه لا يُسمح بالخروج.

وبعبارة أخرى فإنّ الطاعة طاعتان: طاعة احتمال وطاعة امتثال.

ولا ينافي ما ذكر في الطاعة القاعدةَ الشرعية المعروفة وهي: أنّ تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”. وأصلها للشافعي كما يقول السيوطي في “الأشباه”. وقد ذكرها العز بن عبد السلام وتلميذه القرافي وابن نجيم وغيرهم. وهي مستنبطة من الكتاب{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} والسنة ففي الصحيحين: مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ».

ولكن من يحدد المصلحة؟ ويحقق المناط؟ الظاهر من النصوص أن الجهة الولائية هي المرجحة؛ لأن المختلف فيه بإمضاء الإمام يصير متفقاً عليه، كما يقول السرخسي في “شرح السير الكبير”.

ويقول ابن قدامة إنَّ فعل الإمام كحكم الحاكم في نفاذه في الأمور المجتهد فيها. ويقول السرخسي في “شرح السير الكبير” وكذلك إنْ أمروهم بشيءٍ لا يدرون أينتفعون به أَمْ لا، فعليهم أنْ يُطيعوه، لأنَّ فرْضيَّةَ الطَّاعة ثابتةٌ بنصٍّ مقطوعٍ به. وما تردَّد لهم من الرَّأي في أنَّ ما أُمر به مُنتفعٌ أو غير مُنتفعٍ به لا يصلح مُعارضًا للنَّصِّ المقطوع.

فطاعة الامتثال تصير الجائزات واجبة، كما يقول ابن عابدين في “باب الاستسقاء”. كل هذا في طاعة الامتثال.

أما طاعة الاحتمال والتي تعني أنْ تصبر عليه وتتحمل أذاه على غمط حقك والجور والظلم، فإنها كما يظهر من النصوص السالفة ليست مقيدة بالمعروف بل هي أساساً في عدم الخروج على الحاكم ولو جار وظلم.

وهي موقف سلبي يكتفي فيه بالإنكار بالقلب، كما في صحيح مسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها،  وذكر أبو داود أن الكراهية بالقلب والإنكار به من تفسير قتادة.

وقال القاضي عياض قوله “لا ما صلوا” أي ما داموا على الإسلام، فهو تعبير باللازم وإرادة الملزوم. وهذا الموقف من طاعة الاحتمال هو الذي عليه جمهور علماء أهل السنة، قال الحافظ ابن حجر في “الفتح”: قال ابن بطال في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلّب والجهاد معه؛ لأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح”.

فاستعمال الطاعة في المعنى الأول -أي عدم الخروج- هو من ذكر الملزوم وإراداة اللازم، وفي الثاني -أي الامتثال- في حقيقتها وذلك جمعاً بين الأحاديث، والجمع كما هو معروف واجب، قبل اللجؤ إلى دعوى الترجيح أو النسخ، وبخاصة أنها على درجة واحدة من القوة.   

وما ذكرناه هنا باختصار شديد هو التأصيل الشرعي لمذهب أهل السنة.

من هو الإمام في الجمهوريات؟ هل هو حارس الدنيا والدين أم أنه حارس الوثيقة الدستورية إلى جانب البرلمان. تلك الوثيقة الميثاق الذي لا يسمح بمخالفته ومعارضته.     

– صلاحيات الحاكم بين التجميع والتوزيع.

دور الأمة فيما سبق، ومن هي الأمة: أهل الحل والعقد.- النقباء المنتخبون – شرط العدالة أو الاكتفاء بالشعبية؟          

وفي العصر الحديث يحتاج الأمر إلى دراسة مسألة التنزيل في قضايا الأمة ودور المجالس التشريعية والهيئات المنتخبة في تقدير الضرورات والإكراهات وعلاقة ذلك بالنصوص الشرعية؛ فقد أصبح لهذه المجالس جزءٌ من صلاحيات السلطان أو السيادة كما سماها جان جاك روسو في مقابل الحكومة التنفيذية.

وهل ينطبق على المجالس في بلاد البيعة وصفُ وزارة التفويض عند الماوردي.  

وما هي صلاحيات السلطة في تعطيل بعض الأحكام ؟ ما الذي يمليه الواقع والتوقع؟

المطلوب أيضا تحقيق المناط في جملة من القضايا وذلك بتحرير محل النزاع أي بتحديد المفهوم:

إنّ تحديد المفهوم يُراد منه إيجادُ كليٍّ تُرَّدُ إليه الجزئيات، يشترك في تحديده وضبط عناصره: النصوصُ الحاكمة -السوابق الفقهية المبثوثة في الكتب السلطانية- الواقع الذي تمثله المصالح والمفاسد، وتطور الأمة والبيئة العالمية. فعلى ضوئها جميعاً يصاغ المفهوم.

– مجال العلاقات الدولية

المواثيق الدولية والقوانين الوطنية، أيهما له الأولوية على الآخر ومضاعفات ذلك ونتائجه، والتعاون والاستعانة في الحروب العالمية والمحلية بناء على مواثيقَ دوليةٍ.

مسألة الدار الخاصة بأصحاب الديانة في الموروث الفقهي كيف يكون تحقيق المناط مقاربة الدار المركبة أو ذات الوجهين عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية.

العلاقة بالغير أصلها السلام أو الحرب – التحالف – مفهوم الجهاد ومفهوم الدفاع المشروع في المواثيق الدولية.

 

 


– علق الفيلسوف برتراند رسل على هذه الكلمة بقوله: فعلى الرغم من أنها كانت في ظاهرها حلا وسطا، فقد كانت مع ذلك رفضاً للاعتراف بألوهية الإمبراطور،{حكمة الغرب 1/219}

– {تنوع أشكال الدولة وبنياتها وأنماط ممارستها المتعددة. وهي عبارة عن مستويات متنوعة في التخصص والتمايز الوظيفي لهيئة إدارية وتوزيعات متنوعة للسلطة الحكومية وأشكال وتطوير متنوعين للمؤسسات النيابية والتمثيلية؛ وعن نمو ودرجة احتكار متنوعين للمؤسسات القانونية والضريبية والعسكرية والبوليسية والقضائية والعقابية؛ وأخيراً عن مستويات متنوعة لتركيز ومركزة هذه الآليات المختلفة التي تربط كيفيات متنوعة جداً للأفعال المتبادلة بالحقل الاجتماعي الذي تندرج في إطاره. فهل يكفي القول إن الحضور المترابط لهذه الهيئات المختلفة (إدارة حكومية، موسسات قانونية، أجهزة إكراهية وقمعية..إلخ) يجب أنْ يكون متحققاً، كي نتعرف على الدولة حقاً وحقيقة؟ إن هذا الأمر في الواقع، نتاج لعملية تنسيق بين التنظيمات السياسية في التاريخ الحديث والمعاصر.{غيوم بلان “الفلسفة السياسية” ص24}

– الجويني             الغياثي   ص314-315

– وهذه جملة من أحاديث الطاعة، من “صحيح مسلم” مختصرة:  عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللهr: «عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ». عن ابن عمر، عن النَّبِيِّr، أنَّه قال: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ». عن عليٍّ، قال: بعث رسول اللهr سَرِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللهِr أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَادْخُلُوهَا، قَالَ: فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِr مِنَ النَّارِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّr، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ». عنْ أبي حازِمٍ، قال: قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّr، قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ» ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ، فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ». عن أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ، قَال لرجل من الأنصار: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» .

سأَل سلمة بن يزيد الجُعفِيُّ رسول اللهِr، فقال: يا نبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ-r-: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ».

قال حذيفة بن اليمان: قلتُ: يا رسول الله، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ» ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ».

عن ابن عبَّاسٍ، يرويه، قَال: قال رسول اللهr: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ».

عن أُمِّ سلمة، زوج النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، عن النَّبِيِّr أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ، فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا» ، أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ.

سَمِعْتُ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِr يَقُولُ: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» ، قَالُوا: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ». فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله فيه برهان”. زاد أحمد عن طريق عمير بن هانئ عن جنادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقاً فلا تعمل بذلك الظن بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة.

وزاد في رواية حبان ابن النضر عند أبي حبان وأحمد “وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك”. 

قلت: ولهذا امتنع الكثير من الصحابة ممن أدرك زمن الحجاج من الخروج كأنس بن  مالك وعبدالله بن عمر، وكبار التابعين كالحسن البصري الذي قال: -في ثورة ابن الأشعث لما عرضوا عليه الخروج- إنّ الحجاج بلاء بسبب الذنوب، ودواؤه الاستغفار.-كما ذكر أبو عمر في الاستذكار-.

Comments are closed.