الإمام الأكبر سَيدي عبد الله بن بَيه كما رأيته

 

         

 

الحمد لله الذي خلق واصطفى، ووَعد ووَفّى، ورزَق فأَوفى، قال ربي جلّ في عُلاه: “ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يشاءُ ويَخْتَار”     ، وقال: “إنّ اللهَ اصطَفَى آدَمَ ونُوحًا…” ، وقال سيدُنا رسول الله المصطفى، عليه الصلاة والسلام تَزَلُّفَا: “يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِن كُل خَلَفٍ عُدُولُه” [أحمد] ، هذا معنى الاصْطِفاء، وقال عليه الصلاة والسلام في معنى الوَعْد: “إن الله يَبْعثُ لهذه الأُمّة على رأْسِ كلِّ مائة سَنة مَن يُجَدّدُ لها دينَها” [أبوداود] ، وقال في معنى الرّزق: “مَن يُرِد اللهُ به خيرا يُفَقِهه في الدين” [متفق عليه]… 

         إنَّ مِمَا يَشْرَحُ الصَّدْرَ يَقينا أنْ تَرَى حقائقَ السماء تَمْشي على الأرض، فاللهُ تبارك وتعالى أخْبَر أنه يَصْطَفي بالعِلْمِ كما يصْطَفي بالنُّبُوَّةِ والقُوّة وغيرها مِن اللطائف والفضائل، فقد اصطفى هذه الأمة على سائر الأُمم، واختار لها نُجوما علاماتٍ تهْتدي بها هُمُ العلماءُ الذين ورِثوا الأنبياء، ورَزقهم فهْما وقُوة إدراك وبصيرة، وحَسُنَ ذلك رِزقا، ثم وعد جل جلاله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبعث في هذه الأمة أحد هؤلاء المصطَفَين بالعِلم يَنْفض عليها غُبار الوَهْم، ويُزيح عن طريقها حواجز الوَهن، ويُنير لها ما قد خَفَتَ مِن معالم الفَهْم، حتى تعود إلى الجادّة وترْقى إلى مقام الخَيْريّة التي جعلها الله فيه وخلقها مِن أجل ريادته.

        طالما وقفْتُ طويلا بالضّراعة سائلا المولى أن يجمَعني به في الدنيا قبل الآخرة، فربما أنالُ به في دار العمل خيرا أجِدُه في دار الحساب، وفعلا حقَّق الله لي رغبتي، وبلّغَني مَقصدي، وسدد رَمْية دعوتي، وما رميتَ إذ رَمَيْتَ ولكنّ الله رمى، وهو مَن قدّر وقضى، ويسّر وهدى، فله الحمد في الآخرة والأولى.

        إنه الإمام العالم المُربي المُفتي المُشْفِقُ، المُجْتَهِدُ المُجَدّد الأصوليّ الفقيهُ اللُّغويّ المُدَقَّقُ، والمُصَنّف المُحَقق، سيدي عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّة، عليه مِن الله الكريم الأمانُ والأفضال ما خَفَق في الكون خافِق.

        بدأَتْ معرفتي به قبْل ما يزيد على خمْس سنوات، عندما كنت أُحَضّر لبَحث الإجازة في موضوع التأصيل الشرعي لفقه الأقليات المُسلمة، فكان كلامُ الشيخ مِن خلال برامج الإفتاء أو مِن خلال ما يكتبه في الموضوع يسلب عَقلي، فأجِدُني أَكْتُبُ فتاويه وفوائده في دفاتري، ولما احتَجْتُ إلى كتابه النّفيس “صناعةُ الفتوى وفقه الأقليات” لم أستطع الحصول عليه، حتى أني طلَبْتُه مِن دور النشر خارج البلاد، ولكن يسر الله أن أدخَلت مكتبة الجامعة الإسلامية بقسنطينة- الجزائر نُسخة منه، فاستعرته ونسخت ما أحتاج منه، وجعلته إضافة إلى كتابات الشيخ المنشورة في مجلة المجلس الأوروبي للإفتاء مَوْردا معينا، ومرجعا مُعينا فنفعني الله به أيما نفع.

        ولم يفُتْني قراءةُ إبداعه الأصولي “أمالي الدلالات” ولا تحقيقه لفتوى شيخ الإسلام المعروفة بالماردينية، وغير ذلك لا أحصيه عدّا، وآخر ما زَيّنْتُ به مكتبتي هو دُرّة يتيمة وقِطعة فريدة، كتاب “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات”.

        حصلتُ على نسخة من المعرض الدولي للكتاب بالمملكة المغربية، وكنت قد بحثتُ عنه طويلا، وهو كتاب كثير الفوائد، غزير العوائد، فريدة من الفرائد، استعنْتُ به في بحث الماجستير الذي كان في المعاملات المالية، ومِن اللطيف أنني التقيت الأستاذ حمزة يوسف هانسون تلميذ الشيخ بن بية في إحدى مكتبات الرباط –بالمغرب، وتحدثنا عن الكتاب، وكان كُلٌّ منا يبحث عنه، ولا يزال يوصيني به حتى افترقنا…

        إلى أن جاء اليوم المشهود، وزُفّ إليّ خبَر قُدوم الإمام إلى مدينة الرباط وأنه يعْقدُ لقاءً مفتوحا مع طلبة العلم الأجانب، فسرَّني ذلك الخبَرُ وأبْهَجني، وسافرت للقاء أُمْنِيتي، بعد أن رَتَّبْتُ أسئلتي لسماحة الشيخ في كُراستي…

        لا غرابة إن كنتُ أوّل الواصلين إلى الفندق، فساعتها لم يأت أحدٌ بعد، ومضى الوقت…فإذا بمَوْجَةٍ مِن الطلبة الماليزيّين المَحبوبين تتدفق إلى القاعةِ في حِرصٍ وشوقٍ للقاء الإمام، وما هي دقائق حتى رأيتُ الإمام قادما باتجاهنا في مشيةِ هَيبةٍ وشيبةِ حِكمةٍ، في جمال مَلبسٍ، ونصاعة لِحيةِ، ويعلو ذلك كلّه عمامة بيضاء، تدلت منها ذؤابة كذؤابة صاحِب السُنةِ، وأضفى على تلك اللحظات الرهيبة قوةً وُقوفُ الطلبة كلِهم في صَمْتٍ وأدبٍ جمّ، ذاهبة أبصارهم تأمّلا في سماحته، شاردة عقولهم فَرَحا برؤيته، إلى أن أشار تواضعا منه بيده أن اجلسوا…

        سلّم الإمام وجلسَ وبجانبه عَصاه، واستَهلَّ الحديثَ مباشرة، في توجيهات عامة في طريق الطلب والتحصيل، ثم إذا به يقطع كلامه قائلا: “بالنسبة للبنات ضروري جدا أن يَسْتمعن، إذا ما كان فيه ميكروفون فليقتربن قليلا، كان النساء يُصلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الرجال، يقال لا تَرْفَعْنَ رؤوسكن حتى يرفع الرجال…”.

        شَكَر مولانا الإمامُ مملكةَ المغرب على استضافة كل أولئك الطلبة مِن مختلف البلاد، ثم طَرَق أبوابا مِن القضايا ذات الأهمية، مُراعيا خصوصيات أعراق الحاضرين، مُرَكِّزا في خطابه على ما يُهم شأنهم، ويخدُم أوضاعهم، مِن ذلك مسؤولية الطلبة تجاه بلادهم، ومنها ضرورة فهْم الواقع ووصفه له بالمُعَقّد، داعيا إلى أن يكون الطالب مُنْفتحا على الحضارات والثقافات دون ذوبان وانحلال، محافظا على خصوصياته، دون أن تكون تلك “الخصوصية طاردة أو إقصائية خاصة في البلاد التي توجد بها أقليات أو أعراق أو ديانات مختلفة ، في هذه البلاد ينبغي علينا أن نتعلم فن التعايش، وأن نتعلمه مِن رَحِم ديننا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم…” ، مُضيفا أنه ينبغي التعاون على البقاء لا التنازع عليه، فإن ذلك يؤدي إلى الفناء…

        ثم عَرّج بنا الإمام إلى مراحل التحصيل العلمي، مُقَسّما إياه إلى إدراكات، منها التعامل مع النصوص، أو ما سماه بمرحلة التفسير الذي قد يُفضي إلى التأويل، ثم مرحلة ثانية، وهي مرحلة التعليل، أي إدراك المقاصد الكلية للشريعة، مشيرا إلى أن الأمر القرآني بالتدبٍّر هو أمر بالبحث عن المقاصد، وهذا البحث ينطلق من كون الشريعة جاءت لمصالح العباد وأن الشريعة معقولة المعنى…ثم مرحلة تنزيل تلك الأحكام على الواقع…

         يضرِب الإمام العلامة أمثلة تقريبية لكلامه العميق -الذي شَبَّهَهُ في عُمقه وقوة أثرِه تلميذُهُ حمزة يوسف الأمريكي بالذي يَحْفر في الأرض بآلة الحَفر الكهربائية التي تُستعمل في ضرب الأرض الصَّلبة والإسمنتية غالبا-من ذلك: مفهوم الجهاد وأنواعه وخطره…واستطرد في بعض مباحث الباب، وأشار إلى تغير بعض مفاهيمه…

        وبدا لي في كلام الإمام بن بَية إنكار شديد وأسفٌ على ما يحدثُ في بعض البلاد الإسلامية مِن مآسي ونكبات، ويُرجع سماحته ذلك إلى إلغاء المقاصد الشرعية في التنزيل، مؤكدا موقفه الإصلاحيّ السلميّ الذي يحفظ كليات الشريعة بأخف ضرر.

        ثم فُتح مجال السؤال، وكان قد حُدّد بخمسة أسئلة مراعاة لوقت الشيخ وجهده، فقال توسيعا على الزوّار من الباحثين والطلبة: “بل عشرة” وتتابعت الأسئلة متنوعة والإمام يُتْحِف الأسماع بأجوبة شافية، تزاوجت فيها الحكمة وقوة الاستدلال والشَفقة على حال السائل والنصح له…

        الإمام الشيخ -رعاه الله وأحسن إليه- دائمُ البِشْر، يُصغي للمتحدث ولا يقاطعه، بل وقد يرفع عن أُذُنه ما يغطيها مِن العمامة ليَسمَع كلام السائل بوضوح، ولا يصرفُ نظره –مع ابتسامته- عن وجه السائل، ويَصبر حتى ينتهي من سؤاله، حتى مع الإخوان الأعاجم الذين يتتَعْتعون في العربية، يبتسم إليهم ويُمهِلُهم ثم يُجيبهم باهتمام وتوسع ولا يبخل بنصيحة ولا يألو في بيان ولا يدخر علما ولا يقصر في استدلال، فهو كالوالد الحنون المُشفق على أبنائه، لا تُحس منه سآمة مِن سؤال ولا كآبة من تكرار ولا تضجرا مِن إصرار…

        آن وقت وداعه، فاجتمع الطلبة حوله، بين مُسلِّمٍ عليه ومُقبلٍ لرأسه أو يديه، آمِلين لقاء آخر يجمعنا به، داعين الله أن يمدّه بالقوة والصحة فائدة للأمة ونفعا لطلبة العلم ومنارا للعلماء المسلمين.

        هذا مقالي ومقامي في الإمام الأكبر سيدي عبد الله بن بية عليه من الله الأمان والرضوان، بعد رؤيته والسماع منه…وهو مَن وجدتُ فيه ما استَفْتَحْتُ به حديثي مِن خصائص العالم الربانيّ المُجدٍّدِ الحامل لميراث النُبوة، فالله يجزيه عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

 

 

 

وكتبه : محمد بدر الدين بن حسان طشوش الجزائري

 

الرباط- المملكة المغربية: 31-01-2014.

Comments are closed.