كلمة في افتتاح مؤتمر قيمة الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم تسليما

صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، حفظه الله

صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

صاحب المعالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى

أصحاب الفضيلة والسعادة والمعالي

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بداية يطيب لي أن أنوه بانعقاد هذا المؤتمر تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وإشراف مباشر من أمير مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، في هذا الشهر المبارك عند بيت الله الحرام. وهو أمر ليس بغريب ولا جديد على هذا البلد الذي خصّه الله برعاية الحرمين الشريفين والعناية بحجاجه ومعتمريه من كل المذاهب الإسلامية والأعراق الإنسانية دون تفريق ولا تضييق.

أيها السادة، إن الوسطية هي ناموس الأكوان وقانون الأحكام، وهي ميزان الشّريعة الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ميزان ينبذ الغلو الذي هو: الخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين“.

ويرفض التنطع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب. ففي حديث ابن مسعود: “هلك المتنطعون قالها ثلاثاً“.

ويذمّ التشدد وهو إظهار الشدّة في الدين، ففي حديث أنس:”لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم“.

وباختصار فإن ميزان الاعتدال الشرعي هو نقيض التطرّف، التطرفُ سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهومٌ يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

والاعتدال يتجلى في الشريعة على كل المستويات والصعد، حيث يبدأ من مستوى المزاج الشخصي حتى يصل إلى مستوى صناعة الفتوى.

فالاعتدال هو التوازن الروحي والنفسي الذي علم الله عباده الصالحين، ((لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)،

الاعتدال هو القوام الذي يحقق التوازن في كل شيء، مثل التوازن بين الانفاق والادخار (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)

الاعتدال هو السبيل الوسطى التي أمر الله بطلبها حتى في قراءة القرآن الكريم (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)

إنّ ديناً يعتبر مجرّد التطويل في الصلاة فتنة وتنفيراً من الدين لحريٌّ أن يوصف بأنه دين الاعتدال، ففي الحديث الصحيح: “إنّ منكم مُنفّرين“. وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: “أفتانٌ أنت يا معاذ“.

الاعتدال هو الوسطية  في الفتوى التي تعني الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير، بين الحركة والسكون، هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها؛ وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات؛ تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع؛ تقيم وزناً للزمان ولا تحكِّمه في كل الأحيان؛ تفرق بين المتماثلات وتجمع بين المتباينات؛ إعمالاً للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز؛ ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع، والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء، فلا شطط ولا وكس.

الاعتدال هو الوسطية في التأويل وفي التعامل بين الظواهر والمقاصد كما يقول الشاطبي رحمه الله تعالى في تقسيمه للفرق بالنسبة لتعاملها مع النص إلى ثلاث فرق: فرقة عملت بالظاهر وزعمت أنه لا عبرة بالمعاني والمقاصد، وفرقة عملت بالباطن والمعاني وزعمت أنه لا متمسك بالظواهر فأحالت الشريعة إلى باطنية، وفرقة توسطت فحكّمت ظاهر النصوص وجمعت بين الظواهر والمعاني معطية للظواهر نصيبها وللمقاصد نصابها وهذا هو المسلك الصحيح والمنهج اللاحب الذي كان عليه السلف. فإن الصحابة عملوا بالظواهر وعللوا تأولوا ولكنهم لم يغولوا.

سأختم بثلاث كلمات لثلاثة من علماء الأمة الأقدمين:

الكلمة الأولى للتابعي الجليل الحسن البصري: “الدين واسطة بين الغلو والتقصير

والكلمة الثانية لابن عباد النفزي : ” ولا شيء أشدّ على النفس من متابعة الشرع، وهو التوسط في الأمور كلها، فهي أبداً متفلتة إلى أحد الطرفين لوجود هواها فيه“.

والكلمة الثالثة للإمام الشاطبي : “الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الأوسط، الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه، ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال“.

وفي الختام إنّ الإسلام براء من كل تطرّف، مع أنّ التاريخ الإسلامي قد عرف غلاة ومتطرفين ومتنطعين، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

إلا أنّ التيار الأعظم للأمّة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلوّ في الاعتقاد أو الأحكام العملية الفقهية لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة، التي كان عليها سلف هذه الأمة.

كيف نترجم هذا الاعتدال وتلك الوسطية اليوم في حياة الناس ليعودوا إلى صوابهم، ليعودوا إلى كلمة سواء، إلى حد أدنى من الوئام، متحابين غير متنافرين ولا متنابذين.

إنها مهمة صعبة في جو ثقافة العنف المتبادل، والتطرف المقيت الذي أصاب الإنسانية جمعاء، والإعلام المجنون الذي يريق الزيت على نار الفتنة فلا تخبو نار حتى تشب أخرى؛  

ولهذا فإن ما يقوم به مؤتمرنا اليوم من توحيد خطاب الوسطية والاعتدال وتأصيله وتفصيله لإبراز زيف خطاب التطرف والكراهية وضعف مستنده ومخالفته لمنهج السلف وقانون المصالح المعتبرة، يعتبر بحق واجب الوقت، ولا غروَ أن تكون المملكة العربية السعودية هي القائد والرائد لهذه الجهود، فهي الراعية والمؤتمنة على الحرمين الشرفين مهد الرسالة ومهبط الوحي، وهي تجسّد الموقف الإسلامي المعتدل والوسطي، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين.

وفي الختام يسرني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي برئاسة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في نشر التأويل الصحيح والرواية الصحيحة للدين، المرتكزة على قيم الاعتدال والوسطية.

وأتمنى لمؤتمرنا هذا الذي جمع بين راهنية الموضوع وخصوصية الوضع، وبين شرف المكانة وقداسة المكان، النجاح والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

4

Comments are closed.