كلمة في مؤتمر “الحرية الدينية”- واشنطن  17 يوليو 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كلمة

في الاجتماع الوزاري حول الحرية الدينية

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

واشنطن  17 يوليو 2019

 [youtube_sc url=”https://www.youtube.com/watch?v=Xaf4mjqi5P8″]

أصحاب المعالي،

أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة أصاحب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم،

 كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

إننا نجتمع اليوم لنناقش موضوعا يمتاز بالحيوية والأهمية، حيث ما تزال كثير من الأقليات في بعض المناطق تعيش مآسي مَرَدُّها إلى الاضطهاد الديني وضيق ذرع المجتمعات بالتعددية والتنوع وبالاختلاف، وذلك رغم التعاليم الدينية الصريحة والصحيحة في الحث على الخير وحب الجار والضعيف والغريب والتعارف والتآلف، ورغم الفلسفات الكونية التي طوّرتها البشرية على أيدي أساطين الفكر الإنساني من أمثال جون لوك وفولتير وروسو وكانت وغيرهم، ورغم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وملحقاتها التي التأَم حولها المنتظم الدولي واتخذها دساتيرَ.

 إن هذا الوضع يمثل تحدّيا أمام البشرية جميعها بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة، إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله وجاره على كوكب الأرض.

أمام التحدّي يَلْزَم التَّصَدِّي، وأمام التحديات المشتركة تتحتّم المقاربات المشتركة، ولذلك نعتقد أنه يجب العمل في ثلاثة اتجاهات متزامنة ومتكاملة:

الاتجاه الأول: العمل التربوي

يقوم هذا الاتّجاه التربوي على الوعي بمسؤولية رجال الدّين في ما يتعلق بكلّ ديانة لمعالجة التطرف والغلو داخلها و”طرد النعاج الجرب” من بين صفوف أتباعها، و من أجل تبنّي مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوّة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.

إن واجب رجال الدين اليوم هو العودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدُّوا أسسا متينة للتسامح ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيمه في نفوس أتباعهم، عن طريق التأويل الملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان، وذلك ما يسهم في إعادة التوازن في نطاق كلّ ديانة وفي الرجوع إلى أصل الدين كطاقة للسلام مما يمهّد لبناء الجسور بينها على أُسس صلبة ودعائم قويّة قابلة للاستمرار والاستقرار بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.

هذا ما حاولناه وما نستطيع القول إننا أنجزناه “نظريا” في إعلان مراكش الذي أصدره المنتدى في يناير 2016، بالشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. لقد جاء هذا اللقاء التاريخي استجابة للأوضاع المتردية والواقع المضطرب الذي سالت فيه دماء كثيرة واشتعلت فيه جذوة الكراهية وعلا فيه صوت العنف، وكان للأقليات الدينية في بعض البلدان الإسلامية المتوترة نصيبها من القتل والاستعباد والتهجير وأشكال مختلفة من امتهان الكرامة الإنسانية، وإن كان الأذى شمل الجميع، بل ربما نالت منه بعض الأكثريات نصيبا كبيرا ومسها منه قرح عظيم.

لقد دعونا إلى مؤتمر مراكش عددا كبيرا من القيادات الدينية من غير المسلمين، من بينهم ممثلون عن الأقباط واليزيديين والصابئة المندائيين والنصارى الآشوريين وغيرهم، وبحضور ممثلي منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى وممثلي الهيئات المدنيّة الناشطة في مجال حوار الأديان، دعوناهم ليكونوا شهودا على إعلان مراكش، وليشاطرونا نتائجَ عَمَلنا ويشاركونا حكمتهم.

لاقى “إعلان مراكش” نجاحا كبيرا وحظي بتنويه واسع من صُنّاع القرار الدوليين وتبناه الفاعلون في ميدان العلاقة بين الأديان وأشادوا به بوصفه إطارا مرجعيا للمبادرات الميدانية التي تضمن انخراط أكبر عدد من القادة الدينيين في خطوات عملية لتعزيز السلم ونشر ثقافة التعايش. وقد اعترفت به منظمة التعاون الإسلامي واعتمدته رسميا، كما أشاد به الحبر الأعظم بابا الفاتيكان فرانسيس في كلمته إبّان زيارته للمملكة المغربية يوم 31 مارس 2019.

لقد استهدف الإعلان نزع الشرعية الدينية من منتحليها من أصحاب الفكر المتطرف، من خلال البيان بقوة وحزم أن اضطهاد الأقليات الدينية وكافّة أشكال العدوان عليها التي يقترفها الإرهابيون مخالفة للرواية الصحيحة والرؤية السليمة للإسلام نصوصا وقيما وممارسة.

لقد استلهم الإعلان روحه ومبادئه من صحيفة المدينة، وهي وثيقة موثّقة وصحيحة من رحم الإسلام وتراثه الأصيل، كادت أن تنسى في ظروف وفترات من التاريخ. في هذه الصحيفة يعلن النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق والواجبات المتساوية والمتكافئة بين جميع سكان المدينة على اختلاف دياناتهم وجذورهم القبلية كأوّل دستور تعاقدي في الإسلام.

وإنما نتحدث في إعلان مراكش عن مفهوم الأقليات باعتبار الرائج في الاصطلاح القانوني الدولي المعاصر والثقافة السياسية الراهنة، وأما صحيفة المدينة فإنها لم تتحدث عن أكثرية ولا أقلية، بل إن بنودها ومضامينها القائمة على العدل جعلت مفهوم الأكثرية والأقلية لا معنى لها ولا أثر، إذ عندما يطبّق القانون العادل الرحيم فلا أقلية ولا أكثرية بل مواطنين متساوين في الكرامة والحقوق والواجبات.

لقد شكَّلَ الإعلانُ الإطار المرجعي لمبادرة “قافلة السلام الأمريكية” التي ضمَّت  في مختلف مراحلها عشرات رجال الدين الأمريكيين من العائلة الإبراهيمية: حاخامات وقساوسة وأئمة. اشترك هؤلاء جميعا في العيش والحركة والأكل والنوم والسفر، كلُّهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر… يَتكلمون ويبحثون، ولكِنَّ الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون، ويكتشفون في النهاية أنهم إخوة، يشتركون في أكثر مما كانوا يتصورون.

لقد اجتمعنا في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتّحدة في فضاء من التسامح وجو من التصالح وأصدرنا بيانا يعبّر عن كل المعاني النبيلة والقيم الجميلة التي تشتمل عليها دياناتنا وتقاليدنا ثم انتقلنا إلى الرباط عاصمة المملكة المغربية لنتشارك في نفس الجوّ في محطة أخرى لتأكيد العلاقة وتوضيح المنهج لتوطيد روح التعاون والتّفاهم بين أفراد القافلة وتطوير مقترحات وتحرير مشاريع ميدانية.

على إثر النجاح الذي حققته تجربة القافلة الأمريكية، التقت العائلة الإبراهيمية في واشنطن فبراير 2018 وأصدرت إعلان واشنطن لحلف الفضول، ثم اجتمعنا في أبوظبي في الملتقى الخامس لنؤكد هذا الحلف الذي اختار هذا الاسم استلهاما لروح حلف قديم في تاريخ الجزيرة العربية انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش. رمزية حلف الفضول وخصوصيته – التي جعلت النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يُزكّيه ويقول لو دعيت به في الإسلام لأجبت – هي أنه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم الإنسانية وعلى الفضيلة الكونية.

نعتزم قبل نهاية السنة أن نصدر ميثاقا لحلف الفضول، وقد اطّلع بعضكم بصفة خاصة على مشروع هذا الميثاق والذي سينقل الحرية الدينية وعلاقات التّعاون وقيم التسامح من مجرّد الإمكان إلى درجة الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني، وبخاصة في ما يتعلق بحماية دور العبادة التي أصبح الاعتداء عليها يهدّد حرية الدين في أنحاء كثيرة من العالم.

كلّ يوم تستيقظ البشرية على أنباء جريمة نكراء جديدة، تنسي أختها السابقة، بالأمس القريب شهد العالم مشدوها مجزرة وحشية استهدفت مسجد النور في نيوزلندا، ثمّ تجدّدت الفجيعة بسلسلة تفجيرات شنيعة استهدفت دور العبادة ودور الضيافة في سيريلانكا، وبعد ذلك كان الدّور على معابد يَهوديّة في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

إنه الإرهاب العبثيّ يكشف في كلّ مرة عن حقيقته الهمجية، تحت مسميات مختلفة، تارة كراهية الإسلام، وتارة أخرى كراهية المسيحيين، وأحيانا باسم معاداة السامية، كل العائلة الإبراهيمية في ذلك سواء، ولكن الحقيقة التي تختفي وراء ذلك وتوحّد جميع الإرهابيين هي كراهية الإنسان، واستغلال الأديان.

لقد أصدرنا في أبوظبي بيانا أوضحنا فيه أن أي اعتداء على أي مكان للعبادة لأي دين هو بمثابة اعتداء على سائر الأديان بالسواء، ولقد استشهدنا بنصوص أكيدة من القرآن الكريم تؤسس للحامية القانونية للتعددية الدينية، قال تعالى: ( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، حيث تؤصّل هذه الآية – آية المعابد من سورة الحج- لمفهوم التعددية الدينية، أوجب الإسلام على أتباعه الدّفاع عن كنائس النصارى وعن بيع اليهود ، وبدأ بها قبل مساجد المسلمين ولم يكتف الإسلام باحترامها وإقرار أهلها عليها، وإنما دعا المسلمين إلى حمايتها والدفاع عنها، وإبعادها عن الخصومات. إن هذا هو مفهوم التّعددية إذا نحن ترجمنا اللغة الدينية إلى لغة الفضاء العام SPHERE PUBLIQUE ، كما يقول هابرماس.

وتأكيدا على وجوب احترام دور العبادة لجميع الأديان، اقترحت على الأمم المتحدة في جلسة شاركت فيها في نيويورك تخصيص يوم في السنة لذكرى الاعتداء على أماكن العبادة، تقام فيه الصلوات وترفع الدعوات من أجل السلام والأخوة الإنسانية.

ثانيا: العمل القانوني

 إن العمل في الاتجاه التربوي في غاية الأهمية لكنه وحده غير كاف، حيث علينا أيضا أن لا ننسى السياق القانوني لقضية الأقليات والحرية الدينية، فينبغي أن تؤكّد الجهود التربوية بنصوص قانونية مُلزمة تسمح للأقليات بأن تمارس دينها دون خشية ودون انتقاص، بناء على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة، في صورة قانونية يُوجب على الدول القيام على ضمان حمايتها بالقانون والقضاء.

 

 

ثالثا: العمل المجتمعي

إن حقوق الأقليات وما يتفرّع عنها من الحرية الدينية لتكون راسخة، يلزم أن تقدّم في إطار عقد اجتماعي للمواطنة يقوم على تحقيق مجموعة من الموازنات ليس فقط من الناحية القانونية بل من الناحية الروحية والنفسية كذلك.

 فلكـيْ تكون دعائم هذه المواطنة متينة وليست هشة، تتزعزع عند كلّ حادث، يجب أن تكون خلقا ثابتا في المجتمع، قائما على التّراضي والإقناع، بحيث تنبع حقوق الأقليات وحرية التدين من المجتمع الذي يتحلّى بروح التسامح والاحترام.

فمن أهم الموزانات التي تجب مراعاتها، الموازنة بين مستوى الاعتراف المبدئي بالحقوق ومستوى التفعيل العملي لها، من خلال التمييز بين مستويات الحقوق في المواطنة، بين مقوماتها الأصلية وبين مكملاتها ولوازمها التي تختلف من بيئة إلى بيئة، والتي يلزم التدرج في اكتسابها عن طريق استراتيجية المحافظة على السلم المجتمعي، لكي لا تعود هذه المكملات على الأصول بالإبطال، فلا يمكن أن ننزع عن عقد اجتماعي سار في بلد صفة المواطنة بدعوى تخلّف بعض اللوازم الثانوية أو التنظيمية في التصور المثالي للمواطنة.

ولذلك فإن الحرية الدينية للأقلّيات يجب أن تكون مكفولة وهذا أمر من حيث المبدأ لا يرتقي إليه أدنى شك، وهذا الواجب مسؤولية الحكومات قانونيا ومسؤولية المجتمع أخلاقيا، لكن تنزيل هذا المبدأ في الواقع يتطلب كثيرا من الحكمة، وبالتالي على كافل الحرية ومكفولها أن يتعاونا حتى تكون الحرية الدينية حرية مهذبة تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي، فلا يستحيل استعمال هذه الحرية تعسفا في استعمال الحق وإفراطا فيه، abus de droit.

يلزم أن نستعمل ذكاءنا وحسّنا المسؤول حتى لا يعطي عملنا نتائج عكسية، فقد يكون من غير الحكمة أن نطالب بحرية تقوم على الحرب، فالسلام هو الأساس، هو الخير الأسمى، الإطار الناظم ولاستراتيجية الناجحة لتحقيق هذه الحقوق.

 يجب أن نصل إلى الحرية المهذبة دون أن نعبر على جسر الحرب الذي مرّت من خلاله بعض الأُمم، إنّ موقف اللامبالاة من الخصومات ومن الحرب موقف غير مسؤول ولا يخدم الحرية نفسها على المدى البعيد والمتوسّط.  بل إن أكثر دعاة الحرية الدينية حماسا لها، – على غرار ما فعل جون لوك وفولتير-  لم يكونوا يعتبرونها مبدأ مطلقا، وإنما ربطوها بمقصِد السلم من خلال مفهوم النظام العام للمجتمع، فإن حدود الحرية تقف حيث يصبح الفعل أو الفكر يُقْلِق راحة المجتمع ويهدّد سِلمَه الأهلي. وهذا ما أسماه كارل بُوبَرْ مفارقة التسامح، فإن التسامح المطلق يفضي إلى تلاشي التسامح، وكذلك فإن الحرية المطلقة تقضي على الحرية نفسها.

وإلى هذا التوازن بين الحقوق والواجبات وبين الفرد والجماعة وبين الحريات والنظام العام، أشار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة والذي يعتبر أسمى وثيقة دولية، إذ تُعبّر صياغته عن وعي واضعيه بالتوازن بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل. ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، ونص هذا الفصل :  “

  • على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.
  • يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

 إن هذه القيود تعيد للمرجعية المحلية شيئا من الحاكمية، وتفرض علينا عند الحديث عن تصوّر كلّي للمواطنة الكثير من النسبية، والتأنّي في توظيف المفاهيم والمفردات، والوعي بما يفرضه اختلاف المشارب الحضارية من ضرورة الحوار المستمر حتى نتوصّل إلى أرضية مفهومية متينة، بعيدا عن منهج الفرض من الخارج أو من الأعلى بسلطان القوة، الذي تثبت التجربة التاريخية أنه دائما ما تأتي نتائجه عكسية.

ومن أوجه الموازنة الضرورية مراعاة التجاذب بين المبادئ فلا يغلب مبدأ على مبدإ آخر بشكل يلغيه، بل يلزم البحث عن صيغة توافقية تحقق التوزان. وهذا ما عبَّر عنه الفيلسوف المسيحي توما الأكويني حين قال” العدالة من غير رحمة قسوة، والرحمة من غير عدالة فوضى”، فلا بدّ من الجمع بينهما من خلال تدابير جزئية يحكمها السياق.

وعلى هذا النحو ندعو إلى الموازنة بين مبدإ حرية التعبير ومبدإ حرية التدين، حيث إنّ تنقص الدين هو عامل جلي في الانتقاص من حرية الدين والتديّن، وهو مقدمة للاعتداء على الدّين وعلى أماكن العِبادة.

إن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حريّة التعبير، لأن المسيء لا يتغيّى من خلاله إلا إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، ولئن كان البعض يستشكل الموضوع من حيث اعتبارية التقديس ونسبيته، بحيث لا يرى في شتم المقدّس ما يستوجب التجريم، فإننا نرى أن شتم الرموز المقدسة لدى بعض المواطنين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المواطنين وتعدٍ على حقهم في احترام معتقداتهم، فهو فعل عبثي صادر عن إرادة أثيمة وقصد سيء، قد يكون للبحث عن بطولة غير مستحقة لأنها تؤول إلى حروب وفتن، وقد يكون للبحث عن دور الضحية رياء.

وفي هذا السياق ينبغي التنويه بسياسة دولة الامارات العربية المتحدة في ترسيخ مبادئ المواطنة وحماية الأقليات وإتاحة الحرية الدينية، وهي سياسة حكيمة تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي كما تتسم بوضوح الرؤية والهدف في تحقيق هذه الموازنات الضرورية، ويتجلّى ذلك في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

وبناء على هذا التصور الذي عكسته جميع المبادرات والإعلانات والمواثيق والوثائق التي أطلقت منذ إعلان مراكش وما تلاه كإعلانات أبوظبي وإعلان واشنطن ووثيقة الأخوة الإنسانية ووثيقة مكة المكرمة، نرى في العائلة الإبراهيمية المنخرطة في حلف الفضول أنه آن الأوان لحوار حضاري مفتوح يقدم مقاربات جديدة حول الحقوق والحريات ومدى اعتبار حرية التعبير المسيء حقا أم حرية؟، وللوصول إلى صياغة مناسبة في ميثاق حلف الفضول تُجلي التوازن المطلوب بين الحرية والسلم وبين الفرد والجماعة وبين حرية التّدين وحرية التعبير، ولنصل إلى حرية مهذّبة عاقلة تتمتع بمقومات البقاء وتسهم في إسعاد جميع مكونات المجتمع الإنساني.

إن هذا الحوار الذي نعقد عليه آمالا كبيرة، يمكن أن يقوده شخصيّات من أمثال معالي السّفير سام براون باك لما يتمتع به من حكمة وتجربة وانفتاح وشفقة على الأقليات ولقد كان حضوره لاجتماعات العائلة الإبراهيمية يمثل دَعْما وتشجيعا يستحقُّ الشّكر والتقدير، فله ولكم جميعا أيها الحضور الشكر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Comments are closed.