نص البيان الختامي – مؤتمر فقه الطوارئ

  بسم الله الرحمن الرحيم  
   
  البيان الختامي لمؤتمر فقه الطوارئ  

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فعلى إثر تفشي مرض فايروس كورونا المستجدّ-المُعَرَّفِ علميا باسم “كوفيد19”-الذي عمّ أمم الأرض بلا استثناء أو استئذان، وأصبح وباء مستطيرا وجائحة عالمية أصابت الملايين وحصدت لحد الآن أرواح مئات الآلاف،وفرضت على العالم بأسره أوضاعا طارئة وحرجة، وتغيرات مفاجئة جمّة، أثرّت على الصحة العامة، وطالت مختلف مناحي الحياة ومناشطها، وحرمت عالمنا المعولَم من أخص خصائصه: الامتزاج والاندماج والاتصال، لتحل محلها ضروب من التمايز والتحاجز والانفصال.

وانطلاقا من الوعي بأنّ هذه الأزمة تستنهض الهمم ليتحرك كل عالم وصاحب تخصص في مجاله ليحصل التوازن وتمضي الحياة على الوتيرة المعتادة حسب الإمكان.

ولكون الفقه والفقهاء جهة ينبغي ألا تَغفُل أو تُغفِل التأثيرات الحاصلة في الواقع باعتباره شريكا للنص الشرعي في تنزيل الأحكام وتطبيقها، كما دلت على ذلك النصوص والأصول وأبرزته ممارسات السلف الراشد الاجتهادية وتنزيلاتهم الوقتية ؛ خاصة بعد مضي مدة زمنية ظهرت فيها من آثار هذه النازلة ما يسمح بمعالجتها بمزيج من فقه الواقع والتوقع.

وسعيا إلى التدارس والبيان والنصح والتوجيه في كل ما يتعلق بأبعاد ذلكم التأثير؛ وتعزيزا وتأليفا بين الخبرات والجهود المباركة التي بذلها علماء المسلمين ومؤسسات الفتوى الرسمية في التصدي للنّوازلِ المستجدة التي فرضها الواقعُ الجديد بآليات الفتوى المقرّرة والمناهج المُتّبَعَة، وبما يوافق السياقات المحلّية خدمة للمجتمعات والأوطان والإنسان.

ونهوضا بالمسؤولية الدينية والفكرية والاجتماعية في استجلاء المُقاربات الفقهية والرُّؤى الإرشادية تجاه هذا الوباء من منظور حضارة كانت السباقة إلى سياسة الحجر الصحي ومشاركة لحركة الفكر الإنساني في اقتراح حلول مناسبة وفعالة لما تطرحه هذه النازلة العالمية من تحديات وإشكالات صحية واجتماعية واقتصادية ونفسية وقانونية وقيمية…

انعقد بدعوة من رابطة العالم الإسلامي وهيئة علماء المسلمين برئاسة معالي الأمين العام الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي برئاسة معالي العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه: المؤتمر العالمي الافتراضي خلال يومي السبت والأحد بتاريخ (27-28/ذي القعدة/1441هـ الموافق 18-19/يوليو/2020م) تحت عنوان “فـقـه الــطـوارئ .. معالم فقه ما بعد جائحة فيروس كورونا المستجد”، بمشاركة نخبة متميزة من أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة علماء الشريعة الأجلاء؛ وخبراء الواقع الأكفاء، من مختلف دول العالم.

وقد افتتح المؤتمر معالي الشيخ نهيان مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش في دولة الإمارات العربية المتحدة بكلمة قيمة أبرز فيها سعادة دولة الإمارات العربية المتحدة بدعم مثل هذه المؤتمرات التي تسعى إلى القيام بواجب البيان الشرعي في الطوارئ والمستجدات، وتقديم حلول ومقترحات تُثري حياة الأمة وتجدد واقعها وترشد إلى مستقبلها كخير أمة أُخرجت للناس، وتسهم في تحقيق الترابط والتواصل الفكري والحقيقي بين علماء الأمة وبين عموم المسلمين في كل مكان. وأثنى معاليه على مبادرة رابطة العالم الإسلامي ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بتنظيم هذا المؤتمر الافتراضي الذي يضم نخبة من علماء المسلمين من كافة أنحاء العالم، معتبرا إياه دعوة مهمة إلى التعاون الإقليمي والعالمي، من أجل التغلب على المشكلات، والحفاظ على الصحة العامة في كل مكان. وأشاد بما يسعى إليه المؤتمر من تعميق الجوانب الإيجابية في العلاقات الواسعة والمتشعبة بين العالم كله، وتلك التي تتمثل في تأكيد أهمية مبادئ التعارف، والحوار، والتعاون، والعمل المشترك، بين البشر جميعا .

وفي كلمة معالي الشيخ نور الحق قادري وزير الشؤون الدينية في باكستان أشار إلى أهمية هذا المؤتمر في سياقه العلمي والعملي مع الثناء على الفتوى الشرعية التي أصدرها مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي حول وباء كورونا المستجد من حيث سبقها الزمني ومن حيث كونها جامعة مانعة فيها جواب لكثير من الإشكالات التي طرحت على علماء المسلمين. كما بين معاليه المعضلات الفقهية والأبعاد الاجتماعية التي كشف عنها هذا الوباء من خلال تجربة المؤسسات الفقهية والعلمية في باكستان وضرورة بناء الفتاوى والاختيارات الفقهية في مواجهة هذه الآفة على الخبرات العلمية والطبية المتخصصة والمقاصد الشرعية المعتبرة.

أما معالي الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري فقد أوضح في كلمته بعد التنويه بفكرة المؤتمر وبمبادرة الداعين إليه أن فقه التعامل مع جائحة كورونا بيّن مدى الحاجة الملحة إلى الخروج من الآفاق الضيقة التي تمثلت عند بعض المحسوبين على الخطاب الديني في الاقتصار على حفظ الأحكام الفقهية الموروثة دون إعمال العقل في فهم صحيح النص من خلال القواعد العلمية والمنطقية لفهمه، ودون اعتبار لفقه المقاصد، وفقه المآلات، ولا مراعاة لظروف الزمان والمكان وأحوال الناس ومستجدات العصر وطوارئه. وبّين معاليه مسيس الحاجة إلى استحضار المفهوم الإسلامي للتوكل الذي لا يفصل بين العوامل الغيبية والأسباب المادية معرّجا على جهود علماء مصر في الاستجابة لتحدي هذه الجائحة.

ثم تناول الكلمة معالي العلامة عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي الذي أبرز طبيعة وأبعاد الأزمة العالمية التي تسبب فيها وباء كورونا المستجد وبعض دروسها وضرورة أن يستجيب  الفقه والفقهاء لتغيرات الواقع  باستنفار أدوات الاجتهاد ومولدات الأحكام الجزئية في ظل الكليات والقواعد الكبرى للشريعة. وبين معاليه أن هذا المؤتمر فرصة للقيام بهذا الواجب  معرجا على تجربة مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في إصدار الفتاوى والبيانات في مواجهة هذه الآفة وفي الاضطلاع بدوره التوجيهي في مواكبة السياسة العامة لدولة الإمارات العربية المتحدة ورؤيتها العملية الرائدة في التصدي للأزمة.

 وثمن معاليه جهود رابطة العالم الإسلامي ومعالي أمينها العام الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى للاضطلاع برسالة الرابطة ” الإسلامية والإنسانية ” حول العالم وفق منهج التسامح الإسلامي الذي شمل برحمته الجميع، وشكر معاليه في ختام كلمته الحضور على مشاركتهم في هذا المؤتمر سائلا الله عزوجل أن يجعله اجتماع خير وأن يكلل أعماله بالنجاح والتوفيق.

ثم خاطب المؤتمرين والمتابعين، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، بكلمة أبرز فيها الأسباب التي دعت إلى عقد هذا المؤتمر، والسياق الذي يندرج فيه، مثمنا للمشاركين سرعة استجابتهم، رغم كثرة أشغالهم وتزاحم أعمالهم، فإن الظروف الاستثنائية الحرجة التي عمت العالم أفرزت في الداخل الإسلامي كثيراً من الأسئلة المتتابعة الخاصة والعامة، في العبادات والمعاملات، المطروحة على الفقه وأهله ومؤسساته، مما لا بد فيه من أجوبة وحلول شافية كافية.

وتطرق معاليه إلى ضرورة الاهتمام بقضايا المسلمين وشؤونهم المتصلة بالجوانب الشرعية والفكرية والأمنية، ومكافحة التطرف والإرهاب، والتعايش مع الآخر في أمن وسلام وتعاون، والسعي في تحسين سمعة الأمة المسلمة في العالم، وتحصيل موقع فاعل لها في المحافل الدولية.

وأشاد معاليه بالجهود الرائدة التي يبذلها مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، في التفقيه والتوعية الشرعية القويمة ونشر السلام والوئام، برئاسة معالي الشيخ العلامة عبد الله بن بيه، الذي لم يفتأ يسعى في تلمس سبل المعالجات الحكيمة للمشكلات المتعلقة بفهم الدين وتطبيقه في حياتنا المعاصرة، لا سيما المتعلقة بحصانتها علميا وفكريا.

وقد استعرض المشاركون وتدارسوا في جلسات المؤتمر محاوره وموضوعاته التي تنوعت بين قضايا ومسائل في الاعتقادات والعبادات والمعاملات والصحة والآداب الشرعية، أثارت أسئلتها جائحة كورونا، وأكدوا على جملة من المعاني والتوصيات والنتائج المهمة البارزة:

أولا – النتائج العامة للمؤتمر

  • إنه من السابق لأوانه استخلاص نتائج نهائية عن طبيعة هذا الوباء وآثاره الاقتصادية ومخلفاته النفسية وانعكاساته الاجتماعية.
  • إن هذه الأزمة مست جميع مناحي الحياة في أدق تفاصيلها مما يستدعي استنفار كل المهتمين والمختصين والخبراء لتشخيص أعراضها واستيعاب أبعادها واقتراح التدابير والخطوات اللازمة للخروج منها بأقل الخسائر الممكنة ماديا ومعنويا.
  • إن من الدروس العظيمة لهذه الأزمة هشاشة الجنس البشري ومحدودية علمه ووحدة مصيره؛ فسكان هذا الكوكب وإن اختلفت إمكاناتهم وقدراتهم كركاب السفينة الواحدة محكوم عليهم بمصير واحد وهم في حاجة إلى التعاون والتراحم.
  • إن من لطف الله تعالى أن جعل الإنسان -مع تلكم الهشاشة- قويا بما سخر له من أمور السماوات والأرض. فالله سبحانه وتعالى يظهر للإنسان حقيقة ضعفه ليتواضع وجهله ليتعلم وتسخير الكون له ليعمل ﴿ خلق الإنسان علمه البيان ﴾،﴿ وسخر لكم ما في السماوات ومافي الأرض جميعا منه﴾.
  • إن من القيم المركزية التي أظهرت هذه الأزمة ضرورتها قيمة التضامن بين البشرية لمواجهة المخاطر التي لا تفرق بين الشعوب والأجناس والألوان والأوطان بل تصيب الجميع على تنوع أعراقهم وتعدد نحلهم وأديانهم وتفاوت طبقاتهم ومستوياتهم.
  • تتفق الديانات السماوية وفي مقدمتها الإسلام على أن الإحسان في أوقات الشدائد والمحن؛ ينبغي أن يكون مُمتدا لجميع الناس بغض النظر عن دياناتهم، وأن جميع الخلق مشمولون بواجب التضامن في استبقاء الحياة التي هي في أصلها هبة ربانية.

– نبهَّ المؤتمر على خطورة خطاب الكراهية ومن ذلك أصوات رفض عبارات وشعارات الأخوة بين أتباع الأديان والتي أسست لها الشريعة في عدد من النصوص، وما لذلك الرفض من خطورة على مواثيق الأخوة الوطنية في بلدان التنوع الديني وما يُفضي إليه هذا الأمر من إثارة الفتن فيها ؛ فبين المسلمين واليهود والمسيحيين وغيرهم أُخوة في الإنسانية وأخوة في المواطنة ولا علاقة لها بأخوة الدين، ومن أدب الإسلام الرفيع حسن الخطاب وتأليف القلوب.

كما نبهَّ المؤتمر على خطورة اجتزاء النصوص الشرعية ومن ذلك ما يتعلق منها بفئات معينة من أهل الكتاب وتعميمها عليهم جميعا، بينما قال الله تعالى عنهم ﴿ ليسوا سواء ﴾، وأكد المؤتمر على ما في هذا التضليل من الكذب على الله ورسوله والإساءة لدين الإسلام والتحريض عليه.  

  • إن حياة نفس واحدة كحياة البشر جميعا، وخسارتها كخسارتهم جميعا، والتعاطف الإنساني في الأزمات يُجدد شعورهم بالانتماء إلى الأسرة الإنسانية. والقرآن الكريم يؤكد أن السعي في إحياء نفس واحدة إنما هو سعيٌ لإحياء جميع الأنفس: ﴿ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾.
  • إن التحديات والأخطار المحدقة بالعالم نظما وشعوبا بسبب هذا الوباء تضع الجوانب الأمنية في أولويات شروط القدرة على تجاوز الوضع الراهن ورسم معالم المستقبل، ومن ثم يتعين رص الصفوف واجتماع الكلمة ومعالجة صور النزاع والفرقة، والتأكيد على خطاب التسامح والعدل والأخوة وتفعيله اجتماعيا.

 

ثانيا- النتائج العلمية والفقهية

  • إن هذه الأزمة تستدعي استنفار أدوات الاجتهاد الفقهي بكل مراتبه ومولدات الأحكام الجزئية في ظل المقاصد والقواعد الكبرى للتشريع.
  • إن الضروري من المقاصد والمعول عليه من القواعد في هذه الأزمة قاعدتا ” المشقة تجلب التيسير” و” الضرر يزال”.
  • إن مدار التيسير على استعمال أنواع الرخص الشرعية من إسقاط وإبدال ونقص وتأخير وتعجيل في الضرورات وفي الحاجات.
  • إن مصطلح “الطوارئ” أليق بمعالجة قضايا هذه الأزمة من مصطلح “الجوائح” لأن هذا الأخير في أصله ذو دلالات جزئية بخلاف الأول الذي يتضمن عنصر المفاجأة وغموض المصدر وشدة الوقع وشمولية الآثار.
  • إن فقه الطوارئ فقه مركب من الواقع والدليل الشرعي غايته البحث عن التيسير والرخص لقيام موجبها، ومادته نصوص الوحي المؤصلة للتيسير وما بني عليها من الأدلة والقواعد، والفاعل فيه الفقيه والخبير والحاكم.
  • إن شريعتنا السمحة لما كانت هي المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري للمسلم فردا وجماعة قد أولت الطوارئ فضل عناية ومزيد اهتمام واستوعبت آثارها الكليات الخمس:

1- كلي الدين: الاعتقاد والعبادات

أ- المنحى العقدي:

–  إن هذه الأزمة أثارت مسألة الخير والشر والقضاء والقدر ودائرة المقادير الكبرى التي تتسع لمجال أرحب من دائرة فعل الإنسان واختياره وربما أبعد من فهمه وأحيانا من تفهُّمه.

– إن الأسئلة التي تتعلق بفهم طبيعة الوباء وأسبابه وكيفية التعامل معه وقاية وعلاجا في الحاضر والمستقبل كلها أسئلة مشروعة لا تتنافى والاعترافَ بقدرة الله عز وجل وقدره؛ فمكافحة الأوبئة كمكافحة كل ما يؤذي الإنسان هي فرار من قدر الله إلى قدره.

– إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد المتوكلين كان يتداوى ويأمر الناس بالتداوي؛ فالتوكل حالة قلبية وترك الأسباب إساءة للأدب مع الله عز وجل.

– إن الحديث النبوي الصحيح: ” لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء بَرَأَ بإذن الله” أصل عظيم في الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على خالق الداء والدواء، وأمل للباحثين وبشرى للإنسانية.

– إذا كانت الأسئلة التي مدارها على البحث في السنن الكونية المتعلقة بالوباء وبغيره من الكوارث الطبيعية مشروعة ومنسجمة مع التوكل على الله عز وجل فإن الشك في الحكمة الربانية منها راجع إلى غرور وقصور في التفكير؛ لأن الحكمة الربانية لا تقاس بقوانين المخلوقات فأفعال الباري عز وجل وأوامره خير وحسن وجمال.

– إن الظواهر الكونية كالأوبئة والزلازل لا ينسب لها خير ولا شر لأن الخيرية وضدها لا تحددها الصورة فالفعل الواحد كالقتل قد نعتبره خيرا في حال وشرا في حال آخر؛ وإنما تتحدد الخيرية وضدها بالبواعث والمآلات.

– إن المعرفة البشرية لا تتجاوز الآماد العاجلة والأحوال الظاهرة مما يعوق الإنسان عن فهم حكمة الله عز وجل التي تحيط بالعواقب الدنيوية والآثار الأخروية ﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

– إن الرؤية الإسلامية لمعالجة الطوارئ من منظور عقدي تقوم على مبدأ ابتلاء العليم الخبير للبشر على هذا الكوكب بالسراء والضراء، فيلزمهم تجاه الكوارث الثقة في حكمة مولاهم والتسليم النفسي له والأمل في ما عنده من الخير والفضل والتمسُّك بما أمر به وأرشد إليه من اتخاذ الأسباب والتضامن والتعاون على الخير والنفع العام.

ب- المنحى التعبدي:

– إن فقه الطوارئ في مجال العبادات متجه إلى خطاب الوضع (الأسباب والشروط والموانع )، ومفعِّل لمرتبة الرخص، ومحَكِّم للكلي الضروري، ومنزّل لمقصد التيسير.

– إن القاعدة الأولى من قواعد فقه الطوارئ قاعدة: “المشقة تجلب التيسير” إحدى القواعد الخمس التي ينبني عليها الفقه الإسلامي استنباطا من نصوص الكتاب والسنة وغيرها من الأدلة المتضافرة على مقصدية التيسير في شريعتنا السمحة.

– إن من مظاهر مقصد التيسير وتطبيقات قاعدة المشقة التوسعةَ باختلاف العلماء. فإن الأمر المختلف فيه أوسع من المجمع على تحريمه، وفي المختلف فيه مندوحة عن مواقعة الحرام، إذ المختلف فيه من جنس المشتبه، الذي مداره على الكراهة.

– إن من مظاهر إعمال مقصد التيسير وتطبيق قاعدة المشقة تذكير مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي السائلين والمستفتين بالرخص الشرعية في ترك الصلوات الجماعية الخمس والتغيب عنها وتعليقها.

– ومنها إيقاف الجُمع إلى حين أمن غوائل عدوى الوباء. فإقامة الجمعة في البيوت لا تصحُّ كما لا تجوز صلاتها في البيت اقتداء بالصوت أو عبر نقل البثِّ المباشر، فللجمعة هيئتها المخصوصة التي تقام عند حصولها وتسقط عند عدمها.

– ومنها إعطاء المصاب بداء الكوفيد 19 المستجد حكم المريض فيندب له الفطر عند المشقة ويجب عليه إن كان الصوم يفاقم مرضه أو يعرضه للخطر، وكذا الإفتاء للطواقم الطبية المشرفة على المرضى بالفطر أيام عملهم إذا خافوا أن تضعف مناعتهم أو يضيعوا مرضاهم استنادا إلى مذهب أبي حنيفة ونقول من مذهب مالك وأحمد.

– ومنها الترخيص في تقديم دفع الزكاة استنادا إلى السنة النبوية أو تأخيرها لعمل الصحابة رضي الله عنهم وهو مذهب جل الأحناف.

– ومنها تأكيد لزوم التقيّد والالتزام بما تتخذه حكومة خادم الحرمين الشريفين انطلاقا من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية الحجاج والمعتمرين والزوار وإعانة لها في الحفاظ على صحة الجميع وسلامتهم. 

 

2- كلي النفس:

– إن كلي النفس أهم مشكل في هذا الوباء ، وإن من مظاهر مقصد التيسير في الشريعة تقديم ضروري الحياة على سائر جزئيات الشريعة بما في ذلك جزئيات ضروري الدين.

– إن المقصود بالدين المقدم حفظُه على حفظ النفس في سلم الضروريات هو الإيمان الذي خوطب به جميع الرسل في قوله تعالى ﴿ شرع لكم من الدين ما وصينا به نوحا والذي أوحينا إليك-الآية- ﴾

  لا كل الشريعة بفروعها وجزئياتها.فالحفاظ على حياة الناس وسلامتهم والوقاية من انتشار المرض المعدي عذر شرعي صحيح من جنس المناسب الشرعي المؤثّر.

– إن حديث ” لا عدوى ولا طيرة…”[1] الذي كتب حوله الكثير منذ القديم هو نفي لوجود مرض فاعل ومؤثر بذاته في الانتقال من ذات إلى أخرى كما كان يتصور أهل الجاهلية؛ لكنه لم ينف الوقوع الطبيعي للعدوى بدليل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يورد ممرض على مصح[2] وأمره بالفرار من المجذوم كما يُفَر من الأسد.

– إن هذه الطريقة في الجمع بين الأحاديث المثبتة للعدوى والنافية لها هي الأوفق بمنهج الشريعة في عدم تعطيلها للأسباب وعدم إبطالها للأصول الطبيعية وهي الموافقة لنتائج العلم الحديث.

– إن ما رجحه بعض أهل العلم قديما من أن ظنّ العدوى لا يجيز ترك عيادة المرضى وصلة الرحم وسدّ أبواب المرافق والمصالح انبنى على تصورهم للعدوى بأنها  من الحوادث الارتباطية ضعيفة الاحتمال أما وقد صار فهمنا اليوم لآليات انتقال الأمراض أكثر دقة وارتفاع مستوى الاحتمال فيها إلى غلبة الظنّ، فلا وجه للتفريق بين أي وباء معد وبين سائر ما اطردت العادة به من المضرات والمهالك.

–  إن الإجراءات الاحترازية خصوصا اذا أمر بها الحاكم يرتقي حكمها إلى الوجوب، ومخالفتها إلى الحرمة، لأنها من الأحكام الشرعية في كلي حفظ النفس وهي أحكام ملزمة وليست مجرد نصح أو توجيه، بل تترتب عليها عقوبات شرعية للذي يخالفها متعمدا.

3- كلي المال:

 – إن القاعدة الأولى من قواعد فقه الطوارئ في العقود والمعاملات قاعدة: “الضرر يزال” المستنبطة من القرآن الكريم استقراء ومن السنة نصا ومن الإجماع نقلا.

– إن فقه الطوارئ في العقود والمعاملات نظير ما هو معروف في القوانين المعاصرة من نظرية الظروف الطارئة التي نشأت في الغرب،وتضاف إليها نظرية القوة القاهرة المشابهة. 

– إن نظريتي الظروف الطارئة والقوة القاهرة تهدفان إلى إصلاح اختلال التوازن في العقد وتدارك أمر لم يكن متوقعا فحدث؛ بحيث يرُد القضاء -بعد الموازنة بين مصلحة المتعاقديْن- الالتزام المرهق لأحد الطرفين إلى الحد المعقول.

– إن أحكام الطوارئ في شريعتنا السمحة أرحب وأوسع وأشد مرونة من نظرية الظروف الطارئة في القانون لأنها لا تشترط في مراجعة نتائج العقد ورفع أضراره ما يعتبره القانون قوة قاهرة بل تراعي ما دونها كالحوادث الطارئة وما هو أعم من ذلك.

– إن الفقه الإسلامي يتميّز بانسجام أحكام الطوارئ فيه مع أحكام الجوائح التي تُنتظم في عقد واحد وترتبط برباط وثيق، هو نسيج وحده في كثير من الفروع. وذلك لمرونة مفهوم الجائحة في الفقه الإسلامي التي وسعها النظر الفقهي من أصلها المنصوص في الثمار إلى عموم أحكام الطوارئ .

– إن بوسع القضاة والمفتين انطلاقا من هذا الشمول الذي تتيحه النصوص الشرعية في توسيع مفهوم الجائحة، أن ينظروا في النوازل والأقضية نظرا خاصا، ليحققوا المناط في وجود الضرر الموجب للفسخ الكلي أو الجزئي، أو عدم وجوده، بحيث يوسعوا مفهوم الجائحة الجزئية أو يرتقوا بالمفهوم إلى صيغة جديدة كلية، بناء على شمول آثار أزمة هذا الوباء الجديد لجميع الكليات.

4/5 – كلي العقل والنسل:

– إنّ من آثار الوباء الجديد وما فرضه من حجر في البيوت كثرة النزاعات الأسرية والفتن وارتفاع نسب العنف الأسري ونسب الطلاق، مما يحتّم على أهل العلوم الشرعية والإنسانية والتربوية البحث عن الوسائل الصحيحة في التوعية والتثقيف لبث روح الطمأنينة والوئام في الأسرة حتى تغدو كما يجب أن تكون سَكَنا نفسيا وسكينة تعمر القلوب ومحبة تبهج النفوس.

– إن مما ينبغي أن يعمَّق البحث فيه مدى صلاحية الآثار النفسية والمادية لهذا الوباء الجديد لتكون مستندا لإخلاء أفراد العائلة من مسؤولياتهم ونتائج تصرفاتهم، لا سيما في باب الطلاق، وخاصة ممن يرى أن المقصود بالإغلاق في الحديث[3] الغضب الشديد.

– إن من مهمات قضايا البحث الفقهي المتعلقة بالوباء الجديد إمكان إناطة الأحكام بالأحوال النفسية والحالات الباطنة دون مظاهرها وعللها التي يشترط فيها الظهور والانضباط كالأمراض العضوية المؤثرة على الأمزجة والتصرفات.

ثالثا- القرارات والتوصيات

  • يشيد المؤتمرون بالقرارات الرشيدة التي اتخذتها المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بالعمرة والزيارة والصلوات في المسجد الحرام والمسجد النبوي، كما يشيدون بالإجراءات الإحترازية بتخصيص الحج هذه السنة لحجاج الداخل (30% نسبة الحجاج السعوديين و 70% من المقيمين)، وأن تقليص أعداد الحجاج وقاية لهم من خطر تفشي الوباء المطبوع بالاستمرار وعدم الاستقرار، وأنها إجراءات متوافقة مع أحكام الشريعة ومقاصدها باعتبار الظرف الطارئ الاستثنائي الذي أحدثته الجائحة، فهي اجتهاد مصلحي صادرٌ من أهله وواقع في محلّه، يقع به فرض الحج المطلوب شرعا ويسقط به الإثم عن الجميع،كُل ذلك في سياق ما بذلته المملكة العربية السعودية من جهود فائقة – داخلياً وعالمياً – لمواجهة هذه الجائحة، مُتوخية من إسهامها الدولي في ذلك الهدف الإنساني المجرد.
  • كما يشيد المؤتمرون بدور المملكة العربية السعودية الرائدِ في الإغاثة الدولية المتعلقةِ بوباء فيروس كورونا المستجد لمكافحة هذه الآفة والتخفيفِ من آثارها، ممثلة في مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، باذلةً المساعداتِ الماليةَ والطبيةَ والغذائيةَ والمشورة التوعوية المتخصصة والتي لم تفرق في وجهتها والمستفيدين منها بين جنس أو لون أو دين امتثالا لتعاليم ديننا الحنيف الذي جاء رحمة للعالمين.
  • يشيد العلماء والمشاركون برؤية دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة هذه الأزمة استشرافا في التخطيط وحزما في التطبيق وسرعة في المبادرة ومشاركة في تطوير العلاجات المتطورة وبالدور الريادي الذي اضطلعت به في التضامن مع البلدان المتضررة من هذا الوباء دون النظر إلى دينها أو عرقها، فحركت أساطيلَها البحريةَ والبرية والجوية وذلك من خلال جهود مؤسسات الدولة وفي مقدمتها هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لتوفير شريان الحياة للإمدادات الصحية والإنسانية الأساسية لأكثرَ من سبعين (70) دولة للحد من انتشار فيروس كورونا جاعلةً من إغاثة الإنسان حيثما كان البوصلةَ والهدف الأسمى لجهودها
  • يشيد المشاركون بجهود الرابطة الإغاثية وما قدمته من مساعدات ودعم لجهات الاحتياج حول العالم للمساهمة في التصدي لجائحة كورونا والتخفيف من آثارها وتداعياتها الاقتصادية والصحية، والتي استفاد منها مئات الآلاف في 25 دولة، في إطار استجابتها للدور الإنساني الذي تقوم به في العالم دون تفريق بين لون أو عرق أو دين.
  • يشيد المؤتمر بجهود الدول الإسلامية وغيرها والمنظمات الدولية كمنظمة التعاون الإسلامي التي قدمت مساعدات طبية وإنسانية للدول المحتاجة إلى مساعدة مما خلف أثرا طيبا وسمعة حسنة وخفف من آثار هذا الوباء في العالم أجمع.
  • يشيد المؤتمر بتضحيات الطواقم الطبية وتفانيها في إنقاذ الأرواح وعلاج مرضى هذا الوباء والعناية بهم وبجهود كل العاملين أفرادا ومؤسسات في مكافحة هذه الآفة مذكرا بعظم الأجر والثواب الموعود به كل من أحيا نفسا وحافظ عليها.
  • يقدر المؤتمر أن الحاجة متعينة في الظرف الراهن إلى هبَّة ووقفة إنسانية يتجه فيها الضمير العالمي نحو مراعاة وحدة المصير الإنساني في كثير من القضايا الكبرى، الأمر الذي يتطلب تعاونا وتضامنا وتشاركا عالميا.

كما أوصى المشاركون بما يلي:

  • تكوين لجنة لحصر الأحكام والإجتهادات الفقهية القيمة الواردة في جلسات هذا المؤتمر وإصدار مدونة بها والتوصية ببث تسجيلات جلسات المؤتمر وطبع بحوثه ومخرجاته ليعم النفع بمضامينها ومناهجها وأدلتها وتصل إلى المجامع الفقهية والمؤسسات العلمية والباحثين الشرعيين والجهات ذات الصلة بالبحث الفقهي.
  • ضرورة تفعيل دور المجامع الفقهية والمؤسسات الإفتائية بكفاءة عالية ينشط فيه الفقه الشرعي والفقهاء لكي يواجهوا الحالات الطارئة والمستجدات المتكاثرة والمتتابعة، في عالم دائب التطور والتغير.
  • ضرورة متابعة البحث العلمي في فقه الطوارئ في مختلف مؤسسات ومنابر البحث العلمي من جامعات ومعاهد ومراكز ومجلات متخصصة وغيرها إسهاما من الفقه الإسلامي المعاصر في حل مشاكل المجتمع وتعريفا بغنى التراث الفكر الإسلامي وبحاجة البشرية إليه في كل زمان ومكان .
  • ضرورة العمل بكافة القرارات والأنظمة والاحترازات التي تصدرها الجهات ذات الاختصاص الصحي والأمني من أجل مواجهة هذا الوباء، وأن هذه القرارات معتبرة وملزمة شرعا لما فيها من تحقيق للمصالح ودفع للمفاسد الخاصة والعامة، وأن من يخالف ذلك ويتساهل فيها فهو آثم شرعا، ومستحق للعقوبة قانونا.
  • دعوة جميع المسلمين إلى الاستمرار في أداء واجبهم الإسلامي والإنساني، الشرعي والحضاري، في تقديم الدعم المطلوب من صدقات وزكوات وتبرعات، والعمل على كفاية حاجات المتضررين.
  • دعوة عموم المسلمين بالتراحم والتعاون مع مجتمعاتهم، وإظهار روح الإيثار والتضامن، وتجسيد أخلاق الإسلام وقيمه في أوقات الأزمات والشدائد.
  • دعوة الأئمة والوعاظ والمنصات الفكرية والعلمية إلى أداء دورهم في إرشاد الناس ودعمهم روحيًّا وثقافيًّا بوسائل الاتصال الحديثة، وتبنّي خطاب حضاري إنساني عالمي، وبثّ روح الأمل والتفاؤل، وإبراز مظاهر التيسير والرحمة في أوقات البلاء والمحن، لما ينشأ عن الاستقرار النفسي من أثر على تعزيز المناعة البدنية.

وفي الختام يتوجه المؤتمرون بجزيل الثناء والشكر لرابطة العالم الإسلامي ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي على عقد ورعاية هذا المؤتمر منوهين  بجهود معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين، وجهود معالي العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في تقديم الصورة الصحيحة المشرقة لرحمة الإسلام وسماحة شريعته وفي خدمة قيم التسامح والاعتدال والوحدة الإسلامية والأخوة الإسلامية والإنسانية والتضامن بين الشعوب على اختلاف أجناسها وأديانها وثقافتها.

داعين الله للجميع بالتوفيق والسداد والعون، وأن يديم على المملكة العربية السعودية وعلى دولة الإمارات العربية المتحدة قيادة وشعبا سابغ نعمه وأفضاله، وأن يرفع البلاء والوباء عن سائر بلاد المسلمين وعن البشرية جمعاء.

 

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

صدر في

28/11/1441هـ

19/7/2020م

 

[1]صحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة …رقم 5687.

[2]صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الجذام، رقم 5707.

[3] أخرجه ابن ماجه (2046) ، وأحمد في مسنده (26360) ، وأبو يعلى في مسنده(4444) 

Comments are closed.