المواطنة الشاملة : موضوع للبحث – بقلم معالي الشيخ عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين وسلِّم تسليما،

 

المواطنة الشاملة: موضوع للبحث (  نسخة بي دي اف )

معالي العلامة عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء

 

أيها السّادة الأفاضل،

أيها الأخُ رئيس الجلسة،

أصحاب السعادة والفضيلة والنيافة والاحترام،

 أيها المشاركون ،، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

سأحاول أن أسهم في مفتتح اجتماعنا هذا بكلمات قليلة ورسائل مختصرة،

الكلمة الأولى في بيان منطلق مشاركة منتدى تعزيز السلم والتعريف بإعلان مُراكش، والكلمة الثانية حول مقومات المواطنة في إعلان مراكش، والكلمة الثالثة حول المبادئ المؤطرة لحقوق المواطنة ، والكلمة الرابعة  حول شتم المقدس وضرورة مراجعة مفهوم حرية التعبير.

 

ولكن دعوني أوّلا أرحّب بالسادة المشاركين في هذا الاجتماع وأشكر القائمين عليه، فهو اجتماع هامٌّ ومتعلق بموضوع حيوي وحساس، هو موضوع المواطنة الشاملة، ويطيب لي أن أعرب عن سروري بحضور هذه النخبة وبحلول ولتون بارك ضيفا على دولة الإمارات العربية المتّحدة.

 

إننا نتَوَخّى من خلال هذه اللقاءات أن نخرج بتصور مؤصل للمواطنة الشاملة، مستمد من النصوص الدينية ومراع للسياق الحضاري المعاصر المتمثل في الدساتير الوطنية والمواثيق الدّولية.

 

كما سنعمل على تشخيص العراقيل والتحدّيات التي تحول دون تحقيق هذا المفهوم الشامل للمواطنة  والعقبات التي تعترضه في بلدان الشرق الأوسط.

 

إن اهتمامنا في منتدى تعزيز السلم بالمواطنة ليس وليد الساعة بل يعود إلى سنوات عندما شرعنا في مشروع من عدة حلقات تفكيرية ارتكزت على دراسة قضية الأقليات وإطارها العام المتثمل في مفهوم المواطنة، وقد بدأنا هذه المسيرة في أوج حراك الاحتجاجات في بعض البلدان  العربية وما تلاها من أوضاع متردية وواقع مضطرب سالت فيه دماء كثيرة واشتعلت فيه جذوة الكراهية وعلا فيه صوت العنف، وكان للأقليات الدينية في بعض البلدان الإسلامية المتوترة نصيبها من القتل والاستعباد والتهجير وأشكال مختلفة من امتهان الكرامة الإنسانية، وإن كان الأذى شمل الجميع، بل ربما نالت منه بعض الأكثريات نصيبا كبيرا ومسها منه قرح عظيم.

 

وبعد إنشاء منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في سنة 2014 بدأ الإعداد  هنا في أبوظبي حيث توجت مسيرة ورشات التفكير بمؤتمر ” حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة” الذي تم عقده في مدينة مراكش يوم 25 يناير 2016 بالاشتراك والتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وقد جمع هذا المؤتمر عددا معتبرا من علماء المسلمين والرسميين ممثلين لجلّ دول العالم الإسلامي.

 

وصدر عن المؤتمر إعلان مراكش التاريخي لحقوق الأقليات باتفاق ومصادقة جميع الحضور من العلماء المسلمين وبمباركة القيادات الدينية من غير المسلمين، الذين كانوا شهودا، ومن بينهم ممثلون عن الأقباط واليزيديين والصابئة المندائيين والنصارى الآشوريين وغيرهم.

 

وقد حرص المؤتمر أن يبين بقوة وحزم أن اضطهاد الأقليات الدينية وكافة أشكال العدوان عليها التي يقترفها الإرهابيون مخالفة لقيم الإسلام الذي أقر للأقليات الدينية حقوقها الدينية والثقافية والسياسية، في وقت لم تكن البشرية قد عرفت مثل هذا النوع من التسامح الموثّق بصحيفة المدينة من قبل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما تؤكّده مراجع السيرة النبوية.

 

وقد جاء الإعلان يجلي القيم الإسلامية والأسس المنهجية لواجب التعايش السعيد والتعامل الحسن مع سائر أتباع الديانات ويستنهض فعاليات المجتمعات المسلمة ويستحثها نحو خلق تيار مجتمعي عريض لحماية الأقليات الدينية في البلدان المسلمة ويسعى هذا الإعلان أيضا بتأثيره المجتمعي إلى حض الأفراد والمجموعات والدول على ابتكار الصيغ والمبادرات التي تعزز ثقافة التعايش وحماية الأقليات.

 

وقد دعا الإعلان علماء ومفكري المسلمين إلى العمل لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم، حيث انتهى العهد الامبراطوري ودخلت المجتمعات المسلمة ضمن إطار ما صار يعرف بالدولة القطرية أو الدولة الوطنية.

 

وكذلك لم تعد الولاءات في الوقت الراهن دينية حصرا، بل أصبحت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لاتنفصل عن بعضها كما ظهرت النزعة الفردية بحيث لم تعد الجماعة مؤطرة لفعل الفرد في بعض البيئات، ثم وجود المواثيق الدولية والقانون الدولي مؤطرا للعلاقة بالآخر، وكذلك التعددية الثقافية والعرقية والدينية في كل قطر بسبب العولمة، وبروز ثقافة الحريات عاملا مؤثرا وفاعلا في الواقع، وبناء نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية.

 

كل هذه المتغيرات قد ارتقت بالمواطنة إلى مرتبة كُلّي الزّمان حيث غَدَتْ تتمثّل في ميثاقين يحكمان الواقع، ميثاق داخلي، وهو دستور البلاد الذي يمثل عقدا بين كل المواطنين، وميثاق عالمي وهو ميثاق الأمم المتحدة ولواحقه، كإعلان حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية.

 

 

ما هي مقومات المواطنة الشاملة في إعلان مراكش؟

لقد كانت المواطنة في المفهوم التاريخي تقوم على العرق أو الدّين أو التاريخ المشترك أو على عنصر نقاء النسب الذي يؤدي إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كمـا كان عند الرومـان أو العرب في عصر الجاهلية.

 

وعلى العكس من ذلك نحت المواطنة في السياق المعاصر منحى تعاقديا في إطار تعدُّدي أو ما يسمِّيه هابرماس بالمواطنة الدستورية، أي شعور الفرد بانتمـائه إلى جمـاعة مدنية مؤسسة على عقد مواطنة يسوي بين الجميع.

 

المواطنة بهذا المعنى مفهوم جديد وهو عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة، وليست بالضرورة منتمية إلى جد واحد، ولا إلى ذاكرة تاريخية موحدة، أو دين واحد، إطارها دستور ونظم وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها، إنها شبه جمعية تعاونية ينتمي لها بصفة طواعية أفرادها بشكل تعاقدي، فالذي ينضم اليوم إليها له نفس الحقوق التي كانت لأقدم عضو، فلافرق بين الأول والأخير والأصيل والدخيل.

 

وبالجملة فإن المواطنة رباط أو رابطة اختيارية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور، والمواطنة تتسامى على الفئوية لكنها لا تلغيها، والمطلوب أن تتواءم معها وتتعايش معها تعايشاً سعيداً.

 

لقد سَعْينا من خلال إعلان مراكش إلى تأصيل هذا المفهوم الجديد للمواطنة انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة بوصفها أساسا صالحا للمواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية، وخيارا يرشّحه الزمن والقيم للتعامل مع كلي العصر لتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، فهي اتفاق أتى من غير حرب ولا قتال ولا عنف ولا إكراه، اتفاق تداعت إليه أطرافه طواعية للالتفاف حول المبادئ التي تضمنها ضمن دائرة التفاعل الإيجابي مع الواقع ومع مكوّنات مجتمع المدينة، وتحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة، مع وجود مرجعية حاكمة يفيء إليها الجميع حال التنازع والاختلاف.

 

إننا بذلك نترجم لغة الدين إلى لغة الفضاء العمومي حسب عبارة هابرماس، لغة الحياة المدنية والقانون، ونستعير من نصوص التاريخ لإنزالها على العصر الحاضر، مع الاحتفاظ لكل عصر بلغته وببيئته الزمانية والمكانية، نستنطق النصوص الدينية ونجمع متفرقاتها ونغوص إلى الحكم والمقاصد ونأول طبقا لضوابط الاستنباط ومسالك التأويل، ونقارن بينها وبين ما وصلت إليه البشرية من آراء ومبادئ تخدم المصالح الإنسانية وتؤمّن الكليات الخمس، ذلك هو منهجنا في البحث. {يراجع الإعلان}.

 

إن أهمّ مقوّمين من مقومات المواطنة في إعلان مراكش هما:

  • مبدأ الاعتراف بالتعددية وإقرار الحرية الدينية : حيث جاء في البند الثاني من الإعلان في سياق التذكير بالمبادئ الكلية والقيم الجامعة التي جاء بها الإسلام، ” إن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار: (لا إكراه في الدين) (ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)”، وجاء في البند 13 في سياق ذكر الأسس المرجعية للمواطنة المتضمنة في صحيفة المدينة المنورة، ما نصُّه: ” إن السياق الحضاري المعاصر يتوافق مع وثيقة المدينة لأنها تقدم للمسلمين الأساس المرجعي المبدئي للمواطنة، إنها صيغة مواطنة تعاقدية ودستور عادل لمجمتع تعددي أعراقا وديانة ولغة، متضامن، يتمتع أفراده بنفس الحقوق، ويتحمّلون نفس الواجبات، وينتمون رغم اختلافهم إلى أمة واحدة”.

من خلال هذا المبدأ استهدف إعلان مراكش المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، حيث يرى البعض أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة، ويفترض تعارضا ذاتيا بين الولاء للدين والولاء للوطن، وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة حين تضعُف سلطة الدولة فتطغى سلطة الهوية الدينية، وتفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتّى الوجودية.

 

لقد كان الاهتمام في إعلان مراكش متوجّها إلى قلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.

 

 فإذا كان الولاء للدين أمرا مسلما به عند كل مُتدين، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنه يطرد الولاء للوطن بمفهوم المواطنة الذي أشرنا إليه؛ فليس بينهما تنافٍ.

 

مبدأ الواجبات المتبادلة والحقوق المتساوية: مما يقتضي الإيجابية في العلاقة، والبعد عن الاختلاف، والشعور بالشراكة في المصالح. وقد جاء في البند 15 ما نصّه: ” إن صحيفة المدينة المنورة تضمنت بنودها كثيرا من مبادئ المواطنة التعاقدية كحرية التدين وحرية التنقل والتملُّك ومبدإ التكافل العام ومبدإ الدفاع المشترك، ومبدإ العدالة والمساواة أمام القانون (وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته…)، (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لا يأثم امرؤٌ بحليفه، وأن النصر للمظلوم)”.

 

بهذه المقاربة الجديدة ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك. لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتمـاءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجمـاعة يجد المواطن نفسه والجمـاعة مكانتها.

 

وانطلاقا مما تقدم فإن هذه المقاربة تتغيى هدفين:

 

الهدف الأول: السلم الاجتماعي

إن من مكامن القوة في هذا التصور الذي  أبرزه إعلان مراكش هو الربط الواصب بين المواطنة وإطارها الناظم والمتمثل في مقصد السلم.

 

فبدون سلام لا حقوق، لأن فقدان السلم فقدان لكل الحقوق بما فيها حق المواطنة، فالسلام هو الحق الأول والمقصد الأعلى الذي يحكم على كل جزئيات الحقوق، فلا يمكن أن نتصور مواطنة بالمعنى الذي نبحث عنه في بيئة متشنجة.

 

فبالسلم تسود الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات، ليكون السلم الاجتماعي حالة من الوفاق تتمظهر في التضامن والتعاون لإيصال النفع إلى الجميع ودرء الضر عن الجميع ، وتتجلى في اللغة والسلوك والمعاملة، فلاعنف في اللغة  ولا اعتداء في السلوك ولا ظلم في المعاملة.

 

فالسلم يوجد بيئة الحب والسعادة والانتماء إلى الأمة والوطن والانخراط في مصالحه، وهو قبل كل شيئ مصالحة مع الذات قبل أن يكون مصالحة مع الغير .

 

فلاسبيل إلى تحقيق مواطنة شاملة إلا من خلال استراتيجية السلم.

 

إن هذا المبدأ الذي نرفعه في منتدى تعزيز السلم، مبدأ عام صادق في كل البيئات ، فلايختص ببيئة دون أخرى ولايقتصر على مجتمع دون آخر، ولكنه في عالمنا العربي والإسلامي أظهر والحاجة إليه أمس والوعي به أكثر إلحاحا.

 

الهدف الثاني: المحافظة على النظام العام

 

إن الحقوق المقوّمة للمواطنة لابد عند تنزيلها من مراعاة سياقاتها المكانية والزمانية ومآلاتها، بحيث يحرص على تحقيق الموازنة بين الحقوق الجمعية والحقوق الفردية وبحيث يحافظ على النظام العام.

 

النظام العام في اصطلاح القانونيين هو ” أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلَّق بنظام المجتمع الأعلى” وهو مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى باعتباره راجعا إلى النظام الأعلى للمجتمع ولهذا عبّر عنه بعض القانونيين بأنه مبدأ غامض وأن هذا الغموض متعمّد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلا، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخّاة.

 

وإلى النظام العام أحال إعلان حقوق الإنسان في الفصل 29 الذي جاء بمثابة الفصل المقيد لإطلاق الفصول التي سبقته، ونصه :  “

  • على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.
  • يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

 

إن هذه القيود جديرة بأن تكون موضوع دراسة، وأن توخذ بعين الاعتبار عندما يكون الانتهاك المزعوم لحقوق الإنسان يستند إلى القانون الوطني والشرعة المطبقة في البلد المعين، فهل بالإمكان والحالة هذه أن نعتبر الأحكام الصادرة طبقا لتشريع بلد ما من الجهات القضائية المخولة دون أن يشوب إجراءاتها أي خلل أن نعتبر تلك الأحكام تعسفية؟، وبعبارة أخرى فإن التعسف لا يثبت إلا في حالة مخالفة تلك الأحكام لمقتضيات القانون المحلي.

 

حرية التعبير وشتم المقدس

ومن هنا نشدّد على ضرورة مراجعة كثير من المفاهيم المرتبطة بالمواطنة كمفهوم حرية التعبير، على ضوء هذين الهدفين، باعتبارهما مؤطرين لتنزيل هذه المفاهيم في البيئات المختلفة تنزيلا لا يعود على المواطنة بالإبطال والإخلال.

 

فلا بد من ربط عنوان الحريات الدينية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير، الذي أصبح مبدأ مقدّساً في الحضارة السائدة بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.

 

إنه من الملائم العمل على أن تكون القوانين ناشئة لمعالجة البيئة التي تراد لها،وليست مستنسخة عن أوضاع أخرى تلغي الخصوصيات والتفاوت بين المجتمعات وتغفل التراكمات التاريخية والمجتمعية. لهذا فإن الدعوة إلى حرية تدنيس المقدس هي من هذا الصنف من حرية التعبير الموهومة والمحرّضة على العنف والكراهية، والمؤذنة بالإساءة على النظام العام للمجتمعات وبالتالي باختلال السلم المجتمعي.  لا يمكن أن تكون حرية التعبير هي حرية شتم رموز الإنسانية الذين نؤمن بأن معنى الوجود وصل إلينا من خلالهم (الأنبياء). لقد كان فردريك نيتشه هذه المرة أكثر بصيرة حين يقول في كتابه “ما وراء الخير والشر: (إن الذين أوجدوا القيم في حياة البشرية قلة في التاريخ  ومنهم موسى وعيسى ومحمد).

 

إن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حريّة التعبير، لأن المسيء لا يتغيّى من خلاله إلا إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، ولئن كان البعض يستشكل الموضوع من حيث اعتبارية التقديس ونسبيته، بحيث لا يرى في شتم المقدّس ما يستوجب التجريم، فإننا نرى أن شتم الرموز المقدسة لدى بعض المواطنين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المواطنين وتعدٍ على حقهم في احترام معتقداتهم، فهو فعل عبثي صادر عن إرادة أثيمة وقصد سيء، قد يكون للبحث عن بطولة غير مستحقة لأنها تؤول إلى حروب وفتن، وقد يكون للبحث عن دور الضحية رياء.

 

وهكذا على الرّغم من تعدّد المقاربات التي تناولت مفهوم حرية التعبير : قانونياً وأخلاقياً وفلسفياً، لايزال مفهوماً غائماً يثير من الإشكالات ما يستوجب من أهل الاختصاص أن يعيدوا فيه النظر، لبيان حدوده وضبط متعلقاته وجلاء الغموض الذي يشوبه باعتبار  علاقة هذا المبدإ بالسلم الاجتماعي، وباعتبار المعيارية القانونية المتثملة في علاقته بالنظام العام.

 

والأمثلة على تقييد الحريات بمبدإ النظام العام في التراث القضائي الغربي كثيرة، ففي سنة 1995 منعت الحكومة البريطانية عرض فيلم “رُؤَى النشاوى” لمخرجه وينكروف لأنها اعتبرته فيلما قادحا في شخص سيدنا المسيح عليه السلام وأكدته محاكم المملكة المتحدة، فما كان من المخرج صاحب الفيلم إلا أن رفع دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية باعتبار الحظر الذي فرضته الحكومة البريطانية منافيا لحرية التعبير والحق في نشر الآراء.

 

وبعد نظر المحكمة في الدعوى أيدت موقف الحكومة البريطانية باعتبار الفيلم المذكور مقذعا ومتجاوزا للحدود المسموح بها في تناول موضوع مقدّس وفقا للقانون البريطاني في ذلك الوقت.

 

إن المحكمة راعت في هذا القرار رقم 19/1995/525/611 الصادر بتاريخ 25 نوفمبر 1996م. تصور ها للنظام العام الذي هو نتيجة لموقف حضاري محدد يعتبر فيه سيدنا المسيح عليه السلام مقدسا طبقا للقيم الدينية للمسيحيين والمسلمين أيضا.

 

وفي قضية مشابهة أكدت المحكمة الأروبية فيي منتصف شهر أكتوبر الماضي سلامة أحكام القضاء النمساوي في قضية شتم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معللة هذا القرار (رقم 360/2018 ) بأن الدعاوى المسيئة لايمكن أن تدخل في نطاق حرية التعبير، حيث إنها تمس حقوق المواطنين الآخرين في احترام معتقداتهم الدينية وتهدد السلم الديني في المجتمع النمساوي.

 

ولا يسعنا هنا إلا أن نثمن هذه القرارات باعتبار أنها تسهم في تعزيز السلم العالمي ونشر المحبة والتسامح في العالم، وهي بالتأكيد تُمَثِّل سوابق قضائية عاقلة سيكون على محاكم الغرب أن تأخذها بعين الاعتبار في هذا النوع من القضايا.

وكذلك ينبغي التنويه  بسياسة دولة الامارات في ترسيخ مبادئ المواطنة التي تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وبوضوح الهدف، ويتجلّى ذلك بوضوح في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

 

وفي الختام،

فإن هذه جملة من الأفكار حاولت من خلالها أن أقرأ بسرعة بعض ما ورد في إعلان مراكش وأن أُلِحّ على الهمِّ الخاص بالأمن والسلم الاجتماعي والمجتمعي الذي بدونه لن تكون المواطنة سعيدة ولا سديدة، بل قد يصبح الوطن حلبة للصراع وساحة للنزاع، بل ربما ميدانا للدماء والأشلاء. إن الأخلاق الرفيعة وروح التسامح والمودة والوئام وسعة الصدر واتساع الفكر  هي التي تُحَصّن الأوطان وتجعل المواطنة مثابةً للإكرام والإحسان.

 

لذلك نرجو أن تتسع صدوركم لآراء قد لا يتفق معها بعضُكم ولكنها بالتأكيد تبحث عن السلام.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Comments are closed.