فتنة التكفير حرب على الامة

   
  العلامة عبدالله بن بيه  

 

لقد ابتليت الأمة بحروب يشنها عليها أعداؤها متذرعين بمختلف الذرائع ومتوسلين بشتى الوسائل، تارة بسبب جريمة سفيه ـ لم تثبت ـ يهلك من أجلها فئات من الناس، وتارة من أجل دعوة أسلحة دمار لم توجد، وتارة من أجل إيجاد ديمقراطية بالإكراه تشن حرب يحرق فيها الأخضر واليابس. إنها حرب أو حروب تفتقر إلى حد أدنى من المنطق

لكن الذي يهمنا اليوم هو حرب أخرى تشنها طوائف من هذه الأمة على الأمة الإسلامية لتخريب بيوتها من الداخل ليست أقل ضراوة ولا أقل منطقية من تلك التي تأتي من وراء البحار، تارة تحت عنوان الاختلاف في المذهب، وتارة تحت عنوان الولاء والبراء والعلاقة مع الكفار إلى غير ذلك من العناوين التي لا تقيم وزناً للمصالح والمفاسد ومآلات الأفعال ولا تدرك خطورة التكفير في الشرع الحنيف.

 بعض النصوص في خطورة التكفير:

قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النساء: 94]. وفي الأحاديث الصحيحة النهي الشديد والوعيد لمن يرمي غيره بالكفر، فقد روى البخاري وأحمد:  من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله .  إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما .

والأحاديث بمثل هذا المعني كثيرة، وما ذلك إلا لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي من جملتها إباحة الدم، والمال، وفسخ عصمة الزوجية، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وغيرها من البلايا والرزايا نعوذ بالله تعالى منها.

هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال الإمام السبكي:  ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتكفيره صعب .

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني:  لا أكفر إلا من كفرني .

قال الشيخ: وربما خفي لسبب ما هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك، رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:  من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما ، وكأن هذا المتكلّم يقول: الحديث دلّ على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر أو المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه.

وقد بالغ الإمام أبو حامد الغزالي حتى نفى الكفر عن كل الطوائف فقال: هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.

من هذه التعريفات تبرز العناصر التالية:

أولها: وهو أساس التعريف وحقيقة الحد المتمثل في الجنس والفصل هو ما عرف به ابن عرفة المالكي، فإن قوله:  كفر  هو جنس للردة، ويدخل فيه الكفر الأصلي والطارئ، وقوله:  بعد إسلام تقرر  هو الفصل أخرج به الكفر الأصلي، وما إذا لم يتقرر الإسلام أي لم يثبت.

أما تعريف صاحب تنوير الأبصار وصاحب المغنى فهو تعريف لاسم الفاعل وهو المرتد أي الراجع، فالرجوع هو الجنس وكونه عن  دين الإسلام إلى الكفر ، هو الفصل، وهذه التعريفات متقاربة إلا أنها لا توضح كيفية الخروج، غير أن ملحقات الحد بينت ذلك.

فقال تنوير الأبصار:  وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد الإيمان ، ويجعل التعريف مركبًا إذ كونه ركنًا يدل على أنه جزء لماهية، ولكن ابن عابدين قال:  هذا بالنسبة للظاهر الذي يحكم به الحاكم وإلا فقد تكون بدونه، كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوي أن يكفر بعد حين .

وهذا الكلام يجعل الاعتقاد ركنًا إلى جانب الكلام. أما ابن عرفة فقد جعل الكلام ونحوه وسيلة فقط لظهور الردة وليس جزءًا من الماهية فقال: عن ابن شاش:  ظهور الردة إما بتصريح بالكفر أو بلفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه .

وهكذا فإن هذه الثلاثة هي مظاهر الردة، وقد نقل ابن عرفة كلام ابن شاش في عقد الجواهر الثمينة فيما تظهر به الردة ولكنه لم يتبعه في التعريف، فابن شاش عرّف الردة بأنها:  عبارة عن قطع الإسلام من مكلف ، وبهذا تكون الردة أمرًا قلبيًا مظهرها الخارجي الذي يحكم به قول صريح أو مقتض أو فعل متضمن.وقد اقتصرت الأحناف على القول فيما مر إلا أنهم أضافوا الفعل، فقد قال ابن عابدين في الحاشية:  وكما لو سجد لصنم ووضع مصحفًا في قاذورة فإنه يكفر وإن كان مصدقًا؛ لأن ذلك في حكم التكذيب، كما أفاده في شرح العقائد .

أما تعريف الزركشي الذي نقلنا فهو تعريف للكفر وهو أعلم من الردة وجعل الجنس فيه الإنكار والفصل فيه هو ما عظم من الدين ضرورة، وهذا التعريف للرازي وهو مثل تعريف الأحناف الذي يعتبر إجراء كلمة الكفر عن اللسان ركنًا للردة، وقد ناقشه الزنجاني قائلا:  إن الإنكار يختص بالقول والفكر قد يقع بالفعل .

ولكن الزركشي بعد نقله لاعتراض الزنجاني على الرازي ناقشة قائلاً:  وما أورده من التكفير بالأفعال كلبس الزنار ونحوه على الضابط فجوابه أنه ليس على الحقيقية كفرًا لكن لما كان عدم التصديق باطنًا جعل الشرع له معروفات يدور الحكم الشرعي عليها. والظاهر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بهذا ونحوه فلم يخرج الكفر عن أول التصديق .

بعد هذه المناقشات يبدو أن الردة مردها إلى القلب وأن وسيلته هي اللسان، أما الأفعال فقد تعطي حكم التصريح إذا كانت واضحة، وقد بالغ بعض العلماء بالتمسك بالعقد القلبي كأساس فريد للكفر،

فقال الشوكاني:  فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه . وإذا كان الأمر مردودًا إلى القلب لأن الكفر نقيض الإيمان، والإيمان محله القلب، فإن العلامات التي تترجم عن القلب يجب أن تكون واضحة شارحة غير غامضة ولا مشتبهة ولا محتملة لخطورة أمر الردة.

لما تقدم نرى أن ترسيخ ثقافة التسامح وقبول الاختلاف أمر ضروري لإطفاء نار فتنة التكفير التي تحرق الأخضر واليابس وتصيب القائم والجالس.

Comments are closed.