مقدمة لبحث : تأجيل البدلين في العقود والمعاملات”. للدكتور ياسر عجيل النشمي

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

 

وبعد، وقد اطلعت على ما وشته أنامل الشاب الواعد والبرعم الصاعد فسلمت يداه ودام في البحث والعلم جداه حول :” تأجيل البدلين في العقود والمعاملات”.

وما ذلك إلا الدكتور ياسر عجيل النشمي وفقه الله وأتم علينا وعليه نعمة الفقه في الدين وأعلى كعبه بين العلماء العاملين. 

 

فلا جرم أنه من الوالد الكريم العلامة عجيل النشمي أطال الله بقائه ففاز بنسبة العلم بعد أن حاز نسبة النسب والجذم: 

 

             وَهَل يُنبِتُ الخَطّيُّ إِلّا وَشيجَهُ       وَتغرس إلّا في منابتها النَخلُُ 

 

وقد جلى في رسالته القيمة مشكلة من مشكلات المعاملات المعاصرة فتتبع جذروها في المذاهب الفقهية ليوضح أنها وإن كانت حديثة بالنوع فإنها قديمة بالجنس من خلال نقول ضافية وشروح وافية أبرزت ما فيها من اختلاف وائتلاف وتلاق وتجاف. 

مستعرضاً آراء المذاهب الأربعة وناقشها مبرزاً بالخصوص الاستثناءات التي تعتمد قاعدة تأجيل البدلين بطريقة سهلة وواضحة أنتجت في مجملها أن قاعدة تأجيل البدلين يعترض عمومها التخصيص ويعرض شمولها التنصيص فللحاجة مجال في تخصيصها لأن أوصاف الأعواض من جملة الحاجيات إن لم تكن من الكماليات. 

وهي مسألة من مسائل الحاجيات التي للمقاصد فيها كلمتها بإزاء النصوص الجزئية والقواعد. وقد أشار الشاطبي إلى ذلك حيث يقول: المسألة الثالثة كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين أحدهما أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من غير مزيد. 

والثاني أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت وبيان ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى وكذلك أصل البيع ضروري ومنع الغرر والجهالة مكمل فلو اشترط نفي الغرر جملة لا نحسم باب البيع وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية واشتراط حضور العوضين في المعاوضات من باب التكميلات ولما كان ذلك ممكنا في بيع الأعيان من غير عسر منع من بيع المعدوم إلا في السلم وذلك في الإجارات ممتنع فاشتراط وجود المنافع فيها وحضورها يسد باب المعاملة بها والإجارة محتاج إليها فجازت وإن لم يحضر العوض أو لم يوجد. 

 

 وإذا عالجنا المسألة مقاصدياً في محاولة لإدراك علة منع تأجيل البدلين أو أحدهما في بعض المعاملات وجدنا جواباً للقرافي وآخر لولي الله الدهلوي في الحجة البالغة وذلك مما يفتح الباب أمام الاجتهاد عند أمن الوقوع في محذور الخصومة التي أشارا إليها فقد أشار القرافي في الفروق إلى المقصد من منع تأجيل البدلين بقوله: وها هنا قاعدةٌ وهي أَنَّ مطلوب صاحب الشَّرع صلاح ذات البين وحسم مادَّة الفساد والفتن حتى بالغ في ذلك بقوله عليه السَّلام:” لَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تَحَابُّوا”.، وإذا اشتملت المعاملة على شغل الذِّمَّتَيْنِ توجَّهتْ المُطالبةُ منْ الجهتين فكان ذلك سببًا لكثرة الخُصومات والعداوات فمنع الشَّرعُ ما يفضي لذلك وهو بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.( الفروق )

 

قلتُ: يفهم من ذلك أننا إذا توصلنا إلى آليات تحسم مادة الخصومات وترفع غائلة العداوات ودعت إلى تأجيل البدلين دواعي عوادي الحاجات ما كان ذلك فنداً من القول ولا فيولة في الرأي.  

 

ومما يدل على جواز تأجيل البدلين تخصيص الشارع وجوب التقابض بالنقدين أو الطعامين لما يؤدي إليه التأجيل فيهما من المنازعة الشديدة.  

 

وقد نبه ولي الله الدهلوي على مقصد الشارع في وجوب التقابض فيهما بقوله: وإنما أوجب التقابض في المجلس لمعنيين :

 

أحدهما: أن الطعامَ والنقدَ الحاجةُ إليهما أشد الحاجات وأكثرها وقوعاً، والانتفاع بهما لا يتحقق إلا بالإفناء والإخراج من الملك، وربما ظهرت خصومة عند القبض ويكون البدل قد فني، وذلك أقبح المناقشة ، فوجب أن يسد هذا الباب بألا يتفرقا إلا عن قبض ، ولا يبقى بينهما شيء ، وقد اعتبر الشرع هذه العلة في النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى ، وحيث قال في اقتضاء الذهب من الوَرِق: “ما لم تتفرقا وبينكما شيء”.

 

والثاني: أنه إذا كان النقد في جانب والطعام أو غيره في جانب ، فالنقد وسيلة لطلب الشيء كما هو مقتضى النقدية ، فكان حقيقياً بأن يبذل قبل الشيء وإذا كان في كلا الجانبين النقد أو الطعام كان الحكم ببذل أحدهما تحكُّماً، ولو لم يبذل من الجانبين كان بيع الكالئ بالكالئ وربما يشح بتقديم البدل ، فاقتضى العدل أن يقطع الخلاف بينهما ، ويؤمرا جميعاً ألا يتفرقا إلا عن قبض ، وإنما خص الطعام والنقد ؛ لأنهما أصلا الأموال وأكثرها تعاوراً ، ولا ينتفع بهما إلا بعد إهلاكهما، فلذلك كان الحرج في التفرق عن بيعهما قبل القبض أكثر وأفضى إلى المنازعة، والمنع فيهما أردع عن تدقيق المعاملة.

 

واعلم أن مثل هذا الحكم إنما يراد به ألا يجري الرسم به ، وألا يعتاد تكسب ذلك الناس ، لا أن لا يفعل شيء منه أصلاً ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لبلال: ” بِعِ التمرَ ببيعٍ آخر، ثم اشترِ به”.( حجة الله البالغة 2/918)      

          

قلت: يفهم منه أن غير النقد والطعام الأمر فيه أهون والخطب فيه أيسر وهو كذلك فلو انضبطت معاملات تأجيل البدلين ولم تكن في طعام ولا نقدين لما كان القول بها إداً إذا لم تجد الأسواق عنها بُداً وبخاصة تلك المعاملات التي بها الأعراف قد استتبت والمبادلات قد اتلأبت. 

وقد وضعت رسالة السنية الدكتور ياسر أسس هذه المعاملات وأوضحت سبل المبادلات ونصبت صوى الأعلام للسالكين فدعوتنا لهلالنا المنير أن يكتمل بدراً وأن يرتفع بين العلماء قدراً  يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ 

والله تعالى ولي التوفيق والهادي بمنه إلى سواء الطريق. 

 

                            عبدالله بن بيــه

 

 

Comments are closed.