موقف المؤجر من تصرفات المستأجر غير الجائزة شرعاً – العلامة عبدالله بن بيه

الكلمة التأطيرية للملتقى الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بعنوان : السلم العالمي و الخوف من الاسلام 

هذا بحث ليس بالطويل المُمِلّ ولا بالقصير المُخِلّ حول مسألة فقهية تُدرك من العنوان (موقف المُؤجِرِ من تصرفات المُستأجر غير الجائزة شرعاً).

إن المؤجر الذي يؤجر شيئاً لمستأجر يتصرف فيه أو به تصرفات غير مشروعة([1]) لا يخلو من حالات ثلاث:

1.أن يكون اكتشف هذه التصرفات غير المشروعة بعد انعقاد الإيجار وأثناء تمتع المستأجر بمنافعِ الشيءِ المستأجَر، ولم يكُنْ على علمٍ بها حين تمّ العقد.

2.أن يكون عقد الإيجار مشتملاً صراحة على هذه التصرفات كموضوع لاستغلالِ المنافع.

  1. أن يكون المُؤجِر عالماً حين العقد بهذه التصرفات دونَ أن يكون ذلك مشروطاً.

الحالة الأولى: إذا كان المستأجر لم يشترط عليه تصرفات غير مشروعة في العقد ولم يعلمْ بها المُؤجر في حالة الإقدام عليه فإنه لا سبيل إلى فسخ العقد، فالمنافع في الإيجار كالأعيان في البيع، فكما لا يملك البائع التصرف في الأعيان التي باعها لا يملك المؤجر التدخل في استيفاء المنافع فهو كغيره مِنْ عامة المسلمين يجبُ عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسْب قدرتهم.

قال الشيرازي في المهذّب: ” فصلٌ: إذا تم العقد لزم، ولم يملك واحدٌ منهما أن ينفرد بفسخه من غير عيب لأن الإجارة كالبيع، ثمّ البيعُ إذا تم لزِم فكذلك الإجارة. وبالله التوفيق([2]) ).

وقد صرّح  ابن عابدين في حاشيته بقوله: ( فَرعٌ كثير الوقوع ) قال في لسان الحكام ” لو أظهر المستأجر في الدار الشرَّ كشُرب  الخَمْر وأكل الربا والزنا واللواطة يؤمر بالمعروف وليس للمؤجر ولا لجيرانه أنْ يخرجوه، فكذلك لا يصير عذراً في الفسخ ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة([3])).

وفي الجوهر: ( إن رأى السلطان أن يخرجه فعل )، ويُفهم من هذا الكلام أنَّ تصرفات المستأجر غير المشروعة التي تنكشف للمؤجر أثناء تمتع المستأجر بالمنافع لا تكون عيباً يوجب الفسخ وإنما العيوب الموجبة للفسخ من طرف المؤجر هي التي تُشكل ضرراً بعين الذات المؤجر.

قال خليل في مختصره في سرده للمسائل التي لا تفسخ فيها الإجارة ” لا بإقرار المالك أو خُلْفِ رب الدّابة في غير معين أو حج وإن فات مقصده أو فسق مستأجر وآجر الحاكم إن لم يكف “.

قال الزرقاني معلقاً عليه: ” كظهور فسق مستأجر لدار وجيبة أو مشاهرة([4]) ونقد لا تنفسخ به وأمر بالكف وآجر الحاكم إن لم يكف حيث حصل بفسقه ضرر للدار أو الجار إلى آخره([5]) “.

الحالة الثانية: أن يكون عقد الإيجار مشتملاً على استغلال الذات المستأجرة في أمر حرام، وهذا حرامٌ ويُفسَخ فيه العقد لا لكون مآل العقد إلى استعمال المنافع في حرام، ولكن لكون صيغة العقد تشتمل على عقد على منافع معيّنة في معصية، وقد نصَّ صراحة على الشرط الكاساني في بدائع الصنائع حيث قال: ” وإسلامُه في الإجارة ليس شرطاً فتجوز الإجارة والاستئجارُ من المُسْلم والذّمي والحربي المستأمَن” إلى قوله: ” غير أنَّ الذّمي إذا استأجر دار مسلم في المِصْر فأراد أن يتخذها مصلّى للعامّة ويضرب فيها بالناقوس له ذلك، ولربّ الدار وعامة المسلمين أن يمنعوه من ذلك على طريقة الحسبة، لما فيه من إحداثِ شعائرهم وفيه تهاون بالمسلمين واستخفاف بهم، كما يُمنع من إحداث ذلك في دار نفسه في أمصار المسلمين، إلى قوله: ” وهذا إذا لم يشترط ذلك في العقد فإما إذا شُرط بأن استأجر ذمّي داراً من مسلم في مصر من أمصار المسلمين ليتخذها مصلى للعامّة لم تُجَزِ الإجارة، لأنه استئجار على المعصية” انتهى باختصار.

وفيه أيضاً عن أبي حنيفة جوازُ الحمّال يؤجر نفسه من شخص ليحمل له خمراً، وعند أبي يوسف ومحمد ” لا أجر له “.

وفي الجامع الصغير أنهما كرها الأجر لأنه على معصية. ووجه كلام أبي حنيفة: بأن الحَمْل ليس بمعصية؛ بدليل الحَمْل للإراقة والتخليل، وليس بسبب للمعصية وهي الشرب، لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحملُ من ضرورات الشُّرب، فكانت سبباً محضاً فلا حكم كَعَصْر العنب وقطعه، والحديث محمولٌ على الحَمل بنيّة الشرب، وبه نقول، إنَّ ذلك معصيةٌ، ويكره أكل أُجرته([6]) أهـ كلامه باختصار وحذف.

ويُفهم من كلامه عدة أشياء، أولاً: أنَّ الإجارة تامةٌ وصحيحةٌ بين المسلم وغيره الذي يتخذُ الدار مصلَّى، وأن صاحب الدار وغيره سواء في القيام عليه حسبة لمنعه من ممارسة الشعائر غير المشروعة.

ثانياً: أن الشَّرط وليس العلم هو الذي يؤدّي إلى بطلان العقد:

أما الكلام الثاني على مذهب أبي حنيفة في جوازه أُجرة حمّال الخَمْر فيفهم منه أنّ كون الشيء سبباً أو وسيلة لا يكفي، بل لا بدّ أن يكون الفعل محرّماً لذاته فإذا انفكَّت الجهةُ لم ير بذلك بأساً، وبهذا يُقال في انفكاك الجهة بين العقار وبين التصرّف غير المشروع.

الحالة الثالثة: علم المُؤجِر بما ينوي المستأجِرُ أن يفعله بمنافع الذات من تصرفات غير مشروعة.

فأكثر العلماء لا يفرقون بين العلم والشرط في الإقدام وبطلان العقد. قال ابن قدامة في المغني: “ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة، أو يتخذها لبيع الخمر، أو للقمار وبه قال الجماعة وقال أبو حنيفة: إنْ كان بيتك في السواد فلا بأس أن يؤجره لذلك، وخالفه صاحباه واختلف أصحابه في تأويل قوله، ولنا أنه فعل محرّم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبدهِ للفجور.

ولو اكترى ذمّيٌ من مسلم داره فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه، وبذلك قال الثوري، وقال أصحاب الرأي: إنْ كان بيته في السواد والجبل فله أن يفعل ما يشاء([7]) أ هـ.

قال خليلٌ في المختصر وهو يسرد المسائل التي تمنع فيها الإجارة: ” ولا تعلم غناء أو دخول حائض لمسجد أو دار لتتخذ كنيسة كبيعها لذلك”.

وقال الزرقاني معلقاً عليه: ” أو إيجار دارٍ أو أرضٍ لتتخذ كنيسة أو بيت نار أو محلاًّ لبيع خمرة أو عصره أو مجمعاً للفساق([8])” .

قال في البيان والتحصيل: وسُئل، الضمير يعود إلى ابن القاسم لأنه في رسم سماع سحنون عنه، عن الذي يبيع العنب لمن يعصُره خمراً أو يُكري حانوته ممَّنْ يبيع الخمر، أو يُكري دابّته إلى الكنيسة أو يبيعُ شاته لِمَنْ يذبحها لأعياد النصارى ـ قال: أمّا بيعُ العنب ممّن يعصره خمراً أو كراء البيت ممن يبيع الخمر فأرى أنْ يُفسخ الكراء ويُرَدَّ البيعُ ما لم يفُتْ، فإن فات تمَّ البيع ولم أفْسَخْه، وأما كراء الدّابة وبيعُ الشاةِ فإنّه يُمضَى ولا يُرَد.

وقد اختلف في كراء الدّابة قولُ مالك فمنْ ثمَّ رأيت له ذلك، وبلغني عن أشهب أنه سُئل عن الذي يبيع كَرْمَه من النصراني فقال: أرى أن تُباع على النصراني بمنزلة شرائه العبد المسلم([9]).

وعلَّق ابن رشد على كلامه معلِّلاً مُضيَّ البيع عند الفوات، والكراء كذلك: بأنه بيعٌ وكراءٌ لا غرَرَ فيه ولا فساد في ثمنٍ ولا مثمون، فأشبه البيعَ الذي طابق النهيَ كالبيع يوم الجمعة بعد النداء، وذكر ثلاثة أقوال:

الأول: مُضي البيع والكراء بعد الفوات بالثمن.

الثاني: الردُّ إلى القيمة عند الفوات.

الثالث: صحة البيع والكراء وعدم الفسخ ولو كانت ( العين) قائمة.

قائلاً: فعلى قياس هذا القول لا يفسخ بيع العنب ممن يعصره خمراً ولا كراء الحانوت ممن يبيع فيه الخمر وأدرك قبل فوات، فإنْ كان نصرانياً  مُنع من بيع الخمر في الحانوت وبيع عليه العنب، وإنْ كان مسلماً مُنع من جميع ذلك ولم يفسخ منه، إلى أن قال: ” وأما الكراء فيتصدق بجميعه، قيل: لأنه لا يحل له كثمن الخمر، وقيل: أدباً له لا من أجل أنه حرام كثمن الخمر، وهو ظاهر هذه الرواية، وسواء في العنب باعه ممن يعصره خمراً بتصريح أو باعه منه وهو يعلم أنه يعصره خمراً([10]) أهـ.

قال الزرقاني في شرحه للمختصر بعد أن ذكر منع بيع آلة الحرب للحربيين: ” قال في التوضيح: وكذا الدار لمن يتخذها كنيسة، والخشبة لمن يتخذها صليباً، والعنبُ لمن يعصرها خمراً، والنحاسُ لمن يتخذها ناقوساً، وكل شيء يعلم أن المشتري قصد به أمراً لا يجوز كبيع الجارية لأهل الفساد الذين لا غيرة لهم([11]).

وممّن قال بعَدم فسخِ الكراء في البيت يؤجره لمن يبيعُ فيه خمراً مع حرمة الإقدام ابن حبيب من المالكية، قائلاً: إنه إذا أكراه لمن يعلم أنه يبيعُ فيه الخمر لم يُفسخ الكراء بخلاف العنب. والفرق بينهما عنده: أن العنب يغابُ عليه، فلا يمكن منعه من عصره، بخلاف بيع الخمر في الحانوت([12]).

فتحصل في الحالة الثالثة: قولان بالفسخ وعدمه مع التصدق بالأجرة إما لأنها حرامٌ أو لتأديب المُؤجر دون أن يكون ذلك حراماً.

ملاحظة: فرّق بعضهم بين التعامل مع أهل الكتاب فيجوزُ ومع غيرهم فلا يجوز. وهذا يُفهم منْ كلام ابن رشد، حيث يقول في البيان والتحصيل: “وسُئل مالكٌ في بيع الجَزْرَة([13]) من النصراني وهو يعلمُ أنّه يريدها للذبح لأعيادهم في كنائسهم فكره ذلك، فقيل له: أيُكرَوْنَ الدوابَّ والسفن إلى أعيادهم. فقال: يتجنبه أحب إليَّ، وسُئل ابن القاسم عن الكراء فقال: ما أعلمه حراماً وتركه أحبّ إليَّ.

قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا: إن ذلك مكروه وليس بحرام، لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم والتجارة معهم وإقرارَهم، ذمّة للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم في الإقامة لأعيادهم، إلاّ أنه يكره للمسلم أن يكون عوناً لهم على ذلك، فرأى مالك هذا على هذه الرواية من العَوْن على أعيادهم فكرهه، وقد رُوي عنه إجازةُ ذلك وهو على القول بأنهم غيرُ مخاطبين بالشرائع([14]).

وهذا القول مبنيٌّ على عدم مخاطبتهم بفروع الشريعة كما صرَّح به ابن رشد وصرَّح به في المنهج المنتخب حيث قال الزقَّاق:

هل خوطبَ الكفار بالفروع   عليه كالوطء لذي الرجوع

والغسل والكرا وإحداد طلاق    وغرم كالخمر وتحليل عتاق

يعني بقول ” والكرا” كراء الدّابة” لكافر في عيده ليركبها([15]).

ومما يشبه هذا: ما ذهب إليه الشافعيةُ مِنْ جواز إيجار الذّمية على كنس المسجد وما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز إجارة العقارات إليهم في السواد؛ لاتخاذها أماكن للعبادة.

وذكر الونشريسي في قواعده الخلاف في أنهم مخاطبون بالفروع وذلك في القاعدة ( 68 )، وأصلها للقرافي في الفروق والمقري في القواعد: وذكر مِنْ فروع هذه القاعدة إكراء الدابّة للنصارى ليركبوها لأعيادهم، وبيع الشاة لعيدهم.

ونقل عن ابن العربي: أنه لا خلاف في مذهب مالك أنهم مخاطبون إلاّ أنّ أبا بكر بن العربي قال: إنَّ الصحيح جوازُ معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرَّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع في ذلك قرآناً وسُنَّةً إلى آخر كلامه([16]).

وقد قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إنَّ الصحيح أنَّهم غيرُ مخاطبين بالفروع([17]).

توجيه الخلاف بين العلماء في مسألة الإيجار منعاً وفسخاً وصحةً وإمضاءً:

أما القولُ بالمنع والفسخ فهو مبني على قاعدة سدّ الذرائع: ويقول بسدّ الذرائع في الجملة مالكُ وأحمد وينتفي من هذه القاعدة الأحناف والشافعيةُ ويعتمد القائلون بها ـ كقاعدة يُستند إليها في تقرير حكم فيما لا نصّ فيه، وإحداث أثر حيث لا يوجد وصف مؤثر يقاس عليه ـ عموم وظواهر آيات كتاب الله، ونصوص من السنة في مسائل تُشبهُ المسائل محل النزاع.

فمن الآيات قوله تعالى: { وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتَقْوَى ولا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان}.

قال القرطبي: “هي عبارةٌ عَنْ أمرٍ غير ممنوعٍ لنفسه يخافُ من ارتكابه الوقوعُ في ممنوعٍ([18])”.

وتوجيه القول بعدم الفسخ وبصحّة العقد ما أشار إليه ابن رشد وهو مسألة انفكاك الجهة، ومعناها: أنَّ النهي ليس منصبّاً على ماهية العقد، فالعاقدان لا يشوب إرادتهما عيب، والمعقود عليه مِنْ ثمن ومثمن لا غرر فيه ولا خطر، وإنما في استعمال محلّ العقد، وهو أمر خارج عن العقد.

وشبهه ابن رشد بالبيع وقت نداء الجمعة، وقد تقدم كلامُه. ومعلومٌ أن البيع وقت النداء مختلفٌ في فسخه على قولين ذكرهما في التوضيح، وأمّا حرمة الإقدام عليه فلا خلاف فيها كما نقله الحطاب عن الطراز([19]). ومقتضى مذهب أبي حنيفة اعتبارُ انفكاك الجهة([20]).

وأمّا مذهب الشافعي فعلى أصله في عدم الفسخ بالمآل مع الخلاف في حرمة الإقدام، وذلك في بيع العنب لمن يعصره خمراً.

ووجهه الرملي فقال بالحرمة إلاّ أنَّ صاحب المنهاج عطفه على البيوع المنهي عنها والتي لا يفسخ فيها، ونصُّه: ” وبيع الرُّطَب والعِنَب والتَّمْر والزبيب لعاصر خمر” إلى قوله: ومثل ذلك كل تصرّفٍ يُفضي إلى معصية كبيع أمرد إلى آخره([21]).

ونسب ابن قدامة إلى الشافعي القولَ بالكراهية في البيوع التي مآلها إلى الحرمة وشبهها ابن قدامة في ردّه على الشافعية بإجارة الأمَة للفاحشة ونصّه:

مسألة، قال: “وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل”. وجملةُ ذلك: أنَّ بيع العصير لِمَنْ يعتقدُ أنّه يتخذه خمراً محرمٌ وكرهه الشافعي. وذكر بعض أصحابه أنّ البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمراً فهو محرّمٌ، وإنما يكره إذا شكَّ فيه. وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري: أنه لا بأس ببيع التمر لمن يتخذه مسكراً. قال الثوري: بع الحلال ممن شئت. واحتجّ لهم بقول الله تعالى: { وأَحَلَّ الله البَيْعَ}([22])، ولأن البيع تمّ بأركانه وشروطه.

ولنا قول الله تعالى: { ولا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان }. وهذا نهي يقتضي التحريم. ورُوي عن النبيe: ” أنه لعن في الخمر عشرةً، فروى ابن عباس:” أنّ النبيe أتاه جبريل فقال:” يا محمد، إنّ الله لَعَن الخَمرَ وعاصرها ومُعتصِرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها” وأشار إلى كل مُعاوِنٍ عليها ومساعد فيها. وأخرج هذا الحديث الترمذيُّ من حديث أنس، وقال: قد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس وابنِ عمر عن النبيe. وروى ابن بطة في تحريم النبيذ بإسناده عن محمد بن سيرين: ” أنّ قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، فأخبره عن عنب أنه لا يصلحُ زبيباً ولا يصلح أن يُباع إلاّ لمن يعصره، فأمر بقلعه، وقال: بئس الشيخ أنا إنْ بِعْتُ الخمر”، ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية.

فأشبه إجارة أمَته لمن يعلم أنه يستأجرها ليزني بها، والآية مخصوصةٌ بصور كثيرة فيُخَص منها محل النزاع بدليلنا وقولهم: تم البيعُ وشروطه وأركانه، قلنا: لكن وُجِدَ المانعُ منه.

إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيعُ ويبطُلُ إذا علم البائعُ قصدَ المشتري ذلك. إمّا بقوله، وإمّا بقرائنَ مختصة به تدلُّ على ذلك، فإما إن كان الأمرُ محتملاً، مثل أن يشتريها من لا يُعْلَم حاله أو مَنْ يعملُ الخل والخمر معاً ولم يلفظ بما يدلُّ على إرادة الخمر، فالبيع جائزٌ، وإذا ثبت التحريمُ فالبيعُ باطلٌ، ويحتمل أن يصحّ، وهو مذهب الشافعي، لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه، فلم يمنع صحة العقد كما لو دلَّس العيب.

ولنا: أنه عقد على عين لمعصية الله بها، فلم يصح كإجارة الأمَة للزنا والغناء. وأما التدليسُ فهو المحرم دون العقد، ولأن التحريم ههنا لِحَقِّ الله تعالى، فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين، ويفارق التدليس فإنه لِحَقِّ آدميّ.

(فصلٌ): وهكذا الحكم في كل ما يُقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطّاع الطريق أو في الفتنة، وبيع الأمَة للغناء أو إجارتها كذلك، أو إجارة دارِه لبيع الخمر فيها، أو لتتخذ كنيسةً أو بيتَ نارٍ وأشباه ذلك. فهذا حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابنُ عقيل: وقد نصَّ أحمد رحمه الله على مسائل نبّه بها على ذلك، فقال في القصَّاب والخبَّاز: إذا عُلِمَ أنّ من يشتري منه يدعو عليه مَنْ يشربُ المسكر لا يبيعه، ومَنْ يخترِط الأقداح لا يبيعها ممّنْ يشربُ فيها، ونهى عن بيع الديباج للرجال، ولا بأس بيعه للنساء. ورُوي عنه: لا يبيعُ الجوزَ من الصبيان للقمار. وعلى قياسه: البيضُ فيكون بيعُ ذلك كله باطلاً([23]).

وبهذا تكون الأقوال ثلاثة إذا اعتبرنا استواء الإجارة بالبيع، لأنها بيعُ المنافع، لا تفترقُ عن البيع إلاّ في قليل من المسائل تقتضيها طبيعة العقد:

1ـ قولٌ بجواز الإقدام وصحة العقد.

2ـ قولٌ بحرمة الإقدام وصحة العقد.

3ـ قولٌ بحرمة الإقدام وبطلان العقد.

إنَّ المؤجر لا يجوز له أن يؤجر عقاراً أو نحوه إذا كان المستأجر يستعمله فيما لا يشرعُ، بأن استعمله كحانة للخمر أو مثابة للقمار، أو غيره من أنواع الفسق كالربا والبغاء، وإنْ فعل ذلك كشرط في العقد فالذي يترجح هو الفسخُ وعدمُ جواز الاستفادة من الكراء، أما إذا لم يُشْتَرط وعلم المؤجر أن المستأجرَ سيستعمل العقار في المذكور أعلاه فإن الإقدام على الإيجار لا يجوز أيضاً كما عليه أكثر العلماء، لا فرق في ذلك بين أن يكون المستأجرُ مسلماً أو كافراً على الصحيح، كان العقار في أرض الإسلام أو غيرها إلاّ إنْ كان المستأجَر وسيلة نقل لكتابي تنقله لأداء شعائر دينه فالمشهورُ عن مالك الكراهةُ في هذه المسألة.

أما الفسخُ بعد إبرام العقد للعالمِ بمصيره فهو أمرٌ مختلفٌ فيه على قولين جيدين يصلحان للاعتماد لقوة مستندهما.

والذي أختاره عدمُ الفسخ من الكافر نظراً للقول بعدم مخاطبته بالفروع، والفسخُ بين المسلمين لئلا يقروا على حرام.

أما المال الذي يُحْصل عليه من الكراء في حالة عدم الفسخ، ففيه قولان: قولٌ بوجوب التصدق به وهو الصحيح، ولو فُرق بين مَنْ يحتاج الكراء وبين الغني الذي لا يحتاج له لكان وجهاً من النظر لأنهم أجازوا ثمنَ المبيع لفعل حرام إذا فاتت العينُ، كالدار يبيعُها لِمَنْ يبنيها كنيسة لاشتداد الضرر بدلاً من التصدق بكل الثمن. أما مَنْ أَجَّرَ وهو لا يعلم بما سيفعله المستأجر ثم اطلع عليه في أثناء مدة العقد فليس له الفسخُ وله الانتفاعُ بالأجرة، وهو كغيره من المسلمين فيما يجبُ من أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ.

إن هذا الموضوع يدور حول تنزيل الوسائل منزلة المتوسل إليه سداً لذريعة الحرام وتحريم الوسائل كما هو معروف أخف من تحريم المقاصد؛ ولهذا اختلف العلماء في الصور التي ذكرناها وقد اعتمدنا على الاستحسان في الفرق بين المحتاج وغيره بناء على مصلحة سد خلة المحتاج الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة.

والله سبحانه وتعالى وليٌّ التوفيق ومُلْهِم للصَّواب.

([1])  تنبيه: كلما ورد في البحث من عبارة ( غير مشروعة ) فالمقصور أصالة لا الناشئ عن شروط المتعاقدين الصريحة أو الضمنية.

([2]) المجموع شرح المهذّب، تكملة المطيعي، 15/41.

([3]) ابن عابدين، ردّ المختار، ج6/ 81.

([4]) الوجيبة: الإيجار المحدد الزمن كعقار سنة بكذا وهو لازم. المشاهرة: إيجار لا تحد له نهاية بل تكون الأجرة مقابل أي زمان يستمتع فيه المستأجر بالعقار مثله، وهي منحلة من الطرفين. الزرقاني، ج7، ص 46 ـ 47 عند قول خليل “مشاهرة ولم يلزم لهما إلا بنقد فقدره كوجيبة” والمشاهرة المنحلة من الطرفين من مفردات مذهب مالك.

([5]) الزرقاني، 7 /46.

[6]-الكاساني      بدائع الصنائع     4/176 -190

([7])  المغني، ص5، ص 522.

([8]) الزرقاني               7/ 23

([9]) البيان والتحصيل      9/394ـ395

([10]) البيان والتحصيل           9/ 394ـ395

([11]) الزرقاني                  5/11

([12]) البيان والتحصيل         9/396

([13]) الجزرة هي: الواحدة من الإبل ـ انظر المصباح المنير جزر.

([14]) البيان والتحصيل              3 /276

[15]-المنجور      شرح المنهج       ص 261

[16]– إيضاح السالك            ص283- 285

[17]-البيان والتحصيل         18/514

[18]– الجامع لأحكام القرآن              2/57

[19]– حاشية البناني على الزرقاني      2/66

[20]–  ميزان الأصول                ص231

[21]– نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج       3/471

[22]– سورة البقرة  الآية 275

([23]) ابن قدامة           المغني      6 / 317ـ319    هجر للطباعة والنشرـ القاهرة.

Comments are closed.