بقية من السلف …

ضمن جمع من طلبة العلم، سعدت بدعوة كريمة من مركز دراسات مقاصد الشريعة الاسلامية الذي اسسه مؤخراً معالي الشيخ أحمد زكي يماني جزاه الله خيراً، وذلك للاستماع لمحاضرة قيّمة عن فقه المقاصد، نشأته وأطواره ومفهومه وتطبيقاته ومدارسه، والائمة الأعلام الذين كان لهم فضل تأسيسه وارساء قواعده ومعالمه، يلقيها شيخنا الجليل العلامة عبدالله بن بية، ولقد كان من اكتمال الفضل والأجر أن كانت المحاضرة في مكة المكرمة، وفي قاعة المحاضرات الفاخرة في مبنى مؤسسة مطوفي حجاج جنوب آسيا على مشارف البلد الحرام.


ارتجل شيخنا المحاضر ثلاثة أرباع المحاضرة، في لغة جميلة وتدفق سلس، وتمكّن نادر من النصوص تعين عليه ذاكرة حافظة وعقل مستوعب، وبقدر إعجاب المرء بكل ذلك، فقد كان جديراً بالاعجاب أيضاً قدرة الشيخ المحاضر على تبسيط مادة فقهية شديدة التعقيد، موغلة في التخصص الدقيق، لجمهور معظمه ليس من طلاب العلوم الشرعية، وذلك دون اخلال بالمادة العلمية، أو خروج عن المصطلحات الفقهية، لقد كنا في الواقع أمام مثل كريم لعلماء السلف الصالح في موسوعية علمهم الذي يحملونه في صدورهم فتتدفق به ألسنتهم، مع إدراكهم لوقائع عصرهم، وعظيم إلمامهم بكل مستجدات زمانهم وأحوال مجتمعاتهم، في زمن كثر فيه اجتراء أشباه المتعلمين على الفتيا، والخوض في دين الله والجدل في آياته سبحانه، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

***

ومن خلال ما أفاض به شيخنا الجليل من أقوال الأئمة والفقهاء حول فقه المقاصد على مر القرون، وجذور اختلافهم ومواضيع حواراتهم، ترتسم أمام المستمع صورة كريمة رائعة لعظمة ثقافة الاختلاف التي أرساها الشرع الحنيف في جوهر الحياة الفكرية والثقافية للامة، وأرسى بها حرية الرأي وفتح أبواب الاجتهاد وأعلى من قيمة العقل وأكد كرامة الإنسان.


إن دراسة فقه مقاصد الشريعة الغّراء، تُعتبر أساساً لا غنى عنه لفهم مراد الشارع الحكيم، واستنباط الاحكام من النصوص الشرعية (القرآن الكريم والسنة المطهرة) ومدخلاً لاستيعاب اجتهادات الأجيال المتعاقبة من فقهاء الإسلام عبر العصور، والتي بنيت في غاياتها النهائية على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، وبذلك يكون فقه المقاصد شاهداً على عظمة الشرع وكونه مرجع الامة وهاديها الذي يحقق مصالح العباد ويلبي احتياجاتهم في كل زمان ومكان.


لقد كتبت منذ عام، عن مركز دراسات فقه مقاصد الشريعة، والغايات التي يستهدف تحقيقها، والمهام التي يسعى لإنجازها (المدينة 28/3/1426هـ)

وقد كانت المحاضرة الأولى في سلسلة محاضرات هذا المركز لأستاذنا الدكتور محمد سليم العوا عن تطبيقات فقه المقاصد في التشريعات المعاصرة، ثم كانت محاضرة شيخنا الجليل عبدالله بن بية في مكة المكرمة هي الثانية، وأرجو أن تستمر هذه المحاضرات ونشاطات هذا المركز الهام الذي يأتي تأسيسه في وقت الأمة أحوج ما تكون اليه.

Comments are closed.