كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر (الوحدة الإسلامية.. مخاطر التصنيف والإقصاء) في مكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

تنزيل : كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر الوحدة الاسلامية بمكة المكرمة

 

صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة ومستشار خادم الحرمين الشرفين حفظه الله

صاحب السماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

صاحب المعالي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة كل باسمه وجميل وسمه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ومضمونها ووسائلها.

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، إنّ الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوي روح التواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

إنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبينان المرصوص يشد بعضه بعضا)  وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن الإسلام يتعامل مع الواقع والإمكان، فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية، ويراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك، فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، ولهذا فإن كل ما يدرأ المفاسد ويحقق المصالح يعتبر من مقاصد الشريعة. قال الجويني: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ولهذا كان ما قام به الحكماء في هذا العصر من إنشاء مؤسسات للتضامن والتعاون بين المسلمين يشكل امتثالاً لمقاصد الشريعة وتعاملاً مع روح العصر، ذلك ما قام به الملك فيصل بن عبدالعزيز حينما دعا لمؤتمر لوزراء الخارجية في جدة في مارس ١٩٧٠م، والذي نشأت عنه منظمة تجمع أقطار الدول ذات الغالبية المسلمة، وتضم مؤسسات مساندة كالبنك الإسلامي وغيره.

وعلى هذا دلت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعددت دول الإسلام وتعدد أئمتهم ولم يثبت أن أحداً سعى إلى توحيد الأقطار تحت راية واحدة بدافع عقدي يستبطن مبدأ وجوب الخلافة ووحدة الإمام.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

وإنّ من أبرز وسائل تحقيق الوحدة اليوم تنمية أوجه التّضامن، من خلال تعزيز المشتركات، والإيمان بأن التنوع المتناغم هو القاعدة الذهبية، وأنه أساس الوحدة والانسجام وليس القطيعة والانفصام.

إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحا لتعزيز الوحدة هي احترام الاختلاف بل حبه بحيث ينظر له كإثراء وكجمال وكأساس لتكوين المركب الإنساني، إن الاختلاف ليس بالضرورة عداوة وحربا بل إنه يمكن أن يكون جمالا كاختلاف ألوان الطبيعة.

إنّ الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع وما دام في حدود الشرع وضوابطه فإنه لا يكون مذموما، بل يكون ممدوحا ومصدرا من مصدرا من مصادر الإثراء الثقافي والفكري، إذا احترمت آداب الاختلاف، كاحترام رأي المخالف وعدم تجريحه وإنصافه وعدم المعاداة وتغليب مصلحة الألفة وحسن الظن بالمخالف والبحث له عن أقرب الأعذار.

مع احترام آداب الاختلاف يكون الاختلاف رحمة كما جاء في الأثر المشهور على ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة) قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، وختلاف أصحابي لكم رحمة. والكلام في تخريج هذا الحديث طويل.

 

إنّ روح الإقصاء التي يحذر منها مؤتمرنا اليوم تنبع أساساً من الانغلاق الذي يسبب رفض الآخر وإساءة الظن به، وقد أحسنتم سمو الأمير بإهتمامكم بقيم الإعتدال، التي هي الدواء الناجع للتنطع والتشدد. إن ما تقومون به من جهود نموذج يجب احتذاؤه في أنحاء العالم الإسلامي. إن الإقصاء في مظهره الأشد ألا وهو التكفير ليس من منهج أهل الإسلام كما دلت على ذلك أقوال وأفعال العلماء الراسخين.

يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية: (إنّ علماء المسلمين المتكلمين في الدين باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات).

(ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن من الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)).

كما يقول : (والذي نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة).

 يقول الحافظ بن رجب: (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظن أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض، فإن كثيراً من البغض لذلك إنما يقع لمخافة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن قد يخطيء ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم).

قال يونس الصدفي: (ما رأيث أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أباموسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة).

قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه: (أما إنّه لم يكذب ولكن لعله نسي أو أخطأ).

ولقد كان الذهبي مثال العالم المتفتح المنصف الذي لا يتعصب لأتباع مذهبه، فقد قال عن الشيخ عبدالساتر المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى: (إنّه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة). (وعني بالسنة وجمع بها، وناظر الخصوم وكفرهم، وكان صاحب حزبية، وتحرّقٍ على الأشعرية، فرموه بالتجسيم، ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة، وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس).

وقال: (كل فرقة تتعجب من الأخرى، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة).

قال الشاطبي: (فكلّ مسألة حدثت في الإسلام فاختلف النّاس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: (إنّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يتجنبها. وظاهر أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطفو فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين).

وأنكر ابن مسعود على عثمان رضي الله عنهما إتمام الصلاة في السفر، ثم صلّى خلفه وقال: (الخلاف شر).

قال أحمد: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً).

وختاماً يسرني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة الشيخ محمد عبدالكريم العيسى في التقريب بين المسلمين ومد جسور الوحدة فيما بينهم، كما أتمنى لمؤتمرنا الذي يجمع بين شرف المكان والمكانة النجاح والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

Comments are closed.