أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع

 

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

 

أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع- بقلم العلامة عبدالله بن بيه

الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها  

ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعاتعامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.

ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،

فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.  

كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.  

لمشاهدة المحاضرة :

الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع

وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.

فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.

فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني  وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.

           وعند جهل بعض هدى الخمس             ما العمل اليوم كمثل أمس

كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .      

وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

….

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

لنشاهدة المحاضرة كاملة :

Comments are closed.