نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه حول الأشكال الجديدة للإتجار بالبشر – نيويورك-18-09-2017

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين  والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم وعلى إخوانه من النبيين.

السيدات والسادة،

نجتمع اليوم لمناقشة قضية من أهم القضايا في عصرنا، قضية ربما لا تحتاج للمزيد من المناقشة وإنما للمزيد من العمل.

لقد تمكن البشر في العصر الحديث من وضع الرق والاستعباد في شكله القديم وراء ظهورهم لكنهم لازالوا في حاجة لتكثيف الجهود من أجل مكافحة أشكاله الجديدة.

لقد شهدنا في القرن العشرين تَشكُّل أشكالٍ وأنماطٍ جديدة من العبودية والاتجار بالبشر، لقد انتقلنا من الاستعباد بسبب العرق والدين، إلى استعباد اقتصادي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بسبب حاجة الدول المتحاربة إلى إعادة البناء فتم استجلاب العمال ليقوموا بتلك الأعمال الشاقة تحت ظروف صعبة، وتم ترسيخ أنظمة اقتصادية استهلاكية لا تراعي في أحيان عديدة القيم الأساسية لكرامة الإنسان وحقوقه. يضاف إلى ذلك تطور وتعقيد شبكات بيع الأعضاء وتهريبها، وظاهرة الاستغلال الجنسي وتشغيل الأطفال لغير ذلك من الممارسات الأخرى التي تختلف وسائلها وتشترك جميعها في منافاتها لكرامة للإنسان.

إنّ التقدّم العلمي لابد أن يسنده ويشد عضده دائماً تقدم أخلاقي، فالعقل البشري الذي اخترع الأدوية هو نفسه الذي اخترع القنبلة النووية. وهو نفسه الذي سهل للمهربين والمتاجرين بالبشر القيام بأفعالهم الدنيئة المجرّمة. إننا ندعو إلى استخدام التكنولوجيا في خدمة الخير والمساواة وقيم الحب والسلام.

الدين كالتكنولوجيا هو أيضاً طاقة هائلة، هذه الطاقة يمكن أن تبني وتعمّر لو استغلها الخيّرون وتولّى تأويلها الراسخون، ويمكن أن تهدم وتدّمر لو استخدمها الشعبويون والمتطرفون، وهنا سأذكر بمباديء موجودة في كل الأديان وخصوصاً لدى العائلة الإبراهيمية، سأذكر بها من خلال الدين الإسلامي الذي يقوم موقفه على ثلاث مباديء:

١- التكريم: كما في الآية الكريمة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)*.

٢- المساواة: كما في الحديث الشريف: (ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

٣- الحرية: كما عبر عن ذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بقوله: ”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً“. قالها لواليه في مصر عندما أساء لمواطن قبطي وهذه الكلمة تماثلها أول فقرة من إعلان حقوق الإنسان والتي تقول: ” يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق“.

إذاً الأصل في الإنسان التكريم والمساواة والحرية، قيَمٌ تشمل كل البشر بدون استثناء للون ولا عرق ولا دين ولا لغة.

إنّ الممارسات التاريخية والتأويلات البشرية والسياقات الزمنية تؤثر بشكل وأو بآخر في تعامل الإنسان مع هذه المباديء، فعلى رجال الدين وعلماء اللاهوت أن يكونوا في مقدمة المدافعين عن كرامة الإنسان ومعارضين للإتجار بالبشر، وهنا لا بد أن نعترف بأن الأديان تأخرت في تحالفها في كثير من القضايا ومن بينها بدون شك قضية الاتجار بالبشر، لقد كان البيان الذي وقعه البابا فرانسيس ومجموعة من القيادات الدينية في الفاتيكان في ديسمبر سنة ٢٠١٤م، جهداً مهماً في اتجاه التحالف من أجل هذه القضية الهامة، وقد اختتم البيان المختصر بهذه الفقرة الواضحة: ( نتعهد هنا اليوم بأن نعمل معاً لنقوم بكل ما في وسعنا، في داخل مجتمعاتنا وخارجها، من أجل حرية كل المستعبدين والمتعرضين للإتّجار ليكون مستقبلهم أفضل).

السيدات والسادة،

للظاهرة التي نتحدث عنها اليوم أسباب كثيرة، كالبطالة والفقر والجهل، إلا أنّ هذه الممارسات تشيع وتبلغ مداها في فترات الحروب التي تسبب الهجرات وتشتت الأسر وتجعل الفئات الأكثر هشاشة في

وضع يسمح باستغلالهم وانتهاك حقوقهم  ويحولهم إلى بضاعة رخيصة وارواحٍ مهانة، حيث  تساء معاملة النساء ويجند الأطفال ويسخرون في الأعمال الشاقة بلا أجور أو بأجور زهيدة،  لهذا فإننا في منتدى تعزيز السلم نعتبر عملنا في محاولة إيقاف الحروب ومسبباتها إجراء وقائياً يمكن أن يساهم في تقليل هذه الظاهرة التي تقتات من أوجاع المستضعفين. حيث تزدهر عصابات الجريمة العابرة لحدود الدول دافعة بالضحايا إلى أتون الاستعباد وأحياناً إلى المجهول.

وغني عن القول أن الطريق الإنساني نحو العدل والمساواة للجميع هو طريق لازال طويلاً، لكن المهم هو أن نواصل السير فيه ونؤمن بأن كل خطوة للأمام وكل عمل ولو كان ضئيلاً هو نجاح وأمل يجب أن يحتفى بها. فلقد حصل تقدم ملموس في التشريعات التي أصبحت كثير من الدول ومنها الدول الإسلامية، تسنّها لمكافحة الاتجار بالبشر وتبذل جهوداً في هذا الصدد، ويمكن الإشارة هنا إلى القانون الاتحادي الذي أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة سنة ٢٠٠٦م في شأن مكافحة الإتجار بالبشر دولياً ومحلياً، ومع ذلك فلا بد مزيد من الجهد وخاصة للتنسيق في كثير من مناطق العالم للقضاء على هذه الظاهرة.

وختاماً فنحن نثمن اهتمام منتدى دافوس وعلى رأسه سعادة المحترم كلاوس شواب بإشراك رجال الدين في قضايا الحياة ومشكلات الإنسان، فالإيمان يجب ألا يفهم بصفته مختزلاً في البحث عن طريق النجاة في العالم الآخر ولكنه يمكن ويجب أن يكون عاملاً أساسياً في هذا العالم بما يملك من قيم الخير والتضامن والعطف والرحمة والحب وبذل المعروف وبخاصة للمستضعفين.

وتقبلوا تحياتي وتمنياتي بالتوفيق.

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

Comments are closed.