الجذور المعرفية والفكرية للتطرف الفكري والانحراف الأخلاقي

 

قمة أقدر العالمية – ورقة حول:

الجذور المعرفية والفكرية للتطرف الفكري والانحراف الأخلاقي

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة – أبوظبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

أيها السادة والسيدات ،

أود في هذه الكلمة:

1-      أن أشير إلى أهمية الموضوع وصعوبة مواجهته في هذا العصر.

2-      أن أتحدث عن التطرف تعريفاً، وعن جذوره بصفة عامة، وبصفة خاصة عن جذره المتلبس بلبوس الدين.

3-      عن الانحراف الأخلاقي وعن تعريف الأخلاق، والجذور الفلسفية للانحراف الخلقي.

4-      أن نختم بمقاربة ثقافة التسامح والوسطية فكراً وسلوكاً في مواجهة المحورين: التطرف والانحراف.

1-     أهمية الموضوع وصعوبته:

إن الساحة في هذه المنطقة الوسطى من العالم- التي يسمونها بالشرق الأوسط- بخاصة والعالم كله عامة مصابة بقلق تتفاوت درجاته، فيَصِل في بعض المناطق إلى التدمير والإفناء المتبادل نتيجةَ تصورات حادة تتحول إلى مقولات جامحة، وتنتهي إلى عنف جسدي لا هوادة فيه، تحيل إمكانية العيش المشترك على ظهر هذه الأرض.

كما أن مشكلة الانحراف عن أخلاق الفضيلة تشكل الوجه الآخر للجموح الفكري والنفسي.

ومن المفارقات أنه يوجد بين المحورين، -التطرف من جهة، والانحراف الأخلاقي من جهة أخرى-ترابط إذا لم يمكن وصفه بالسببية التلازمية، فإنه يمكن وصفه بالتأثير المتبادل. فأكثر من انتقل إلى التطرف يكون قادماً من أفق الانحراف الأخلاقي، يَعْبُر إليه بعد أن عاش الضياع النفسي باحثاً عن المعنى، تلقفه المتطرفون مباشرة ليسلكوا به سبيل التيه.

ولقد تحدث بعض هؤلاء التائبين عن رحلتهم من عالم الجريمة الأخلاقية إلى عالم التطرف العنيف، ولهذا فإن من الضرورة أن نستوقف شبابنا لنريهم الطريق الأوسط والمنهج الأعدل، وهو طريق الوسطية والاعتدال الجامعُ بين الأخلاق الفاضلة والفكر المستنير المعتدل المتفتح؛ حتى لا ينتقلوا من تطرف إلى تطرف، ومن تعسُّف إلى تعسُّف، وهكذا يضيعون بين تطرفين -كالمستجير من الرمضاء بالنار.

إن المشكلة التي نعانيها في هذا الجهد ترجع إلى صعوبات مادية وفكرية ومنهجية لتقديم البديل وترسيخ المنهج الأصيل.

أولاً: ظاهرة استثمار إمكانات التكنولوجيا في نقل الجرائم بالصوت والصورة، وتسهيل التواصل بين المجرمين وإعطائهم وسائل ارتكاب الجريمة، كل ذلك خلق أفكار الإجرام وعزَّز نوازع الشر، على حدّ رأي من يرى أن الأفكار إنما هي انعكاس لما تلتقطه الحواس من العالم الخارجي كالفيلسوف جان لوك: (هذه الأفكار لم يخلقها الذهن نفسُه، وإنما استمدها من الأشياء الخارجية، ومن ثم فأسباب “أفكار” الموضوعات النفسية هي الأشياء الموجودة في العالم، والمستقلة عن الذهن: هذه الورقة، وتلك الوردة”).

ثانياً: الدعاية الممنهجة للجماعات المتطرفة، سواء كانت العصابة الغالية الإرهابية التي تُقدِّم حججها الزائفة لتبرير القتل والاعتداء، أو المجموعة المنحرفة العدمية التي تَعرِض ممارساتها لإغراء الشباب.

ثالثاً: عدم وجود جهود تربوية جذّابةٍ في الشكل، مقنعةٍ في المحتوى، متماسكةٍ في المنهج، تسد الثغرات، وتعالج مكامن الداء -وتضع الهَناء موضع النقب.

لهذا، فإن هذا العنوان الذي اخترتموه لهذا اللقاء كان موفقاً كل التوفيق، فأرجو أن تقدر “أَقْدَرْ” على ما لم يقدر عليه من لم ينجز ولم يبصر.

2-      الجذور المعرفية والفكرية للتطرف والانحراف الأخلاقي

إنّ الجُذور المعرفية والفكرية للتّطرف والانحراف الأخلاقي موضوع مجال تَساؤل فَلسفي في الماضي والحاضر، وميدان تعامل فِعليٍّ للمصلحين والمربين قديماً وحديثاً.

ذلك أن الأسئلة القديمة هي تقريباً نفس الأسئلة الحديثة، فهي متحدة بالذات وإن كانت مختلفة بالاعتبار؛ إلا أن الأجوبة هي التي تختلف في الزمان والمكان نظراً للتفاعل بين الكون والإنسان.

فالأسئلة هي: هل الإنسان مجبول على الانحراف وعلى الخطإ والخطيئة؟ أو أنه مفطور على الخير؟ أم أنه ورقة بيضاء تسطر فيها البيئة التي تحوطه والوسط هو الذي يكتب عناوين سلوكه وبرامج عمله وتعامله؟ أم أنه نتيجة عاملين هما البيئة من جهة والوراثة من جهة أخرى؟

وأنا أرجح النظرية الأخيرة التي تقول: إن السلوك هو نتيجة الوراثة، أي أن الإنسان كما يرث الخصائص الفيزيولوجية فإنه يرث الخصائص النفسية والسجايا الخلقية؛ كما أنه يتأثَّر بالبيئة التي تحوطه فتملي عليه أفكاره وسلوكه ومماراسته؛ ولا يتسع البحث هنا لسرد الأدلة الدينية أو العقلية على هذه النظرية، فلْنُؤجِّله.

أولاً: قبل البحث عن جذور التطرف ينبغي البحث عن تعريف مفهوم التطرف.

1.2-  فما هو التطرف (L’extrémisme) ؟

التطرف هو الخروج عن الوسط إلى الأطراف وهو الميل، واسم الفاعل متطرف..

إنه مفهوم لا يزال محل أخذ ورد في تقارير الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، إلا أنه حرفياً يعني: “تبني أفكار أو سلوك أو الدفاع عن أفكار أو سلوك يبتعد كثيراً عما يراه أكثر الناس صوابا“.

هذا هو التعريف الذي تشير إليه وثيقة منظمة اليونسكو حول التربية (2030 ص19)، لكنه سيظل مبهماً وشخصيا(subjective)؛ لأن المعايير المشار إليها غير محددة، وتختلف من بلد إلى آخر، ولهذا فلا بد من الإشارة إلى أهمية إضافة البعد المحلي، ومعناه: البيئة المعينة التي عليها أن تُحدِّد طبقاً لمعاييرها وشروطها وصفَ الفعل والفاعل.

إذا أخذنا التعريف المستفاد من تعريف المجلس الفدرالي السويسري سنة 1992، فإن التطرف يعني “التوجهات السياسية الرافضة لقيم الديمقراطية الليبرالية ودولة القانون“.

ويمكن أن نعيد صياغة هذا التعريف ليكون: “التَّوَجُّهات السياسية الرافضة للقيم المجتمعية السائدة“، وبهذا  يكون مناسباً لسياق مجتمعاتنا.

لقد ناقشت التقارير الغربية التي اطلعنا عليها (باللغة الفرنسية) مفهوم التطرف، حيث اعتبرت الحركات والأحزاب والأفكار والآراء والسلوك الرافضة للدولة الدستورية الديمقراطية، وما ينشأ عنها من قيم ومؤسسات وسُلط؛ اعتبرت كل هؤلاء في خانة التطرف.

وناقشت هذه التقارير الممارسات العنيفة أو التحريض أو السلوك السلبي، كما ناقشت العلاقة بين مفهوم التطرف والراديكالية، وإن كانت الراديكالية تعني في الغالب الوسائل التي يستعملها المتطرف لفرض هدفه، بينما التطرف يعني في الغالب الفكرة نفسها والهدف ذاته، حسب هذه التقارير.

وناقشت أيضا العلاقة بين مفهوم التطرف ومفهوم الإرهاب، فإذا كان الإرهاب هو مظهر  التطرف المحاربَ، فيمكن اعتبار الإرهاب النتيجة القصوى للتطرف.

والتطرف هو بمعنى من المعاني مرادف للأصولية Fondamentalisme عند الغرب التي هي: “نزعة محافظة عند أوساط من البروتستانتية الذين لا يقبلون إلا تفسيراً حرفياً للكتاب، ويعارضون كل قراءة تاريخية أو علمية للكتاب؛ وبمعنى آخر: نزعة لبعض أتباع الديانات للرجوع إلى ما يعتبرونه أساسياً وأصلياً لا يجوز المساس به في النصوص المقدسة”.( larousse 2015)

والتطرف ليس مفهوما علمياً في الثقافة العربية الإسلامية، بمعنى أنه لم يستعمل في وصف الأفكار والآراء والممارسات والسلوك، بل استعمل مقابله، وهو الوسط، لوصف حالة الاعتدال الفكري والسلوكي والاتزان. واستعمل كذلك نظيره، وهو: الغلو الذي يعني الخروج عن الاعتدال، والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

كما استُعمل مصطلح التنطّع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب.

كما استُعملت كلمة التّشدد وهو إظهار الشّدّة في الدّين.

وهذه المصطلحات المرادفة والمجاورة للتّطرّف وردت كلها في سياق الذّم والتّنديد في أحاديث معروفة وهي كالتالي:

فقد نهى عن التّشدّد في حديث أنس: “لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم“.[1]

ونهى عن الغلوّ في الدّين وهو المعبّر عنه بـ(التطرّف) ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلوّ في الدّين فإنّما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين“.[2]

ونهى عن التنطّع وهو كالغلوّ التّجاوز للحدود في الأقوال والأفعال ففي حديث ابن مسعود (مرفوعاً): “هلك المُتنَطّعون قالها ثَلاثاً[3].

 لهذا، فإن الإسلام براء من كل تطرف، مع أن التاريخ الإسلامي قد عرف غلاةً ومتطرفين ومتنطعين، إلا أن تيار أهل السنة والجماعة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلو في الاعتقاد، أو الأحكام العملية الفقهية؛ لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة التي كان عليها سلف هذه الأمة كعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وغيرهم من كبار الصحابة الذين أدركوا عصر الخوارج وما سُجِّل على أحد منهم خروج؛ لشدة فقههم في الدين ويقظتهم للعواقب والمآلات ومعرفتهم بوجوب تعظيم شأن وليّ الأمر.

خلاصة القول: إن التطرف، سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهوم يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

فالتطرف مذموم في الفقه الإسلامي، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

أما الشريعة، فإنها تزكي الوسطية المنافية للتطرف والغلو.

2.2- ما هي جذور التطرف؟

أما الجذور فعنوانها الكبير هو النّزوع في الطّبيعة البشريّة إلى الجِماح والجُنوح إلى الإفراط والتّفريط. الذي عبّر عنه العالم الصّوفي ابن عبّاد النّفزي (شارح حكم ابن عطاء اللّه): ولا شيء أشدّ على النّفس من متابعة الشّرع وهو التّوسط في الأمور كلها، فهي أبداً مُتفلتَةٌ إلى أحد الطّرفين لوجود هَواها فيه”.

ويقول الشّاطبي: الشريعة جارية في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الأوسط، الأعدل، الآخذ من الطّرفين بقسط لا مَيل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه، ولا انحلال، بل هو تكليف جَار على موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال”[4].

ولهذا فالتطرّف هو جُزء من البَرمجة النّفسية لهذا الإنسان المتفرّد الذي يمثّل الانسجام والانفصام.

وجذور التطرف تنقسم حسب الباحثين المتخصصين في الدراسات الأمنية إلى صنفين، كل واحد منهما يحتوي مجموعة من العناوين تمثل في مجملها عوامل وحوافز التطرف. أما الصنف الأول فهو ما يسمى “العوامل الطاردة”(repulsive)، وهي عبارة عن البيئة المولدة للتطرف كالفقر، والجهل، وعدم المساواة، وفقدان العدالة، والعيش في الضواحي، والتمييز. ونحن في كلمتنا هذه لن نتعرض لهذا الصنف.

أما الصنف الثاني: فهو ما يسمى بالعوامل الجاذبة (attractive)، وهي العوامل التي تنتمي إلى الأفكار متمثلة في الإيديولوجية، وفي التفسير الديني الخاطئ، وحب الزعامة، والانتماء إلى المجموعات الناشطة، والاقتداء والتماهي مع الزعامات الكاريزماتية.

هذه الفئة، هي التي سنحاول التوقف عندها، باعتبار  أن معظم التطرف العنيف أو المحارب ينتمي إلى هذه الفئة.

 يجب الاعتراف بأن جذور هذه الفئة ليست حديثة ولا غريبة على بيئة التراث الإسلامي، فإن التطرف الحديث إنما هو إعادة إنتاج لحركات الشغب، ومحشي الحروب، والاضطرابات في التاريخ الإسلامي، الذين يتخذون في الغالب اسم الخوارج، وهم فئات كثيرة[5]، ظهرت جذورها وبذورها الأولى في وقت مبكر من تاريخ المسلمين، واشتهرت بمقولاتها وبمواقفها التكفيرية للحكام وللمجتمع، وتهييج العامة، ورفع السلاح في وجه المخالف، وقد أرهقت الأمةَ واجهضت الكثيرَ من مشاريعها، وأسْدَت خدمة مجانية لأعدائها.

نتجاوز هذه الإشارة لنقول: إن المعارف المسببة للتطرف بعضها ليس جديداً، وإنما هو وريث لفكر كان في تراثنا وتاريخنا، وهو علاقة هذه الفئات الخارجة بالنص، باعتبار أنها فقدت الصواب في التعامل مع واقع النصوص، وجانبت الصدق في استشهادها بها وجهلت الحق.

إنَّ فكر الخوارج بفرقها الكثيرة، يتميز بحرفية في الفهم بلا تأويل ولا تعليل، واجتزائيةٍ في الدليل وفروع بلا أصول، والأخذِ بالجزئيات مع إهمال الكليات.

 لقد جر ذلك على الأمة منذ القرن الأول حروبا وتفرقا داخلياً لا تشفى منها حتى يَذُرَّ قرنُ فتنة أخرى، وتَبرُز جماعةٌ لتكرر نفس السلوكِ المتطرف مستنجدةً بنفس المنهج المجانب للحكمة- أي للصواب والصدق والحق.

 هذا عن الجذر المتعلق بالعلاقة مع النص الديني.

3-    محور الانحراف الأخلاقي:

فما هو الانحراف؟ إنه الخروج عن الجادة المستقيمة، كالتطرف من حيث كونُه ميلاً عن المنهج الصحيح، وعدولاً عن الجميل إلى القبيح.

أما الأخلاق، فهي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”.

والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة VALEURS باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي.

وكذلك كلمة ETHIQUES التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك.

وكذلك أيضا كلمة vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق.

إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات.

إن الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ويقظة الضمير الوازع عن الغش والخداع، العازف عن الاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، المتصالح مع ذاته وبيئته؛ ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق.

هي الأخلاق تنبت كالنبات       إذا سقيت بما ء المكرمات

تقوم إذا تعهّدها  المربّي         على ساق الفضيلة مثمرات

للأخلاق مصادر أهمها مصدران: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، ولنبدأ بالأخير.

 المصدر المنطقي:

ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان “كانط” يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض، ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها “كانت” في هذا الصدد.

“فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيّتنا الوفاء به فإنّ سلوكنا يكون شرًا؛ لأنّنا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد، أول هذين المبدأين هو أنّ الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعد ولكنّي أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أنّ لكلّ شخصٍ الحقّ في أن يُخلف وعوده ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملاً، ولو أخلف كل شخصٍ وعوده لما عاد أحد يؤمن بالوعود ولكان لنا مبدأ آخر هو أنّ من الصحيح أنّ أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد، وهو مبدأ يتناقض مع الأول”.[6]

وقد وسع كانط ميدان الأمر الكلي القطعي بقوله:

1- افعل كما لو كان يلزم للإرادة أن تقيم قاعدة فعلك في قانون كلي للطبيعة (البعد الشخصي لاستقلال الإرادة).

2- افعل بحيث تستطيع دائماً وفي الوقت نفسه أن تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر ليس فقط كأداة وإنما أيضا كغاية (البعد الجماعي لاستقلال الإرادة).

لقد آمن كانط بأن إرادة الخير التي تهتدي في وجودها بمبدإ معين هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيرا في ذاته، إن الإرادة الخيرة التي تريد الخير لنفسها ولغيرها هي الخير في ذاته.

ويذكرنا كانط في مكان آخر أن هذه المبادئ الكانطية الإنسانية لا تمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ (unumgänglich) إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع (Gesetzgebers) أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى (خلق العالم)، التي يمكن ويجب  في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان’’ . يجب التذكير أن الفيلسوف كانت أهم مؤسس لنظرية الأخلاق في الغرب.

يمكن تصنيف النظريات الأخلاقية المختلفة انطلاقاً من موقفها تجاه المبادئ الأخلاقية، بحيث يمكن التمييز بين الأخلاق النسبية والأخلاق المطلقة، فبينما تعني الأولى اختلاف المبادئ والقيم الأخلاقية بحسب المكان والزمان، يعني النوع الثاني وجود مبادئ أخلاقية عامة تُطبق على جميع الناس في كل زمان ومكان مهما اختلفت ظروفهم وآراؤهم.

إن نظرية المبدأ المطلق كما يقول هنتر ميد تجد سندها في الديانات السماوية وخصوصًا تلك التي تؤمن بالشمولية، وهو بذلك يعترف أن الحضارة الغربية أصلها مسيحي، قائلا: “وحين نقول المسيحي فإننا نعني بالنسبة للفلسفة “التوحيدي”، فالإيمان بإله واحد يحكم الكون الذي خلقه أساس للتفكير الديني للغرب. وهذه الأوامر -أوامر الإله- شاملة تنطبق على الناس جميعًا في كل مكان”.

أما الجذر المتعلق بالانحراف الخلقي -ونحن في عالم الأفكار والمعرفة، فإن أهم موجة شرَّعت فلسفياً للانحراف الخلقي قد كانت فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، وأذكر على الخصوص الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم [7]  الذي ألغى دور الوحي، بل ودور العقل نفسه في إنتاج القيم منطلقاً من المحسوس المتمثل في الانفعال والعواطف، مدعياً أن المؤثر هو الأثر نفسه، فلا قيم عليا ولا شيء يحكم سلوك الإنسان إلا ما ينتجه هو بناء على رغباته ونزواته.

ومن هؤلاء (فرويد) [8]  الذي كان مُغرقاً في “الجنسية” ومُرجعاً معظم السلوكيات الإنسانية إلى ما تختزنه النفس البشرية من غريزة الجنس.

 و”داروين” [9] ، في مذهب النشوء والارتقاء باعتباره أن الإنسان إنما هو من نوع البريمات المتميزة بكمال الأسنان.

 ورغم أن هذه النظريات التي حطت من قيمة الإنسان، فهو عند فرويد في سلوكياته، وعند داروين في أصله ونسبته، قد أظهر العشرات من الفلاسفة عُوارها والثغرات التي تبين عدم علميتها، فقد استهوت الكثير من المدارس المعاصرة، واحتكرت المنابِر في الكثير من الجامعات، “فقد راح الفرد يحطم سلسلة المعتقدات حلقة بعد حلقة، وكذلك المعايير الأخلاقية، ونظم الفكر، والتنظيمات السياسية التي تربطه برفاقه من البشر، وانطلق في عزلة الحيوان الأعجم الذي لا يعرف سوى إحساساته الخاصة، ولا يطيع سوى نزواته الذاتية. وهكذا تحطم الجانب المقابل من الصورة وأعني به الكلي، الذي يتمثل في المجتمع ونُظُمه وقواعده ومبادئ الأخلاق…إلخ”.

4-    الحلول والمقاربات:

كيف يُعالَج هذا الوضع المعرفي والفكري في ظل ما أشرنا إليه من الصعوبات؟ وأهمها وجود ثقافة مأزومة اختل فيها ميزان المعرفة والسلوك، وغابت فيها الوسطية والحكمة.

إنَّ الأمر يتعلق بمعالجة ثقافية شاملة وتجديد فكري كامل، ولهذا فسنقدم مقاربة مجملة تعتمد على قيمة التسامح والوسطية والحوار.

ثقافة التسامح والتصالح في مواجهة ثقافة التطرف الفكري والانحراف الخلقي:

أحصى الباحثان ألفرد كروبر Kroeber وكلايد كلوكون Kluckhohn سنة 1952 في بحثهما” الثقافة: عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” (Culture : A critical review of concepts and definitions)  ما يربو على مائة وستين تعريفا للثقافة.

وعرفها لاروس الفرنسي بأنها هي: “مجموعة النظم الاجتماعية، والمظاهر الفنية، والدينية، والفكرية التي تتميز بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر”.

وتقول موسوعة دار الشروق: “إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع، أو إنجاز فكري، أو أدبي أو فني أو علمي”.

وأولى المعاني بالاعتبار في سياق هذا البحث هو الإطلاق الإنثربولوجي الواسع الباحث عن المعتقدات والمؤسسات والعوائد والتقاليد لكل مجتمع وعلاقات الكائنات البشرية بعضها ببعض.

ولعل كل واحد من التعريفات السابقة يشكل جزءاً من الصورة الذهنية للثقافة، وحيث إن التعريف الأخير يهتم بسلوكيات الإنسان وعلاقاته وأنماط القيم الموجِّهة للسلوك فهو بالتأكيد ما نعالجه هنا.

 أما التسامح: فهو مصدر مقيس لتَسامَحَ بمعنى تساهل.

يقول ابن منظور: في مادة”سمح”: “التسامح والسماحة الجود… يقال: سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء…. وفي الكلام المشهور: السماح رَباح. أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها.”.

تأصيل التسامح في الإسلام     

في الحديث عن أبي أمامة: بعثتُ بالحنيفيّة السّمحة أي السّهلة الميسّرة رواه أحمد في المُسند وله شاهد من حديث عائشة: لتعلم اليهود أنّ في ديننا فُسحة إنّي أرسلت بحنيفيّة سَمحة وعلّق عليه ابن القيم: ”إنّها حنيفيّة في التّوحيد، سَمحة في العمل“.

 وذكره البخاري بقوله: “باب الدين يسر وقول النبي: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة” . وورد في مصنف عبد الرزاق تفسيره مرفوعاً بأنها الإسلام الواسع.

فهذه الأحاديث تعطي للسماحة معنى اليسر والسهولة والسعة مما يدل على رفع الإصر والحرج والبعد عن التشدد.

وقد يعبر عن التسامح في القرآن الكريم بأربعة مصطلحات: العفو والصفح والغفران والإحسان؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

إن التسامح هو التسامي عن السفاسف، إنه عفة اللسان عن الأعراض، وسكون اليد عن الأذى. “فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله” .

أما لدى الغربيين فيقابل كلمة التسامح في اللغتين الإنجليزية والفرنسية (Tolerance) والتي تعني احترام حرية الآخر وطريقة تفكيره وتصرفاته وآرائه السياسية والدينية.

وصدر إعلان منظمة اليونسكو المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة في دورتها الثامنة والعشرين لمؤتمرها العام المنعقد في باريس من 25اكتوبر حتى 6 نوفمبر 1995م ، حيث تم الإمضاء على هذا البيان من طرف جميع دول العالم واختيار يوم 16 نوفمبر يوماً للتسامح ورفض التعصب.

وهذا الإعلان مكوّن من مقدمة وستة فصول.

أما المقدّمة فكانت تذكيراً بما ورد في ميثاق الأمم والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيرهما من المواثيق والاتفاقات وعددها خمس عشرة وثيقة.

وأشارت المقدّمة إلى الجزع الذي يسبّبه تصاعد التّعصبّ والإرهاب والعنف وكره الأغيار والقوميّة العدوانيّة والعنصريّة واللاساميّة والإقصاء والتّهميش والتّمييز ضدّ الأقليّات القوميّة والعرقيّة والدينيّة واللغويّة واللاجئين والعمّال المهاجرين والفئات الهشّة وممارسة العنف ضدّ من يعبّر عن رأيه.

يتكون الإعلان من ستة فصول:

الفصل الأول: مفهوم التسامح باعتباره احتراماً وقبولاً وتقديراً للثروة والتنوع لثقافات عالمنا هذا.

الفصل الثاني: دور الدولة، فعلى مستوى الدولة تلزم العدالة والنزاهة في سن النظم والقوانين وكذلك في تطبيقها وممارسة السلطة القضائية والإدارية.

الفصل الثالث: الأبعاد الاجتماعيّة، ذكّر بضرورة التّسامح في العالم المعاصر؛ حيث نعيش في عصر تميّز بعولمة في الاقتصاد، وبسرعة في الحركة والاتصالات، وبالاندماج والاعتماد المتبادل، وبالنّـزوح والتّنقل للمجموعات على نطاق واسع، والتمدّن والتغيّر في أشكال النّظم الاجتماعية، فلم يبق جزء من العالم غير متأثر بالتّنوع.

فتصاعدُ التعصب والمواجهة يشكل تهديداً محتملاً لكل منطقة، فالتسامح ضرورة للأفراد وفي نطاق الأسرة والجماعة.

فتنمية التسامح والتدرب والتمرن على الانفتاح الذهني وحسن الاستماع والإنصات المتبادل والتضامن يجب أن تسود كل هذه المعاني في المدارس والجامعات ووسائل التربية.

يجب تكوين مجموعات للدراسة والبحث والتنسيق لتقديم إجابة للمجموعة الدولية على هذا التحدي العالمي(عدم التسامح).

الفصل الرابع: كُرّس هذا الفصل للتربية والتعليم؛ باعتبار التربية والتعليم أفضل وسيلة لمحاصرة عدم التسامح والتعصب، وضرورة التزام الدول بالقيام بما يلزم في هذا الصدد بما في ذلك وسائل البحث العلمي والاجتماعي للتربية.

الفصل الخامس: تلتزم الدول بتنمية التسامح.

الفصل السادس: تقرير يوم للتسامح من أجل تعبئة الرأي العام.

أشير إلى أن هذه شذرات فقط من إعلان التسامح الصادر من منظمة اليونسكو اقتبسته من الأصل الفرنسي للإعلان وأردت من خلاله أن أنبه إلى الإلحاح الذي اتسم به هذا الإعلان.

والكثير من هذه المضامين الحديثة التي تتأسس عليها مبادئ الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، نجد لها جذورا في التنظير الفكري للتسامح منذ بدايته قبل أزيد من ثلاثة قرون؛ حيث إن العديد من المفكرين مثل (لوك) و(منتيسكيو) و(فولتير) يعتبرون أن التسامح بمثابة دعامة أساسية لتنظيم الحكم.

قدم كارل بوبر تحليلاً معمقاً لمفهوم التسامح، وانطلق في ذلك من التعبير الذي قدمه ( فولتير ) 1694-1778 للتسامح؛ إذ يقول: إنه ما من أحد بأوضح مما فعله فولتير، ولا أحد ضاهى فولتير في روعة التعبير عنه؛ حيث يكتب: (وما هو التسامح؟ إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعاً من نتاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، لذا دعونا نسامح بعضنا، ونتسامح مع جنون بعضنا، بشكل متبادل. وذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة، المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة).

فثقافة التسامح: تعني وجودَ قِيَم وتصورات، تفرز ضوابط سلوكيّة، من شأنها أن تشيع الأمن في النفوس، وتجافي الجنوح إلى العنف.

ولنغرس ثقافة التسامح في النفوس، يجب اتخاذ السبل بكل الوسائل التثقيفية، وفي مقدمتها التعليم والتربية، والإعلام الجماهيري، لإيجاد تلك القيم، والتصورات، لضبط وكبح جماح النفوس الميالة إلى العنف، وترجيح كفة التسامح، وحسن تقبل الغير، وباختصار إيجاد الروح الاجتماعية، والتعايش البناء بين أفراد المجتمع.

وهي بذلك تقابل ما يسمى بثقافة العنف.

ومعنى ذلك أنّ المُثل والقيم التي يتلقّاها، ويُلقّنها أفراد المجتمع، عن طريق القنوات والأدوات التثقيفية، في مختلف مراحل التّعليم، ووسائل الإعلام بشتّى أشكالها، وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري، كالخطب، والأناشيد ذات مضمون رصين متسامح، ومتعقّل، لا يخرج على النّهج العام السائد، والأعراف المقبولة، لشحن العواطف، وإلهاب المشاعر، دون وزن للعواقب، ولا مبالاة بالنتائج.

إن هذا الكلام عام في كل مجتمع، مهما كانت فلسفته الحياتية.

أما بالنسبة للمجتمع الإسلامي، فإن الميزان الشرعي هو ميزان الوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط.

ميزان الشرع هو نبذ المبالغة والمغالاة، والنظر في العواقب والمآلات. “فالدين واسطة بين الغلو والتقصير” كما يقول التابعي الجليل الحسن البصري.

وميزان الشرع هو ميزان المصالح والمفاسد، يضعها في كفتيه، فيرجح الأصلح، ويدرأ المفسدة، فكما يقول العلامة ابن القيم: “الشريعة مصلحة كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها، فما خرج عن المصلحة إلى المفسدة، وعن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث، وعن الرحمة إلى ضدها، فليس من الشريعة“.

كما يرسخ الإسلام المحبة بين الناس، ففي الحديث:” لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيه مَا يُحِبُّ لنَفْسِه” . يقول الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: “إن الأخوة الواردة في هذا الحديث تشمل الأخوة في الإنسانية”.

 وقرر الإسلام العدل بين الأفراد والأمم ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾، وقرر بذل المعروف، وإطعام الطعام، ودَفْعَ جزء من المال للفقراء، تكريساً للتكافل والتضامن في المجتمع.

وأمر الإسلام بالرفق:”إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيءِ إلاَّ زَانَهُ ولا يُنْزَعُ مِنْ شيءِ إِلاَّ شَانَهُ”.

وشرع الإسلام الحوار وسيلة للمناقشة، حول قضايا الاختلاف، حتى مع المخالف في الدين، قال تعالى:﴿وجادلهم بالتي هي أحسنُ﴾ ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم﴾.

مظاهر التسامح:

 أولا: إن الإسلام يعتبر البشر جميعا إخوة، فيسد الباب أمام الحروب الكثيرة التي عرفها التاريخ الإنساني بسبب الاختلاف العرقي.

 والإسلام يعترف للبشر  بحقهم في الاختلاف، ﴿ولا يزالون مختلفين﴾.

ثانياً: اعترف الإسلام للآخرين بحقهم في ممارسة دينهم، فسد الباب أمام الحروب الدينية التي كاد التاريخ البشري أن يكون مجرد سجل لها.

ثالثاً: اعتبر الإسلام الحوار والإقناع الوسيلة المثلى﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾.

رابعاً: اعتبر الإسلام أصل العلاقة مع الآخرين المسالمة التي تقدم على بساط البرّ والقسط والإقساط.

لعلّه يتعيّن علينا أن نربّي ناشئتنا على القيم الأكثر مقاربة، كما يتعيّن على الحضارة الغربيّة أن تكون أكثر عدالة وتوازناً حتى نلتقي عند نقطة وسط.

وباختصار فلا بدّ من علاج بالمضادّات، ونعني بالمضادّات الحيوية ذلك الخطاب الحيّ الواعي الذي يقوم على نبذ العنف وزرع ثقافة السّلام والتّسامح والمحبّة، وتقديم البدائل أمام الشباب اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، ومحاولة صرف جهودهم ونشاطهم في قنوات لصالح المجتمع ولصالح التنمية وجَسر العلاقة بين مختلف الفئات وتجديد الفكر التوفيقي والمنهج الوسطي في النّفوس وحشد جهود الطبقة المثقفة في الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام لذلك.

كما يجب تقديم الدّراسات الجادّة في المجالات الثقافية والاجتماعية والشرعية لإقامة الحجة المضادة بالبرهان الشرعي المفهوم.

ثم إنّ هذه الأدوات والآليات التي ترسّخ ثقافة التّسامح لا ينبغي أن تكون موسمية، بل يجب أن تكون دائمة ومستمرة لبلورة ثقافة تصالحيّة أصليّة ومتفتحة، تدمج العناصر الإيجابية المستوردة بالموروث الثقافي في تكامل وانسجام لا تصادمي – حسب الإمكان- في مواءمة بين العراقة والمعاصرة، وبين القديم والحديث؛ لتصل الأمة إلى تجديد ليس مرادفاً للتدمير، ولا للانسلاخ ولا للانسلاب، بل هو تطوّر إيجابي واعٍ بذاته ومرجعيته التاريخيّة، يحافظ على ثوابته، ويحاور من خلالها مستجدّات العصر في جدليّة رفيعة ومصلحيةّ براجماتيّة.

وهنا تطرح بإلحاح مسألة تغيير المناهج باعتبارها حجر الزاويّة في ثقافة التسامح؛ إذ إنّ مسألة المناهج مسألة دقيقة وحساسة، ولها وقع خاص؛ لأنّ معالجة المواد الدينيّة في المناهج الدراسيّة لا يمكن أن تتم بعقلية خارج إطار منظومة الفكر الإسلامي.

وبدون شك فإن الأمر يحتاج إلى رسم إستراتيجية ثقافية؛ وكل إستراتيجية لها غاياتها وأهدافها ووسائلها وآلياتها وبرمجتها الزمنية وخططها، وهي بالضرورة إستراتيجية فضفاضة ومرنة قابلة للتعديل طبقاً لنتائج التجارب الميدانية، تهدف إلى إنشاء جيل مستنير متصالح مع تاريخه، متعايش مع عصره؛ من خلال تقديم وصفة ثقافية ممزوجة بروح حضارتنا لعلاج الإشكالات المطروحة تقوم على الوسطية، وتفعيل فقه الاختلاف، والحوار مع الآخر ومع الذات، وتصحيح مفهوم الجهاد، وتصحيح مفهوم الولاء والبراء، ومفهوم التكفير… إلى آخر المفاهيم.

 وفي الختام فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، بلدزايدومعدن المجد والأماجد، بإمكانها أن تقود هذا الجهد الدؤوب في مرحلة المراجعات والحوار مع الذات ومع الآخر، لفكِّ عقد التطرف وعلاج داء الانحراف والتعسُّف.

وهي فعلا تقدِّمُ المقاربات الحيَّةَ والمبادرات القوية على مختلف الصعد، وفي المحفال الدولية والإقليمية، بجسارة وكفاءة، فلن يكون ذلك صعبا على همّة قيادة برهنت على حسن الريادة، بوضوح الهدف وسعة الأفق وعمق الرؤية القائمة على دعائم الاستقرار والازدهار والابتكار.

[1] – أخرجه أبو يعلى في مسنده 6/ 365

[2] – قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. المستدرك على الصحيحين  1/ 637

[3] – أخرجه مسلم في صحيحه

[4] – الشاطبي      2/163

[5] – منها: ۱- المُحَكِّمة الأولى: يقال للخوارج: محكّمة وشُراة، وكان دينهم إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل ومعاوية وأصحابه، والحكَمين ومن رضي بالتحكيم، وإكفار كل ذي ذنب ومعصية. 2- الأزارقة: هؤلاء أتباع نافع بن الأزرق الحنفي المكني بأبي راشد، من دينهم أشياء: منها: قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون: إنهم كفرة لا مشركون. ومنها: قولهم إن القعدة -ممن كان على رأيهم- عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم. ومنها: أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم. ومنها: أنهم استباحوا قتل نساء مخالفيهم وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.

3– النَّجَدات: هؤلاء أتباع نجدة بن عامر الحنفي. 4- الصُّفرية: أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم. ومن يقول: إن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده.  5-العَجاردة: أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكانوا فرقاً يجمعهم القول بأن الطفل يُدعَى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يُدعى إلى الإسلام. وفارقوا الأزارقة في شيء آخر، وهو أن الأزارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال.

([6]) هنتر ميد: المرجع نفسه، ص267.

[7] – فقد حطم “هيوم” هوية الذات البشرية وأحالها إلى مجموعة من الانطباعات الحسية، وضاعت النفس البشرية لأننا لا نستطيع أن نصل إلى الانطباع الحسي “وجدتني لا أعثر عليها، يقول هيوم “إنني إذا ما توغلت إلى صميم ما أسميه “نفسي” وجدتني لا أعثر دائماً إلا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك. إنني لا أستطيع أبداً أن امسك بـــ”نفسي” في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنني لا استطيع أبداً أنْ أرى شيئا فيما عدا هذا الإدراك”. وهكذا نجد أن فلسفة هيوم قد فككت أوصال الموجود البشري،(عبد الفتاح إمام  الهيجلية الجديدة ص195)

[8] – بإمكاني القول: إن الفرويد قد قام ببناء الغالبية العظمى من تحليلاته في شكل “هرم مقلوب”, ولهذا أصبح البناء بأكمله يرتكز على “حجر زاوية” واحد، وعندما يكون هذا “الحجر المحوري” عبارة عن حقيقة احدة مشكوك فيها, فإن كل الاستنتاجات تنهار عندما يثبت خطأ هذه الحقيقة، مثلما ينهار الهرم المقلوب، عندما نزيل حجر الزاوية منه, ولن يكون في استطاعة أي قدر من البلاغة أو المراوغة أو التلاعب بالألفاظ إخفاء حقيقة انهيار الهرم”.(هانز أيزينك: “تدهور امبراطورية فرويد وسقوطها” ص273)

[9] – نظرية داروين هذه نزعت عن الطبيعة آخر أسمال النظام والعقل، وتركت الكون كله، وليس فيه سوى الصدفة، والاتفاق، واللاعقل. كما يقول سترلنج. ويقول أيضا: -وهو يعيب على منهج داروين أنه لم يكن منهجاً علمياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة- “فلم تكن طريقة داروين تعتمد على الاستقراء البطيء الحذر من عدد هائل من الوقائع التي لا يمكن دحضها، وهو ما يتطلبه المنهج التجريبي، بل كانت على العكس من ذلك، لقد كانت في الواقع تعتمد على الأخذ “بنظرية ! أو “تخمين ! ثم تجمع الوقائع المناسبة التي تؤيده متجاهلة بالطبع الوقائع الأخرى غير المناسبة! “(الهيجلية الجديدة ص231).

Comments are closed.