جواب العلامة عبدالله بن بيه لعلماء باكستان حول مسألة فسخ النكاح على أساس الضرر والشقاق بين الزوجين

السؤال

إلى فضيلة العلامه الشيخ عبد الله بن بيّه حفظه الله ورعاه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد:

فنفيد سماحتكم علما أنّ هيئة الإفتاء بجامعة دارالعلوم كراتشي- تناقش هذه الأيام قضية فسخ النكاح على أساس الضرر والشقاق بين الزوجين فى مذهب السادة المالكية . ونرجو منكم أن تساعدونا بالإفصاح عن رأيكم الوقيع في القضية .ونلتمس في حضرة سماحتكم أن تتكرمو بإلاجابة عليه فى أسرع وقت ممكن لأن كثيرا من القضايا موقوفة عليه ولفضيلتكم الأجر الجزيل إن شاء الله تعالى.

والسّلام عليكم ورحمة الله

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

حضرة أصحاب الفضيلة الأجلاء المشرفين على دار الإفتاء: مولانا الشيخ/ محمد تقي الدين العثماني، وسعادة الأخوين الفاضلين/ الشيخ إبراهيم عيسى والشيخ محمد اكرام الحق حفظهم الله تعالى.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد، فهذا جواب على الأسئلة التي وردت من جنابكم الكريم في شأن: الضرر وبعث الحكمين في المعتمد من مذهب مالك رحمه الله تعالى.

وفي البداية أود أن اعتذر عن التقصير والتأخير في رد الجواب فما ذلك إلا عن الاشتغال وتحري الاختيار من اختلاف الأقوال. فأقول والله سبحانه وتعالى المستعان والمسئول أن يوفقنا للصواب في التوضيح والبيان.

السؤال الأول: ما هو ضابط “الضرر” على القول المفتى به عند المالكية؟

الجواب: إنَّ الضرر كلي مشكك وهو الذي لا يستوي في أحواله ولا مَحَاله بمعنى أنَّ معناه ومدلوله أشد ظهوراً وبروزاً في بعض آحاده وليس متواطئا، ولهذا السبب فإنّ ضبط الضرر فيه عسر. فمن حيث اللغة فإن الضرر: اسم من الضر، وهو النقصان يدخل على الشيء، تقول دخل عليه ضرر في ماله، والضرر الضيق. وقد ورد في الشرع بصيغة الكلي “لا ضرر ولا ضرار”. () وهي كليةٌ سالبةٌ بنى عليها الفقهاء كليةً موجبةً “الضرر يزال”.

وهذه القاعدة مستنبطة من القرآن الكريم استقراء ومن السنة نصاً، ومن الاجماع نقلاً، قال القاضي أبوبكر ابن العربي: والضرر لا يحل بإجماع”. {أحكام القرآن 1/628}

ومن حيث المذهب فإن مالكاً رحمه الله تعالى يقول: وليس عندنا في قلة الضرر وكثرته شيء معروف. كما نقل علي بن عبدالسلام التسولي في “البهجة شرح التحفة”().

قال التاودي بن سوده في شرحه “حلى المعاصم” وهو يصور كيفية شهادة الشهود: إن فلاناً يضرب زوجته فلانة بضرب أو شتم في غير حق أو تجويع أو عدم كلام أو نحو ذلك مما يقضى العرف أنه ضرر، قال مالك: وليس عندي في ذلك شيء معروف.{1/541}

وهذا لا يعني أنه لا فرق بين شديد وخفيف ولا بين قوي وضعيف، إلا أن ذلك مُحَال إلى العرف كالكثير من الكليات الشرعية. وهو يدل على أنه في أصل المذهب لا حد له ولا ينضبط ألا بالاجتهاد العرفي إلا أن علماء المذهب حاولوا ضبطه من خلال الأمثلة.

فقد مثل له الشراح ومن أقدم الأمثلة التي ذكروا كلام صاحب السليمانية -وهو تلميذ سحنون- وفيه تحويل الوجه، وبعد ذلك اختلفوا في ضرورة تكرار الضرر أو الاكتفاء بالمرة الواحدة.

فقال المواق عند قول خليل (ولها التطليق بالضرر ولو لم تشهد البينة بتكرره): قال ابن سلمون: إذا ثبت للمرأة أن زوجها يضربها وهي في عصمته فقيل لها أن تطلق نفسها كما تفعل إذا كان ذلك شرطا . وقيل : ليس لها أن تطلق نفسها حتى يشهد بتكرر الضرر . انظر بعد هذا قول مالك: من باع زوجته طلقت عليه. وانظر إذا كان لها شرط في الضرر . قال في السليمانية : إذا قطع الرجل كلامه عن زوجته أو حول وجهه عنها في فراشها، فذلك من الضرر بها ولها الأخذ بشرطها . وقال المتيطي : إذا ثبت أنه يضر بزوجه وليس لها شرط، فقيل إن لها أن تطلق نفسها وإن لم تشهد البينة بتكرار الضرر () وقال الدسوقي إنها إن شهدت أنه حصل لها مرة واحدة، فلها التطليق بها على المشهور().

ويقول العدوي: “الضرر المعهود الذي لها التطليق به، كأن ينقصها حقها في النفقة أو يكلفها شغلا لا يلزمها خدمته أو يشتمها أو يضربها ضربا مبرحا أو لغير أدب احترازا من غيره، كما إذا أدبها على ترك الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة”()؛ ولأن الضرر بالزوجة مخالف للمقصود من النكاح وهو الألفة وحسن العشرة، والنكاح من عقود الأبدان، وهي لا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر؛ فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة().

وقال الدردير: وهو ما لا يجوز فعله شرعا من هجرها بلا موجب شرعي وقطع الكلام عنها وتولية وجهه عنها في الفراش وضربها أو سبها أو سب أبيها, نحو يا بنت الكلب يا بنت الكافر يا بنت الملعون . وكوطئها في دبرها().

قلت: وما درج عليه خليل وشروحه من القول بالتطليق بالضرر في المرة الواحدة ليس على إطلاقه لوجود فرق بين الضرر القوي الذي تكفي فيه المرة الواحدة كالضرب المبرح أو المثلة كحلق رأسها، وبين الضرر الخفيف الذي لا يخلو منه الأزواج كالمشاتمة. وقد نبه على ذلك علي بن عبد السلام التسولي في “البهجة في شرح التحفة” حيث قال: الثَّالث: لا بُد من تكرار الضَّرَر حيث كان أمراً خفيفاً فإِنْ كان ضرباً فاحشاً كان لها التَّطْلِيق به ولو لم يتكرَّر كما مر أول الفصل عن المُتَيْطِيَّة وقول(خَ) ولها التَّطْلِيق بالضَّرر ولو لم تشهد البَيِّنَة بتكرره لا يعول عليه، بل لا بُدّ من التّكرار حيثُ كان خفيفاً كما مرّ. ولذا قال بعضهم: هو على حذف الصّفة أي: ولها التَّطْلِيق بالضَّرر البين أي الفاحش، والقول الثَّاني: في النّظم صريح في اشْتِرَاط التكرير إلَّا أن ظاهره أنه لا بُد من الزّجر والتكرار ولو كان بيناً فاحشاً وليس كذلك كما في النَّقل. قال ابن عبد الصَّادق المذكور مُعترضًا على ظاهر لفظ(خَ) ما نصه: والعجب كيف تطلق المرأَة نفسهَا بالمرة الواحدة من تحويل وجهه عنها وقطع كلامه ومشاتمته إلى غير ذلك ممَّا عدوه من الضَّرر بالمرة الواحدة إِذْ لا يخلُو عنه الأزواج مع أن مسائل مبنيَّة على ثُبُوت التّكرار كالسكنى بين قوم صالحين وبعث الحكمين واختبارهما أمور الزَّوجين المرة بعد المرة قال: وَقد نزلت فاحتج بعض المفتينَ بظاهر(خَ) وخالفه غيره فعظم الأمر حتَّى وصل إلى أمير الوقت فحكم بأنَّه لا بُد من التّكرار.

فما ذكروه من “تحويل الوجه” الذي لاحظتم غير مسلّم لهم إلا لقوم عادتهم تستقبح ذلك استقباحا شديدا أو لكون المرأة شريفة ونحو ذلك. ولهذا فقد أنكر ابن عبد الصادق الاكتفاء بالمرة الواحدة في مثل هذا النوع، كما مر.

قلت: والفيصل في كل هذا هو العرف الذي يجب على القاضي أو من يقوم مقامه أن يحقق المناط من خلاله ليفرق بين ضرر شديد لا يشترط تكراره وبين ضرر متوسط أو خفيف. إذ يقول القرافي في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”.

ولهذا يمكن أن يكون الضابط في الضرر الموجب للتطليق على الزوج هو: كل أذى ظاهرٍ يلحق الزوجة في دينها أو بدنها أو عرضها أو مالها أو حق من حقوقها الثابتة لها بالشرع أو بالشرط أو بالعرف –حسب تقدير القاضي أو من يقوم مقامه- فإنه يخولها حق التطليق.

ثم الزوجة إذا حصل الأذى الظاهر وأرادت الطلاق، تكون طلقة واحدة بائنة()؛ لوجهين:

أحدهما كلي، والآخر معنوي. أما الكلي فكل طلاق يحكم به الحاكم فإنه بائن، سوى ما استثني من طلاق لإيلاء أو عسر بالنفقة.

الثاني: أن المعنى الذي لأجله وقع الطلاق هو الضرر، ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الضرر، كما كان أول دفعه، فلم يكن ذلك يفيد شيئا؛ فامتنعت الرجعة لأجله. كما قال القاضي ابن العربي في مسائل الشقاق. ().

ثانيا: وللرد على الأسئلة الخمسة المتعلقة بالشقاق وبعث الحكمين ينبغي أن نقدم بمقدمة عن حالة الشقاق بين الزوجين وهي تنحصر في ثلاث حالات:

الأولى: أن يكون النشوز منها فيعظها، فإن هي قبلت، وإلا هجرها، فإن هي قبلت، وإلا ضربها ضرباً غير مخوف. فإن غلب على ظنه أنها لا تترك النشوز إلا بضرب مخوف لم يجز تعزيرها أصلاً. أو ظن أنه لا يفيد فلا يكون مشروعاً قال خليل:”إنْ ظن إفادته”.

الحالة الثانية: أن يكون العدوان منه بالضرب والإيذاء، فيزجر عن ذلك، ويجبر على العود إلى العدل، وإلا طلقت بالضرر كما أسلفنا.

الحالة الثالثة: أن يشكل الأمر، وقد ساء ما بينهما، وتفاقم أمرهما، وتكررت شكواهما ، ولا بينة مع واحد منهما على الضرر، ولم يقدر على الإصلاح بينهما، فيبعث من جهة الحاكم أو من جهة الزوجين، أو من يلي عليهما حكمان لينظرا في أمرهما() .

قال المواق() : “وعبارة اللخمي : إذا اختلف الزوجان وخرجا إلى ما لا يحل من المشاتمة والوثوب كان على السلطان أن يبعث حكمين ينظران في أمرهما , وإن لم يرتفعا ويطلبا ذلك منه. فلا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المآثم وفساد الدين. ونص الوثيقة عند المتيطي : وسألهما إقامة البينة على ما زعماه من الإضرار فذكرا أن لا بينة لهما وأشكل عليه من المضر بصاحبه منهما فدعاهما إلى الصلح فأبياه، فلم يكن بد من توجه الحكمين”.

وقال الباجي: والأصل في بعثة الحكمين قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ذهب جمهور العلماء إلى أن المخاطب بقوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الحكام() .

أما ما يخص سؤالكم عن شروط الحكمين في المذهب؟

فيشترط فيهما ما يلي: الذكورة ، والعدالة ، والرشد ، والفقه بما حكما فيه. فيبطل حكم من اتصف بأحد أضدادها, كالمجنون، وغير الفقيه بباب أحكام النشوز؛ لأن كل من ولي أمرا يشترط معرفته بما ولي عليه فقط().

قال في المدونة: إن اجتمع الزوجان على بعث رجل واحد أيكون كالحكمين قال نعم إن صلح لذلك(). وفسره بانتفاء الصفات التي يجب توفر اضدادها. وقال ابن جزي: “ويجب أن يكونا مسلمين عدلين فقيهين ().

قال خليل:”وبطل حكم غير العدل وسفيه وامرأة وغير فقيه لذلك”، إلا أن خليلا في توضيحه وهو شرحه لابن الحاجب ذكر عن عبدالملك وأشهب وأصبغ أن حكم المرأة والعبد العارفين المأمونين جائز ما لم يكن خطأ بينا”. {محنض باب “ميسر الجليل” 2/226}

وما ذكره خليل وغيره من علماء المذهب من بطلان حكم الحكمين إذا لم يكونا عدولاً رشداء ذكورا، وعارفين بالأحكام يجب أن يقيد بأحوال الزمان والمكان وأن لا تضيع مصالح العباد فلكل دهر أحكامه التي وإن ظُن في بادئى الرأي أنها مخالفة للنصوص في المذهب فإنها موافقة لأصوله وقواعده في مراعاة المصالح وسد ذرائع الفساد، فيكون اختلاف زمان وليس خلاف حجة وبرهان، كما يقول السادة الأحناف.

قال خاتمة المحققين في بلاد شنقيط سيدي عبدالله ولد الحاج إبراهيم رحمه الله تعالى “صاحب مراقي السعود” في كتابه “طرد الضوال والهمل عن الكروع في حياض العمل”: فرع: شهادة اللفيف حيث وجد المستورون، أمـا إذا كان أهل البلد كلهم فساقا فقد نقل القرافي في «الذخيرة» عن ابن أبي زيد: إن لم يوجد في جهة إلا غير العدول أقيم أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم؛ لكيلا تضيع المصالح.

قال: ومـا أظن أنه يخالف أحد في هذا، فإن التكليف مشروط بالإمكان، وفي المذهب لابن رشد أن الموضع إذا لم يكن فيه عدل قبلت شهادة أفضلهم ومثل هذا عن أحمد بن نصر)().

قلت: وما نقله عن الذخيرة هو في النسخة المطبوعة إلى قوله: فإنَّ التكليف مشروط بالإمكان.

وبقية النص ليست فيها، فلعلها في نسخة الشيخ الذي عاش في القرن الثاني عشر والعقود الأولى من الثالث عشر، أو لعله كلام مستقل عزاه لابن رشد وأحمد بن نصر.

ثم إنَّ تحكيم غير العدول لو لجأ إليه القاضي فلا بد أن يكون في أضيق الحدود وتحت الرقابة الشديدة لئلا يتصرفا في عصم النساء بالهوى والجور، لاسيما وحكم الحكمين بالبينونة نهائي لا يفتقر لرضا الزوجين ولا موافقة القاضي كما سترى. –والله أعلم-.

وأما سؤالكم عن الحكمين هل يشترط فيهما أن يكونا من أهل الزوجين أم لا ؟

فالجواب عليه وعلى السؤالين بعده؛ لأنهما مكملان له : هو أنه قد ورد في المذهب قولان: القول الأول وهو المفتى به أنه يشترط وجوبا أن يكون الحكمان من أهل الزوجين ما أمكن ذلك بأن توفرت فيهما شروطهما المتقدمة ولم يوجد المانع؛ والحكمة في ذلك هي: أن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح، ونفوس الزوجين أسكن إليهما، فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة؛ فأحكم الله سبحانه الأمر بأهله.

وبناء على ذلك فلا يجوز للحاكم أن يبعث أجنبيين مع وجود الأهل. وينتقض الحكم إذا بعث القاضي أجنبيين مع وجودهما من أهل. قال في التوضيح: ظاهر الآية أن كونهما من الأهلين مع الوجدان واجب شرطا().

وقال الصاوي أيضا معلقا على الشرح الصغير للدردير عند “قوله [ فإن لم يمكن فأجنبيين]”: فإن بعَث أجنبيين مع الإمكان ففي نقض حكمهما تردد، والظاهر نقضه؛ لأن ظاهر الآية أن كونهما من أهلهما واجب شرطا كما في التوضيح ().

وقال الباجي في المنتقى: ( مسألة ) : ومن حكم الحكمين أن يكونا فقيهين ليعلما مواقع الحق ليحكما به ويكون أحدهما من أهله , والثاني من أهلها ; لأن الأهل أعلم بباطن أمرهما وأعرف بوجوه منافعهما ويكونان عدلين ليؤمن جورهما , فإن لم يكن من أهلهما من هذه صفته جاز أن يكونا أجنبيين والله أعلم().

والقول المرجوح في المذهب أن كون الحكمين من الأهل مع الإمكان ليس واجبا ولا شرطا وإنما هو من الكمال والاستحباب. ويمثل هذا القول ابن شاس؛ حيث قال: “والأكمل أن يكون حكم من أهله، وحكم من أهلها. فإن لم يكن لهما أهل ، أو كان، ولم يكن فيهم من يصلح لذلك لعدم العدالة، أو لغير ذلك من المعاني، فإن الحاكم يختار حكمين عدلين من المسلمين لهما … ويستحب أن يكونا جارين().

فإن لم يوجد الحكمان على هذه الصفة من الشروط المتقدمة في أهل الزوجين فيبعث حكمين أجنبين، أما لو كان الصالح للحكم متوفراً في إحدى العائلتين دون الأخرى فهل يلزم تحكيم الأجانب في هذه الصورة.

الجواب أن فقهاء المذهب اختلفوا في هذه الصورة على قولين أحدهما لابن الحاجب وهو أنه ينتقل إلى الأجنبيين إذا لم يوجد الحكمان أو لم يوجد أحدهما على حد سواء.

والثاني لأبي الحسن اللخمي وهو بعث الحكم الصالح المتوفر من الأهل وبعث الثاني من الأجانب، كما نص عليه الزرقاني والخرشي، ونص هذا الأخير: قال في التَّوضيح ظاهرُ الآية أَنَّ كونهما من الأهلين مع الوجدان واجبٌ شرطًا فلو أمكن إقامة الأهل من أحد الزّوجين دون الآخر فهل يتعيَّن كونهما أجنبيَّين أو يُقام الذي من الأهل وأجنبيٌّ من الجانب الآخر، وعلى الأول ابن الحاجب وعلى الثَّاني اللَّخميُّ وهو مُوافقٌ لكلام المؤلِّف لأنَّ مفهوم إنْ أَمْكنَ عدمُ الإمكان من الجانبين أو أحدهما.

وذكر العدوي في حاشيته على الخرشي أن قول اللخمي هو الذي يعول عليه.

وأن كلام ابن الحاجب يرد إليه.

ولهذا فإنّ الذي يظهر هو: جواز أن يكون أحد الحكمين من الأهل والأخر أجنبيا طبقا للشروط وحسب الحالة. –والله أعلم-.

وأما عن سؤالكم: ما هو ترتيب الترجيح لو وجب التحكيم من أهل الزوجين؟ فلم يتبين لي المقصود منه حتى أجيب عليه.

وأما عن سؤالكم هل يتمكن الحكمان من التفريق بدون رضا الزوج؟

فالجواب عليه ، هو أن في المذهب قولين مبنيين على الخلاف في كونهما حكمين أو وكيلين أو شاهدين:

فالقول المفتى به في المذهب هو الأول من كونهما حكمين لا وكيلين ولا غير ذلك، وعليه فلا يشترط رضا الزوج ولا الحاكم إذا حكما بالطلاق.

والدليل على هذا ما ذكره القرطبي في تفسيره قال: ” قال: جاء رجل وامرأة إلى علي مع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وقال للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. وقال الزوج: أما الفرقة فلا. فقال علي: كذبت، والله لا تبرح حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عبيدة، قال أبو عمر: فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وكلتما؟ وهذا بين().

كما استدل ابن العربي على ذلك بالنظر، فقال: “فإن الله خاطب غير الزوجين إذا خافا الشقاق بين الزوجين بإرسال الحكمين، وإذا كان المخاطب غيرهما فكيف يكون ذلك بتوكيلهما؟، ولا يصح لهما حكم إلا بما اجتمعا عليه، والتوكيل من كل واحد لا يكون إلا فيما يخالف الآخر، وذلك لا يمكن هاهنا”().

قال ابن شاس: “ثم المبعوثان حكمان لا وكيلان ، وإن كان البعث من جهة الزوجين، ألا ترى أن للزوجة دخولاً في التحكيم ، ولا مدخل لها في تمليك الطلاق. وقيل: بل هما وكيلان.

وإذا فرعنا على الأول ، فينفذ تصرفهما في التطليق والخلع إن رأياه ، لعجزهما عن الإصلاح من غير افتقار إلى إذن الزوج ، ولا إلى موافقة حكم حاكم البلد”().

وقال الباجي : (مسألة ) وما يحكم به الحكمان فعلى وجه الحكم لا على وجه الوكالة , والنيابة فينفذ حكمهما, وإن خالف مذهب الحاكم الذي أنفذ سواء جمعا أو فرقا ، والدليل على ذلك قوله تعالى {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} فسماهما حكمين, والحكَم لا يحتاج فيما يوقعه من الطلاق إلى إذن الزوج كالولي().

وقال المواق عند قول خليل في المختصر: ( ونفذ طلاقهما وإن لم يرض الزوجان والحاكم ولو كانا من جهتهما ): انظر قوله “ولو كانا من جهتهما” هو فرع: هل هما وكيلان أو حكَمان من غير إذن الزوج وحكم الحاكم. ابن الحاجب: وهما حكمان ولو كانا من جهة الزوجين لا وكيلان على الأصح ، فينفذ طلاقهما من غير إذن الزوج وحكم الحاكم().

ويقول الخرشي: المشهور أن الحكمين طريقهما الحكم لا الوكالة ولا الشهادة ولو كانا من جهة الزوجين فإذا حكما بطلاق ولو خلعا نفذ ولا يحتاج إلى مراجعة حاكم البلد ولا إلى رضا الزوجين ومحل نفوذ طلاقهما إن لم يزيدا في حكمهما على طلقة واحدة وإلا فلا ينفذ الزائد على الواحدة لأن الزائد خارج عن معنى الإصلاح الذي بعثا إليه وإذا حكم أحدهما بواحدة والآخر بأكثر أو بألبتة فلا يلزم الزوج إلا واحدة لاتفاقهما عليها ().

ويقول الدسوقي : (قوله لأن طريقهما الحكم) أي على المشهور، أما على القول بأن طريقهما الوكالة عن الزوجين فلا ينفذ طلاقهما إلا إذا رضي به الزوجان بعد إيقاعه؛ لأنه قد يدعي أحد الزوجين أن ذلك الطلاق خلاف المصلحة، وأما على القول بأن طريقهما الشهادة عند الحاكم بما علما فلا ينفذ طلاقهما إلا إذا رضي به الحاكم ونفذه().

وقال العدوي: “واعلم أن ظاهر العبارة أن يقول: الحكمان إما طريقهما الحكم أو الشهادة أو الوكالة، فتكون الثلاثة متقابلة، وليس كذلك. بل المراد أن يقول: طريقهما الحكم على وجه الحكم لا على وجه الوكالة كما أفصح به الباجي، فقال: حكمهما على وجه الحكم لا الوكالة فينفذ وإن خالف مذهب من بعثهما. انتهى أي فحكمهم متفق عليه بل النزاع إنما هو في حكمهم الذي حكموا به هل هو على وجه الحكم أو الوكالة().

ويقول ابن جزي: (الحالة الثالثة) أن يشكل الأمر وقد ساء ما بينهما وتكررت شكواهما ولا بينة مع واحد منهما ولم يقدر على الإصلاح بينهما، فيبعث حكمان من جهة الحاكم أو من جهة الزوجين أو من يلي عليهما لينظرا في أمرهما وينفذ تصرفهما في أمرهما بما رأياه من تطليق أو خلع من غير إذن الزوج ولا موافقة الحاكم وذلك بعد أن يعجزا عن الإصلاح بينهما().

وأما عن سؤالكم : لو وجد قاض إلا أنه لا يحكم بمقتضى الشرع ، فهل يمكن قيام جماعة المسلمين مقام القاضي في هذه الصورة؟

فالجواب عليه: هو أن جماعة المسلمين تقوم مقام الحاكم والقاضي في حالة تعذر وجودهما أو عدم أهليتهما في حل النزاع والخصومة بين الناس، الأمر الذي تحل به مشاكل المسلمين ولو خارج البلدان الإسلامية على ما أصبح يعرف بـ(فقه الأقليات).

ومن ذلك: قول الدسوقي: “اعلم أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم أو لكونه غير عدل اهـ خش والواحد منهم كاف كما قاله شيخنا تبعا لعبق”().

وفي المعيار: وسئل أيضا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم وأشريتهم ونكاحهم؟

فأجاب: بأن العدول يقومون مقام القاضي والوالي في المكان الذي لا إمـام فيه ولا قاضي.

قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجمـاعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كل مـا جرى على الصواب والسداد في كل مـا يجوز فيه حكم السلطان، وكذلك كل مـا حكم فيه عمـال المنازل من الصواب ينفذ().

وفي الحطاب صدر باب القضاء: الرابع: قال البرزلي في مسائل الأقضية عن السيوري: إذ تحرج الناس لعدم القضاة أو لكونهم غير عدول فجماعتهم كافية في جميع ما وصفته، وفي جميع الأشياء، فيجتمع أهل الدين والفضل فيقومون مقام القاضي مع فقده في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك.

قلت: تقدم أن الجماعة تقوم مقام القاضي مع فقده إلا في مسائل تقدم شيء منها. انتهى. انظر المشذالي في كتاب الاجتهاد فإنه ذكر أن الجماعة تقوم مقام القاضي في مسائل، وذكر ذلك أيضا في كتاب الصلح، وذكره البرزلي في كتاب السلم، وقد ذكرت كلام المشذالي في باب النفقات في الطلاق على الغائب بالنفقة، والله أعلم.

وما ذكروه من الافتيات على القاضي غير العدل -والذي يمكن أن يدخل فيه من لا يحكم بالشريعة- ينبغي أن ينظر فيه إلى حال البلد بحيث لا يثير خصومة ولا تهديداً للسلم الاجتماعي، بل يتعين أن يكون الطرفان متفقين على ذلك، فيكون بمنزلة التحكيم. -والله أعلم-.

وأما سؤالكم: هل يسوغ للقاضي أن يحكم في مثل هذه الصور بفسخ النكاح على أساس الشقاق بين الزوجين من دون أن يبعث الحكمين؟

فالجواب عليه وعلى السؤال الذي بعده، هو: أن القاضي في حالة الشقاق بين الزوجين وعدم ظهور وجه الحق بينهما بالبينة أو الإقرار يلزمه بعث الحكمين ولا يحكم هو ولو علم في نفسه الظالم من المظلوم، قال ابن العربي : “والحكمة عندي في ذلك وهي:

المسألة السادسة: أن القاضي لا يقضي بعلمه، فخص الشرع هاتين الواقعتين بحكَمين؛ لينفذ حكمهما بعلمهما، وترتفع بالتعديد التهمة عنهما().

وظاهر كلام علمائنا إن القاضي لا يقوم بالتفريق بين الزوجين في حال التباس أمرهما وظهور الشقاق بينهما وإنما يرسل حكمين إليهما.

فمن ذلك على سبيل المثال:

قال ابن العربي: “إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين ولا ينتظر ارتفاعهما؛ لأن ما يضيع من حقوق الله أثناء ما ينتظر رفعهما إليه لا جبر له”().

وقال المواق: “قال في المدونة: إن لم يصل لمعرفة الضار منهما أرسل الحكمين(). وسألهما إقامة البينة على ما زعماه من الإضرار فذكرا أن لا بينة لهما وأشكل عليه من المضر بصاحبه منهما فدعاهما الصلح فأبياه فلم يكن بُدٌّ من توجه الحكمين”().

وقال عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الجياني:”والذي نراه أن يرسل إليهما حكمين كما قال الله عز وجل في محكم كتابه لا يجوز غير ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ …} [الأحزاب: 36] وآية الحكمين محكمة لا نعلم لها ناسخًا فالعمل بها أمر فرض واجب وأمر لازم. ()

وقال أيضا: “قال ابن لبابة: القول بالحكمين مما لا يجوز الحكم بغيره عندي؛ لأن الله تعالى حكم به وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء إلى مالك وهلم جرا”().

وقال الطاهر بن عاشور: “والآية دالة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق”().

قلت: ومع ما ذكره علماء المذهب من وجوب بعث الحكمين فإنهم لم يوضحوا شرطية تحكيم الحكمين ليكون حكم القاضي باطلا في حال تجاوزه لهما. ولهذا فالذي يظهر لي أن القاضي إذا تعذر عليه بعث حكمين لعدم قبولهما أو لعدم وجود من تنطبق عليه صفات الحد الأدنى للحكمين ، -نظرا لحال الزمان- يمكن أن يحكم في المسألة دون أن يعتمد طريق الحكمين، بمعنى أنه في هذه الحالة لا يحكم بمجرد علمه كما هو شأن الحكمين، ولكن بمقتضى البينات بعد أن يدعو إلى الصلح ويستنفد الوسائل، وحينئذ فإن حكمه إما أن يكون بالتفريق بينهما بناء على ثبوت الضرر من الزوج، أو بإيجاب الخلع إذا كان الضرر من قبل الزوجة، وبناء على ما يظهر له من المصلحة قياساً على الحكمين في حال استمرار الخلاف.

وقد رأى بعض المتأخرين من أهل المذهب أن الزوجين لا يجوز تركهما أو ترك أحدهما على معصية كما لو كانت الزوجة ناشزاً وأُيس من إصلاحها فالقاضي يطلقها عليه بخلع، وفي عدمه تُطلقها جماعة المسلمين، قال ابن حمى الله الشنقيطي:

ولا يجوز ترك ناشز على عصيانها والزوج حتما قبلا

فِداءها بما أحب ممكنا إلا يطلقها عليه الأمنا

وأصل هذا الرأي في بلاد شنقيط للشيخ/ سيدي أحمد بن القاسم الحاجي الواداني الذي ألف رسالة في وجوب تطليق الناشر سماها “مفتاح الكنوز في طلاق النشوز” اختصر فيها رأيه بقوله: على أن الزوجة إذا نشزت واستعصت على زوجها بغضا له كان على الإمام أو من يقوم مقامه أن يطلقها على زوجها بخلع وإن لم يرض زوجها بذلك سواء كانت الإساءة منها أو من الزوج أو منهما أو أشكل الأمر فيها”.

وتبعه تلميذه العلامة ابن الأعمش العلوي من أكبر فقهاء القرن الثاني عشر الشناقطة، وقد جمع العلامة/ النابغة الغلاوي صاحب الطليحة فتاوى هؤلاء في نازلة له.

وقد تعلق هؤلاء العلماء بقولهم: إن الحاكم لا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المآثم وفساد الدين.

واعتمدوا على درء المفسدة الحاصلة من استمرار الشقاق بين الزوجين ولو كانت من جهة الزوجة مستشهدين بحديث زوجة ثابت بن قيس بن شمَّاس المعروف وقد أمرها عليه الصلاة والسلام بالمخالعة ولفظه للبخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فقالتْ: يا رسول اللَّهِ، ثابت بن قيسٍ ما أَعِيبُ عليه في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكنِّي أكْرَهُ الكفر في الإسلام، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فقالتْ: نعمْ، فقال رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: اقْبَلْ الحديقة وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» رواه البخاريُّ، وفي روايةٍ له: «وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا».

وقد قال محمد بن عبد الباقي الزرقاني -في شرحه للموطإ-: الأمرُ هنا أمر إرشاد وإصلاح لا أمر إيجاب. وكذلك الحافظ في “فتح الباري”.

أما الصنعاني فقد رأى أنه أمر إيجاب وأن تطليق الكارهة وقبول الخلع لازم فقال في “سبل السلام”: وأمَّا أمرُه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بتطليقه لها فإنَّه أمرُ إرشادٍ لا إيجابٍ كذا قيل، والظَّاهر بقاؤُه على أصله من الإيجاب، ويدلُّ له قوله تعالى{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإنَّ المراد يجب عليه أحدُ الأَمرَيْن، وهنا قد تعذَّرَ الإِمساكُ بمعروفٍ لطلبها للفراق فيتعيَّنُ عليه التَّسْريحُ بإحسانٍ.

ومع أن هذا الرأي لا يعتبر قولاً في المذهب فإنه يعتبر اجتهاداً في المذهب مخرجاً على أصوله وقواعده.

وقول هؤلاء قد يكون متعيناً إذا لم يوجد حكم على الصفة الشرعية في زمان يتعذر فيه ما ذكره علماؤنا من إجبار المرأة على الرجوع إلى بيت الزوجية بالتأديب. ولهذا فلا بد أن يتصرف القاضي أو من يقوم مقامه تصرفاً يرفع الحرج ويخفف من الضرر.

والوجه عندي في ذلك: أن القاضي عندما يرتفع إليه الزوجان في حالة شقاق يباشر بحث القضية -كما هو الأصل- ويستمر في ذلك دون إعلان “الإشكال” الذي هو مناط بعث الحكمين، إذ من حق القاضي أن يدعوهما إلى الإصلاح وأن يبحث عن حقيقة أمرهما ليطبق الإجراءات في حال ظهور الشقاق من أي منهما. وقد يطلع على ما يوجب التطليق فيجريه طبقاً لأحكام الضرر أو أحكام النشوز بناء على رأي الشيوخ ، الذين أشرنا إليهم سابقاً، مستندا إلى المصلحة الراجحة وارتكابا لأخف الضررين. والله أعلم.

وأما سؤالكم: وفي صورة ما لو حكم القاضي كذلك فهل يعتبر حكمه بفسخ النكاح نافذاً شرعاً أم لا ؟

الجواب -والله أعلم-: أنه ينظر في مستند الحكم بناء على ما وصفناه في جواب السؤال السابق بمعنى أن القاضي إذا كان قد اعتمد على ما ثبت عنده من إضرار الزوج بزوجته فحكم بالتطليق لذلك فحكمه صحيح لأنه لا إشكال في حال ثبت الضرر أو حكم بالتطليق بناء على ظلم الزوجة ونشوزها درء للمفسدة وحكم للزوج بمال ليكون بمنزلة الخلع، فيكون حكمه ما قدمناه عن متأخري الشناقطة.

أما إذا لم يصرح بوجود ظلم أو إضرار من أي من الطرفين أو وجوده منهما على السواء فهذا محل الاشكال الذي يوجب بعث الحكمين، يقول ابن فرحون: إنْ عمي على الحاكم خبرهما وطال تكررها ولم يعلم ظالمهمالم يسعه أن ينظر في أمرهما بغير الحكمين”.

وللحكمين فقط صلاحية إصدار حكم بالطلاق بمال أو بدونه نظرا للمصلحة دون أن يعلنوا ظلم طرف لآخر، وهو حكم ليس للقاضي إصداره دون أن يستند إلى ضرر من الزوج للزوجة أو إلى مصلحة في قطع النزاع بناء على نشوز الزوجة؛ إذا لم يوافق الزوج على الطلاق والتنازل بمال إن وافقت الزوجة أو بدون مال إذا سمح الزوج بذلك فلن يكون الحكم هنا حكم القاضي لكنه سيكون قرارا من أحد الزوجين أو منهما يثبته القاضي، وهنا تكون دقةُ فهم القاضي وتحريه أمراً لا غنى عنه ليصل بكل وسيلة مشروعة إلى تحديد المضر بصاحبه منهما، وإن كان الضرر متبادلاً فأيهما أكثر إضراراً بصاحبه، ومن هذه الوسائل على سبيل المثال ما ذكره المالكية من تسكينهما مع قوم صالحين. قال ابن الهندي في وثائقه: إذا لم تقم بينة وادعى كل واحد إضرار صاحبه زجرا معاً وإن تكرر تردادهما أمره القاضي أن يسكنها بين قوم صالحين”. قال خليل:”وبتعديه زجره الحاكم وسكنها بين قوم صالحين”. المراد من هذا أن القاضي قبل أن يصل إلى الإشكال الموجب لبعث الحكمين له صلاحيات في البحث والتنقيب عن حال الزوجين ليصلح ما بينهما إن أمكن بزجر الظالم أو زجرهما، أو ليفرق بينهما طبقا للمستندات الشرعية.

هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والله يحفظكم ويرعاكم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عبدالله بن بيـــــــــــــــّــــه

([1]) رواه أبو نعيم في الحلية “9/76” ورواه مالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق وبرقم “31”. وابن ماجه في كتاب الأحكام باب من بني في ما يضر بجاره وبرقم “2340” وبرقم “2341” – أخرجه الدار قطني والحاكم قائلا: إنه صحيح على شرط مسلم. والبيهقي وغيرهم من طرق مختلفة يقوي بعضها بعضاً كما يقول النووي.

([2]) التسولي “البهجة شرح التحفة” 1/

([3]) التاج والإكليل للمواق 4/17.

([4]) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/345.

([5]) حاشية العدوي على كفاية الطالب 2/113.

([6]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/541.

([7]) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 2/345.

– التسولي البهجة شرح التحفة 1/ 548

– القرافي الفروق 1/176- 177

([10]) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/345.

([11]) أحكام القرآن لابن العربي 1/142. ومختصر خليل ص134

([12]) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2/158. دراسة وتحقيق: أ. الدكتور حميد بن محمد لحمر.

([13]) التاج والإكليل للمواق 5/264.

([14]) المنتقى للباجي 4/113.

([15]) شرح مختصر خليل للخرشي 4/9.

([16]) انظر: المدونة الكبرى 5/268.

([17]) انظر: القوانين الفقهية ص 142، وأحكام القرآن لابن العربي 1/142.

([18]) سيدي عبد الله في طرد الضوال والهمل (ص25).

([19]) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي 2/344، دار الفكر، وشرح مختصر خليل للخرشي مع حاشية العدوي عند قول خليل (من أهلهما إن أمكن) 4/8.

([20]) بلغة السالك لأقرب المسالك المعروف بحاشية الصاوي على الشرح الصغير (الشرح الصغير هو شرح الشيخ الدردير لكتابه المسمى أقرب المسالك لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ) لأبي العباس أحمد بن محمد الخلوتي، الشهير بالصاوي المالكي 2/513، دار المعارف

([21]) المنتقى شرح الموطإ لأبي الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي 4/114، مطبعة السعادة – بجوار محافظة مصر، الطبعة: الأولى، 1332 هـ.

([22]) انظر: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2/158، تحقيق أ د. حميد بن محمد لحمر.

– شرح الخرشي على المختصر بحاشية العدوي 4/8

– العدوي حاشية على الخرشي 4/8

([25]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/177.

([26]) أحكام القرآن لابن العربي 1/538.

([27]) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2/158.

([28]) المنتقى للباجي 4/114.

([29]) التاج والإكليل للمواق 5/265، كتاب القسم والنشوز.

([30]) شرح مختصر خليل للخرشي 4/9.

([31]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/345.

([32]) حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي 4/10.

([33]) القوانين الفقهية لابن جزي ص 142.

([34]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2/519.

([35]) الونشريسي في المعيار (10/102ـ 103).

– الحطاب مواهب الجليل 6/297

([37]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/541.

([38]) أحكام القرآن لابن العربي 1/143.

([39]) التاج والإكليل للمواق 5/263.

([40]) نفس المرجع 5/264.

([41]) الإعلام بنوازل الأحكام للإمام أبي الإصبع عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الجياني 1/155، تحقيق: يحيي مراد، دار الحديث – القاهرة.

([42]) نفس المرجع 1/156،

([43]) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 5/46.

– محنض باب الديماني ميسر الجليل 1/15- 2/22

– الزرقاني شرح الموطأ 3/184

– الصنعاني سبل السلام

– ابن فرحون التبصرة 2/196

– حاشية البناني 4/61

Comments are closed.