“التربية على التسامح : السبيل لمكافحة التطرف” – العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم

>>>

نص الكلمةPDF :  “التربية على التسامح : السبيل لمكافحة التطرف”

>>

معالي العلامة عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان

سعادة السفير سام براون باك،

أيها الأخُ رئيس الجلسة،

أصحاب السعادة والفضيلة ،

 أيها المشاركون ،، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

سأحاول أن أسهم في هذا اللقاء بكلمات قليلة ورسائل سريعة حول موضوع التربية على التسامح.

إنه موضوع له أهمية كبرى، له راهنيته وضرورته، لكنه صعب فكما يقول الفيلسوف أمانويل كانت  “إن ثمة اكتشافين إنسانيين يحق للمرء أن يعدهما أصعب الأمور، وهما: فن حكم الناس، وفنُّ تربيتهم”.

بيد أن تلك الأهمية تزداد وهذه الوجاهة تتضاعف إذا كان الحديث عنه في بلد التسامح بلد زايد المؤسس لقيم التسامح والتعايش، وفي عام التسامح الذي اختارته قيادة البلاد  لتجعله القيمة المركزية التي عليها مدار كافة المبادرات والتدابير في الدولة.

 

الكلمة الأولى: عن التربية

التربية ليست مطابقة للتعليم، فالتعليم يكتفي بنقل المعلومات والإمداد بالقدرات والمهارات، بينما تهتم التربية بتهذيب السلوكيات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات.

إن التربية هي جوهر التّعليم، وكلّما حصل فك الارتباط بينهما، آل الأمر إلى نوع من الاختلال؛ فالإنسان كائن أخلاقي، وكل تعليم يستبعد التربية ولا يعتني بالمواصفات التي سيكون عليها سمت وسلوك المتعلمين إنما يخل بالشرط الجوهري الذي يكمن في الدور القيمي الأخلاقي للتربية.

إن التّربية ليست مجرّد موادّ تدرس أو مضامين تلقّن، إنها مسارٌ إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورا أساسيا، قد يكون أمرا يسيرا أن تدرس الرياضيات أو الأحياء، ولكن الصعوبة تظهر عندما نحاول أن ننشأ الأجيال على سلوكات إيجابية متسامحة.

 

 

الكلمة الثانية : التربية المتهم الدائم

ولهذا كانت التربية هي المتهم الدائم في كل ما يصيب الإنسانية من انحرافات وأزمات، وحتى حين  تقتضي الطبيعة الاستعجالية لبعض الأزمات اللجوء إلى علاجات سريعة تستهدف الأعَرَاض كالوسائل الزجرية، فإن التّعويل الأكبر يظلّ على كشف العلاقة الخفية بين المنظومة التربوية وبين تلك الانحرافات.

ويزداد هذا الاتهام حدّة حين يتعلق بالتعاليم الدينية ومواد العلوم الإنسانية ذات الطبيعة الحساسة كالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، فهي التي توعز للإنسان بالفعل وتضع منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة.

ففي كلّ حرب أو فترة جفاء في العلاقات يتم توجيه أصابع الاتهام إلى الدّين وبعبارة أخرى إلىى التّعاليم الدينية؛ ويتقوّى هذا الاتهام بما تدلّ عليه التجربة التاريخية من أن الحروب الدينية لها نصيب في تاريخ الحروب البشرية التي بدأت منذ اعتدى قابيل على هابيل، في عهد أب البشريّة، هكذا نعتقد نحن المؤمنين بالنبوّات، وخاصة أبناء العائلة الإبراهيمية.

الكلمة الثالثة : فشل مقاربة إبعاد الدّين من التعليم

في كثير من بلدان العالم وفي بعض البلاد الإسلامية سادت مقاربة إخراج الموادّ الدينية من المجال العام لتحييد التأثير “الضارّ” لها، وهو أمر يعتمد أحيانا على قوة القانون.

وقد نَظّر لهذه المقاربة الكثير من فلاسفة العصر الحديث كحلٍّ سحريّ في الغرب المكتوي بنار الحروب الدينية، معتبرين أن طغيان الانتماء إلى الهوية الدينية يؤدّي إلى انهيار روح المواطنة وإلى القضاء على التسامح وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة، فحين تضعف سلطة القانون تطغى سلطة الهوية الدينية وتَفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتى الوجودية.

 وقد ساندت هؤلاء الفلاسفةَ مجموعات دينيّة عاشت اضطهادا شديدا جَرّاء تسيّد مجموعات دينية أخرى عليها، وفرضِها التجريم الديني على كل مخالف، فإن كان مخالفا في العقائد  تمّ اتهامه بالهرطقة –الزندقة، وإن كان مُخالفا في الممارسة التعبدية يُوصَم بالانشقاق – البدعة.

في هذا السياق المفعم بالصراع الديني، نشأ مفهوم التسامح العابر للمذاهب والطوائف، وقد لجأ جون لوك أحيانا في الاحتجاج لهذا المفهوم إلى التوسُّل بالتأويل لنصوص الكتاب المقدّس.  ولهذا فإن بعض البروتستانت يقولون إن التسامح هو هدية البروتسانتية إلى العالم.

ولكن التّجربة التاريخية أثبتت عدم نجاعة هذه المقاربة حتى في البلدان ذات التقليد العلماني الأصيل، حيث بدأت بعض الدول التي أصبحت التعددية الدينية واقعا عميقا فيها، تبحث عن موائمات جديدة، لإصلاح المناهج وإدخال تعليم الأديان بشكل يتيح للنشأ التعرف على معتقدات بعضهم البعض والتعارف فيما بينهم.

 

الكلمة الرابعة : مقاربة الرواية البديلة عن التطرّف  

في مقابل هذه المقاربة المحدودة، فإننا في دولة الإمارات نعتمد على مقاربة أكثر نجاعة وألصق بالسياقات المحلية، وهي مقاربة ترتكز على  الوعي بأن الدين كالطاقة قد تجلب الازدهار والاستقرار لكنّها قد تجلب أيضا الخراب والدمار، فالدّين في الأصل طاقة سلام ومحبة ووئام، ولكن صناعة التدين يمكن لها أن تتحول من رحمة إلى نقمة.

ونحن نعلم يقينا أن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية وغيرها من الديانات والفلسفات الإنسانية تحمل في نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التعايش والتي لا تخطئها العين، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش وحول عالمية الكرامة الإنسانية، واحترام الاختلافات الدينية هي مضادات قوية للتطرف الديني العنيف.

ولذلك فإن قوام هذه المقاربة هو تقديم الرواية البديلة عن الرواية المتطرفة، باللجوء إلى التأويل المقارب والملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان، والذي يجيده العلماء الراسخون. الاختيار بين الأقوال والآراء سيكون الأساس الأمثل لمراجعة المناهج لتصحيحها واعتماد المقاربة الأكثر قبولا للتعايش والمعاصرة من خلال توسيع مساحة فقه المقاصد الكلية الذي يعتبر الأداة المثلى في عقلنة الخطاب والفتيا.

الكلمة الخامسة: نماذج من تنزيل رواية التسامح

إننا في منتدى تعزيز السلم نضطلع بهذا العمل التأصيلي لتقديم الرواية البديلة في كثير من القضايا الحساسة التي ظلت لحقب طويلة حكرا على الخطاب المتطرف، وقد اجتهدنا في التفكيك المنهجي لبنية خطاب الكراهية وتصحيح المفاهيم، وتقديم البدائل المؤصلة، لأنّ الساحة لا تقبل الفراغ، ولا يمكن أن يكتفى بالإدانة المبهمة لخطاب التطرف بدون إحلال الرواية المتسامحة محله.

 وهذا ما قمنا به في إعلان مراكش التاريخي الذي أعلن فيه العلماء الحقوق المتساوية والمواطنة الكاملة وحرية الممارسة الدينية للطوائف غير المسلمة في البلاد الإسلامية. وقد مثّل وثيقة تاريخية في تأصيل قيم التسامح والتعايش بين الديانات والثقافات.

ولقد اعتمدنا إعلان مراكش مادة للتدريس في مركز الموطأ للدراسات والتأهيل،  في برنامج إعداد العلماء الإماراتيين، حيث نكون نخبة من أبناء البلاد شبابا وفتياتٍ، على الرواية الصحيحة للدين والرؤية الواعية للواقع، ليستنى لهم القيام بدورهم في الإرشاد الديني بشكل إيجابي يخدم قيم التسامح والسلام.

إننا في مركز الموطأ قد شرعنا في تدريس مادة التسامح حيث قمت شخصيا بتقديم الدروس الأولى وعرض المقاربة أمام الطلبة والأساتذة.

فنحن نعلمهم من رحم الدين ومن نصوصه المقدّسة الموثقة، نعلمهم أن النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم استضاف المسيحيين في مسجده حيث أدوا فيه صلاتهم وطقوس دينهم بإذنه وحمايته.

نعلمهم أن القرآن الكريم يذكر أهمية حماية دور العبادة لليهود والمسيحيين في نفس الآية مع مساجد المسلمين وإن كبار العلماء من أصحاب الرسول قالوا إنّ هذه الحماية لا تخصّ أصحاب هذه الدّيانات بل إنها مسؤولية المسلمين أيضا،  ارتقاءً بالتسامح إلى مستوى التضامن وحرصا على إيجاد شروط التعددية وإبعاد دور العبادة عن الخصومة.

ونحن متأكدون بأن الإيمان والتعايش والدين والسلام يمكن ويجب أن تتساكن كما يمكن للمواطنة التعددية أن تقلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.

إن منهجيتنا تقوم على ثلاث مراحل:

  • جمع النصوص المتعلقة بموضوع التعايش، لنسنتنطقها ونجمع متفرقاتها ونغوص إلى الحكم والمقاصد.
  • تقديم التفسير الصحيح للنصوص التي يقدمها المتطرفون ضد التعايش، لتفنيد استشهادتهم قولا بالموجب، طبقا لضوابط الاستنباط ومسالك التأويل المقارب،
  • إنزال المفاهيم على الواقع المعاصر، مترجمة إلى لغة الفضاء العام، حسب عبارة هابرماس، أي لغة الحياة المدنية والقانون،

  وكذلك نقوم بتقديم عناصر الرواية البديلة، في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، في تجربة نأمل أن تصبح نموذجية، مما يثير ردود فعل، بناء على أن الساحة قد أصبحت بحكم العولمة وتقنيات التواصل ساحة واحدة، وهو ما يجعل عناصر رواية التسامح تثير حوارا قد لا يكون أحيانا وُديا ولكنه يظل مفيدا وصحيا، حتى مع أشد الجهات تطرفا.

وعلى مستوى جميع مؤسسات التعليم والتربية، أعلنت الدولة عن اعتماد وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها حضرة الحبر الأعظم البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، لتكون وثيقة مرجعية في التربية على التسامح والسلام.

 

الكلمة السادسة: إهابة وتنويه

وبالمجمل فهذا الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر وإلى بحث عميق لا يلغي البرامج بصفة تلقائية ولا يتهمها جملة وتفصيلا ليتخذ منحى التطرف المضاد؛ بل ليتعامل معها بصفة انتقائية وبكثير من الفهم والحكمة والعمق الذي به يتسنى لنا أن نسدِّد وأن نصلح ما أساءته وأفسدته يد التطرف ويد الجهل الذي هو أساس المشكلة مضافا إلى عوامل أخرى.

وفي الختام يتعيَّن أن نشير إلى أن مناهج التعليم تعاني عجزا واضحا يتجلى في انكماش مساحة الاجتهاد الفقهي مما نتج عنه عجز في مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وضحالة الإنتاج الفكري.

 فنرى لزاما أن تسد هذه الثغرة التي تتعلق بالعلوم الإنسانية وبالمنطق وفلسفة اللاهوت التي قد تبدّت ضرورتها لإيجاد البعد العقلاني  والحواري في الدراسات الدينية في الوقت الحاضر حتى لا يكون التعليم مجرد تلقين جامد لا يقوم على أساس التعقل بل يعتمد تدجين العقل وتعطيل الفكر.

وأخيرا نقول مع المدير السابق لمنظمة اليونسكو فريدريكو مايور:  ” فلنمارس التربية على التسامح في مدارسنا، في جماعاتنا، في بيوتنا، وفي مواطن عملنا، وبخاصة في قلوبنا وفي أرواحنا”.

وذلك ما سنفعله في دولة الإمارات العربية المتحدة، والسلام عليكم ورحمة الله.

Comments are closed.