مظاهر التوازن في الاقتصاد الإسلامي

 

مظاهر التوازن في الاقتصاد الإسلامي

 

مظاهر التوازن في الاقتصاد الإسلامي تبرز في تسعة أمور  :

1- في توازن بين النقود وبين السلع في السوق.ولهذا يمكن إثبات وسطية متوازنة في موقف الإسلام من السوق النقدية حيث يفترض بل يفرض تداول السلع مع النقود لتظل أداة تبادل ووسيطا وليست سلعا؛ ولهذا كان موقفه الصارم من منع تداول النقود كسلع مولدة للربح وذلك من خلال إجراءين أولهما أنه لا يجوز بيع عملة في مثلها تفاضلا، ولا بيعها في أي عملة أخرى نسيئة؛ لقصد الربح، وكذلك لا يجوز بيع الطعام في مثله تفاضلا ولا في جنسه نسيئة.

ليكون أمام التاجر طريق إجباري لينزل النقود إلى السوق لكن كوسيط وليس كسلعة وبذلك يجبر أصحاب السلع لبيع سلعهم بدلا من مقايضتها. ويختصر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً.

تجنباً للمقايضة تمر بتمر بزيادة، فمنع من ذلك وأوضح الطريق التي هي توسيط الدراهم.

2- وتوازن في الانتفاع بالمال بين الفئات الفقيرة والفئات الغنية -لإيجاد حد أدنى من التكافل في المجتمع.

3-وبين حرية التعاقد واحترام النظام العام الذي يمنع الربا والغش والقمار.

فحق نقل الملكية مبني على مبدإ التراضي، وتدخل مبدإ النظام العام في هذا الحق مبني على المصلحة العامة.

والنظام العام يلغي الإرادة الفردية كما يقول القانوني الفرنسي هنري كابتان إن “النظام العام” قد يكون ناشئًا عن مبادئ “العرف” ومبادئ مكتوبة: إن النظام العام هو مجموعة المبادئ المكتوبة وغير المكتوبة، التي تعتبر في النظام القضائي أساسية؛ ولهذا فإنها تلغي أثر الإرادة الفردية ومفعول القوانين الأجنبية”.ا هـ

إن مبدأ التراضي الذي يقوم على إرادة المتعاقدين، والتي تعتبر قانون العقد مبدأ قائم في الشريعة ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منهم)

وعبر عن ذلك القرافي في الذخيرة بقوله: أصل نقل الأملاك الرضا بالإجماع[1].

وهو في ذلك يلتقي مع مبدإ الحرية المنوه عنه في النظام الرأسمالي إلا أن هذه الحرية محدودة بحدود الشرع ومضبوطة بضوابط الأخلاق ومقيدة بقيود المصالح العامة للمجتمع وبعبارة أخرى، فهي محكومة بمبدإ أسمى وخاضعة لمرجعية أعلى: تتمثل في مبدإ الاستخلاف أي أن الإنسان وهو يمارس عمله في هذا الكون بجد ودأب إنما يقوم بوظيفة النائب والمستخلف ؛ لا ليكون مقيداً عن نفع نفسه ولكن ليكون أداؤه أكمل وخيره أشمل لنفسه ولأبناء جنسه قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾. وجاءت الشريعة مفصلة لبنود تصرفات المستخلف وصلاحياته وستكون التشريعات المفصلة خير برهان على هذه المقدمة.

إلا أن النظام العام في الشريعة يتدخل لحد هذا الحق، عندما يلاحظ إضرارا بالمجتمع “لا ضرر ولا ضرار

والنظام العام هو المعبر عنه بحق الله تعالى كما يقول السنهوريقال القرافي: وقد يوجد حق الله تعالى وهو ما ليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد ؛ كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات فإن الله تعالى إنما حرمها صوناً لمال العبد عليه وصونا له عن الضياع بعقود الغرر والجهل فلا يحصل المعقود عليه أو يحصل دنيّاً ونزرا حقيرا فيضيع المال ؛ فحجر الرب تعالى برحمته على عبده في تضييع ماله الذي هو عونه على أمر دنياه وآخرته، ولو رضي العبد بإسقاط حقه في ذلك لم يؤثر رضاه، وكذلك حجر الرب تعالى على العبد في إلقاء ماله في البحر وتضييعه من غير مصلحة ولو رضي العبد بذلك لم يعتبر رضاه وكذلك تحريمه تعالى للمسكرات صوناً لمصلحة عقل العبد عليه وحرم السرقة صونا لماله والزنا صونا لنسبه[2].

4- وتوازن بين الملكية الخاصة وحق المجتمع في الملكية، كمصادر الطاقة: الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ، والنار”. والرواية الأشهر المسلمون شركاء … رواه أحمد وأبو داود.

إن الملكية الخاصة مصونة بنص القرآن والسنة ( فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) إنه من الكليات الخمس التي كانت الشريعة كلها تدور حولها “الدين – النفس – المال – العقل – النسل” وقرنه النبي صلى الله عليه وسلم بحق الحياة ” إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.” ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل(

وقرر للمجتمع حقاً للفئات الضعيفة التي تحتاج إلى المساعدة؛ ليكون حق التكافل والتضامن ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) حتى يحفظ درجة ما من التوازن في المجتمع، وحدا أدنى يصون كرامة الفقراء ويضمن لهم الحياة.

5-التوازن بين الاستهلاك والإمساك ( والذي إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً)

هذا القوام هو الوسطية، وهو التوازن.   

6- التوازن بين الاستهلاك والادخار، حيث فرق بين الادخار كمحرك للاستثمار وبين الكنز والاحتكار كإساءة في استعمال الحق -وهي مبدأ قانوني معروف

فالادخار غير الكنز والاحتكار: فهذه مصطلحات ثلاثة فرقت الشريعة بينها، فقد شجع الشارع الادخار فقال -عليه صلاة والسلام-: فكلوا وادخروا”. وفي الحديث حث على الاستهلاك وعلى الادخار.

فالادخار هو فائض ما بعد الاستهلاك، وهو في العصر الحديث محرك للاستثمار؛ ولهذا ألح عليه اقتصاديو القرن الثامن عشر، وبخاصة آدم سميث؛ لأن الأموال المدخرة تذهب للاستثمار، بخلاف الكنز، فإنه تكديس مال لمنع حقوق الفقراء. –التي قد تكون خلق فرص العمل أو التمكين من الحصول على الخدمات

والاحتكار خزن المال لإغلاء السلع؛ كمن يخزن البر لإغلاء الخبز، وهي ظاهر سلبية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: من احتكر فهو خاطئ”. أخرجه مسلم.

والاحتكار مخالف لمقصد الشارع في رواج المال، وتداوله؛ ولهذا أشار الشارع إلى أهمية تداول المال بين أيدي الجميع، وليس الأغنياء ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)

قال إمام الحرمين: لو لم يتبادل الناس ما بأيديهم لأدى ذلك إلى ضرر. –البرهان

7- والتوازن في الحصول على الربح بين الربح الحلال والربح الربوي الذي يسئ على المجتمع ويكفي أن نرى فوائد صندوق النقد الدولي على دول إفريقيا.

 أقر الإسلام مبدأ الربح؛ إلا أنه فرق بين الربح الحلال والربح الحرام “الربوي”، فالربا يجعل السوق في حالة ترقب، فالمودع يترقب ارتفاع الفوائد؛ لأنه مقرض، والبنك يترقبه؛ لأنه وسيط، فهو مقرض ومقترض في نفس الوقت، والمستقرض الحقيقي للاستهلاك أو للاستثمار –وهو الأضعف- يترقب انخفاض الفائدة؛ ليقترض.

وهكذا تكون الأرجوحة الدائمة ،،، ترقب فرصة ليربح رابح بخسارة آخر، من خلال ترجح ميزان الفائدة لجهة من الجهتين.

بالإضافة إلى أن الفوائد تسهل تكديس ثروة نقدية، دون استثمار في الاقتصاد الحقيقي -من زراعة وصناعة- مما جعل بعض الاقتصاديين يقول: إن الاقتصاد السليم هو أن تكون الفائدة صفرا – أي لا فائدة- وهذا ما يتوخاه الإسلام من خلال منع الفائدة، ليتم توسيط السلع -التي تختلف فيها الأغراض والانتفاع- فيربح الجميع، أو لا يخسر أحد سلفا.

فالمبدأ الإسلامي أن: النقود لا تلد نقوداً؛ لأن النقود ينبغي أن تلد سلعاً، من خلال توظيفها في الإنتاج الحقيقي، وبذلك تنمو الصناعة والزراعة، ويعمل آلاف العمال في المصانع والمزارع وعمارة الأرض، من خلال التحريك في البناء والزراعة واستخراج المياه والمعادن. وقد أشار القرآن إلى ذلك في كلمة واحدة وهي كلمة “أثاروا” الأرض” في قوله تعالى ( وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها) لأن معنى “أثاروا”: حركوا  الأرض للزراعة والبناء ولإخراج المياه الجوفية والمعادن.فكل عمارة تسبقها إثارة الأرض، فلو تركنا الناس يحصلون الثروة من خلال الفوائد ما كان هناك تحريك.

8- والتوازن بين جواز بيع الموجودات، ومنع بيع ما ليس عندك، وإباحة السلم – مراعاة للحاجات-  وهو بيع معدوم موصوف في الذمة فصار كالموجود.

 

9- والتوازن في إقرار مبدإ الوضوح والشفافية، وهو من المقاصد الخمسة التي ذكرها ابن عاشور، فلا يجوز بيع مجهول. ويجب أن تكون السوق واضحة “فلا خلابة” -أي خديعة، كما في الحديث- إلا أن مالكا رحمه الله تعالى أجاز بيع بعض الأشياء الغائبة؛ كبيع الغائب بالوصف بشروط، والأشياء المغيبة كبيع الفستق في تخوم الأرض لحاجة الناس خلافاً لغيره.  

Comments are closed.