ابن بيه موسوعة علمية عملية أصيلة عصرية

 

لعل من العلماء والفقهاء القلائل الذين عرفتهم بالجمع بين الفقه بالنص الشرعي وحفظه وفهمه واستيعابه ، وفقه واقعه وتنزيله على ظروف الزمان والمكان ، فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن بية عرفته وعرفته الساحات الإسلامية بآرائه الفذّة واجتهاداته الواسعة في شتى أبواب الشريعة الإسلامية وشتى قضايا الأمة ومشكلاتها العويصة ، وهو من العلماء القلائل كذلك فيما أحسب الذين جمع الله لهم بين العلم والحكمة وعلم الحفظ وعلم الفقه وعلم الدين وعلم الدنيا ، فلم يعش الرجل بين بطون الكتب وحسب ، بل خاض غمار الحياة بمختلف جوانبها العلمية والعملية ، فقد عيّن رئيسا لمصلحة الشريعة في وزارة العدل الموريتانية ثم نائبا لرئيس محكمة الاستئناف ثم نائباً لرئيس المحكمة العليا ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية بهذه المحكمة . 

   ثم عيّن مفوضاً سامياً للشؤون الدينية برئاسة الجمهورية حيث اقترح إنشاء وزارة للشئون الإسلامية فكان أول وزير لهذه الوزارة ، ثم وزيراً للتعليم الأساسي والشؤون الدينية ، ثم وزيراً للعدل والتشريع وحافظاً للخواتم ، ثم وزيراً للمصادر البشرية – برتبة نائب رئيس الوزراء- ثم وزيراً للتوجيه الوطني والمنظمات الحزبية والتي كانت تضم وزارات الإعلام والثقافة والشباب والرياضة والبريد والبرق والشؤون الإسلامية.

 وأمينا دائما لحزب الشعب الموريتاني الحزب الوحيد الحاكم الذي كان عضواً في مكتبه السياسي ولجنته الدائمة من سنة 1970-1978م.

ويشغل حالياً منصب نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين .

 لم يمنعه العلم الشرعي الذي يحمله أن يترقى في دروب الحياة المختلفة ، كما يزعم البعض من أنه لا يمكن للعالم والفقيه أن يتولى المناصب والإدارات والوزارات ، وأن هذا يتعارض مع التفرغ لطلب العلم ، كلا ، لقد نقل العلامة بن بيه محفوظا ته وعلومه واجتهاداته ليس فقط إلى الكتب وصفحات المجلات وشاشات الفضائيات بل تجاوزها إلى تقلبات الحياة بمختلف شؤونها .

 وما أحوج الأمة إلى هذا النوع من العلماء والفقهاء الأفذاذ الذين يحملون العلم للعمل لا للحفظ ، والشيخ حفظه الله يجمع بين الاستظهار للفروع والجزئيات والرسوخ في علم المقاصد والأصول والقواعد ، وهو شأن قلّ رجاله في هذا الزمان .

لن أتحدث عن الرجل من جهة الجوائز والمنح التي حصل عليها ، وإن كانت هذه أيضاً تعد جانباً مهماً من حياة الرجل ، فقد حظي بالحب والرضى والقبول العام في الأمة ، وإنما أود أن أتحدث عن بعض نظرياته العصرية التي – فيما أحسب- أن الأمة في أمس الحاجة إليها .

دعوته إلى التقارب بين الشرق والغرب وأهمية تكامل الحضارات وليس صدامها كما يروج لذلك البعض وأهمية التفاهم مع الآخر , ومن هذا المنطلق كانت زيارات الشيخ بن بية للعالم الأوربي ومنها المملكة المتحدة ، حيث التقى الشيخ ” عبد الله بن بيه ” مع وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط و الكومنولث و الخارجية ” كيم هاولس ” و رئيس شرطة بريطانيا و العديد من الشخصيات المؤثرة في المجتمع البريطاني بالإضافة إلى محاضرات في ” مجلس اللوردات البريطانى ” و “وزارة الخارجية البريطانية ” و لقاءات تشاورية مع قيادات المسلمين في بريطانيا ..

الأمر الذي يعكس سعة الأفق لدى فضيلته حفظه الله ، فما أحوج الأمة هذه الأيام لأن تعكس ثقافة التعاون لا التصارع والتعايش لا الاقتتال في ظل هدى رب العالمين وشريعته التي جاءت بمبدأ “لكم دينكم ولي دين” الذي لا يعني القطيعة بين الحضارات والتقوقع على الذات والفصام بين الحضارات فهناك جوامع كثيرة بين الحضارات ينبغي أن تكون محل اجتماع وتعاون عليها .

وينبغي لعامة الغرب والسواد الأعظم منه أن يفهم هذه الحقيقة عن الإسلام إنه لا يقوم على سفك الدماء والقتل والإبادة والبغي بغير الحق التي ينتهجها ساسة الغرب وجنرالاته ، إنه دين الرحمة للعالمين ، والسلام والخير ، على خلاف ما يصوره الإعلام الغربي ، وأن الإسلام كذلك لا يرضى بالظلم والبغي والعدوان بل يقاومه ويجاهده أياً كان مصدره ومنبعه .

وهذا ما نادى وينادي به العلامة بن بية فقد ألقى محاضرة هي الأولى من نوعها في البرلمان البريطاني على ضرورة التفاهم بين الشرق والغرب ، وكذلك إسهامات الحضارتين ومدى التكامل الذي يجمع بينهما ، وأن العلاقة بين الإسلام والغرب يجب أن تكون علاقة تعايش ودعوة بالتي هي أحسن ، وليست علاقة صراع .

هذه الحقيقة كررها العلامة بن بية كلما سنحت له الفرصة ، كان آخرها رده على البابا بيندكت في جريدة الشرق الأوسط ، ورأينا هذا واضحاً جلياً في كتابه “معالم وضوابط التواصل مع الآخر ووسائله وآلياته”.

ولا شك أن هذا يعد نقلة كبيرة في الفكر الإسلامي المعاصر وبالأخص بين المتخصصين في علوم الشريعة ، وهذا يعدّ جانباً من جوانب التميز والسعة في العلم والفقه لدى العلامة بن بيه.

 كذلك عناية الشيخ بن بيه بمشكلات الأمة وحاجياتها ، فثمة قضايا ومشكلات معاصرة تحتاج إلى دراسة وتمحيص وإيجاد حلول جذرية لها ، وذلك واجب العلماء الربانيين ، وللشيخ بن بية من هذا نصيب الأسد ، فلم يخرج الشيخ عن عصره ليناقش قضايا عصر آخر تجاوزها الزمن بقرون كثيرة وحقب متباعدة ، بل غاص في مشكلات الأمة الحقيقية ليوجد لها الحلول الشرعية المناسبة لها ، ومن ذلك قضايا فقه الأقليات ، وقضايا التطرف وقضايا الفتيا ، وقضايا المرأة ، والعلاقة مع الآخر ، وكثير من المشكلات الاقتصادية والطبية والسياسية والاجتماعية ..، الأمر الذي جعل من الشيخ بن بيه موسوعة علمية عملية أصيلة عصرية .

ختاماً: هذا غيض من فيض عن جهود وأعمال الشيخ بن بيه حفظه الله ونفع به أمته ودينه ، أسأل الله الكريم أن يجعلها في موازين حسناته ، وأن يبارك للأمة فيه وفي علمه .

 

Comments are closed.