نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في إكسبو2020

   
  بسم الله الرحمن الرحيم  
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
  مؤتمر “مستقبل المالية”  
مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي
كلمة معالي الشيخ عبدالله بن بيّه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

 

معالي خالد محمد بالعمى التميمي -محافظ مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي،

الاخوة المشاركون في هذه الجلسة،

أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه.                      

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 

اسمحوا لي أولاً أن أشكر تشريفكم لي بالدعوة لهذا المؤتمر الدولي حول ” مستقبل المالية” والذي ينظمه مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي ضمن فعاليات معرض اكسبو 2020 دبي.

 

وبهذه المناسبة أشيد بالطموح الكبير والتطلع الدائم للأفضل الذي يطبع عمل دولتنا ورؤية قيادتنا والذي نجني من ثماره تنظيم هذا المعرض الدولي العظيم بمشاركة أكثر من 190 دولة من أرجاء العالم ليكون بذلك أكبر أحداث هذا العام وأكثرها قدرة على مد الجسور بين البشر وحشد الطاقات لكل ماينفع الناس ويؤلف بين مختلف الأجناس. إن هذا برهان على التسامح وعنوان للتعايش بين الجميع.

 

أيها الحضور الكريم،

إنّ هذا الاجتماع ينعقد وقد مرت البشرية وتمر بجائحة غير مسبوقة في التاريخ الحديث­­، أزمةٌ من النوع الذي يختبر أخلاقنا وقيمنا وإيماننا. إنها تختبر أخلاقنا في التعامل فيما بيننا، في بيوتنا ومع جيراننا، هل نصبر وننشر قيمة الصبر والتضامن بيننا أم نخضع لليأس والقنوط؟

تختبر قيمنا هل نُعلي قيمة الإحسان والمحبة والإيثار مع القريب والغريب. إن هذا الاختبار ليس على مستوى الأفراد فقط وإنما على مستوى الدول أيضاً التي عليها مسؤولية مساعدة تلك الأقل ثروة وقوة والتي لا تتوافر لديها وسائل مواجهة الجائحة المادية والصحية.

وفي هذا الصدد قامت دولة الإمارات العربية المتحدة بدور ريادي حيث سارعت بتقديم يد العون والتضامن مع البلدان المتضررة من هذا الوباء دون النظر إلى دينها أوعرقها، جاعلة من إغاثة الإنسان حيثما كان البوصلة والهدف الأسمى لجهودها ومجسدة التضامن الذي تدعو له الأديان والأخلاق النبيلة.

 

إنه ما من منحى من مناحي الحياة بمنأى عن تبعات هذه الأزمة وآثارها، فقد تَسَلَّلَتْ إلى أدقِّ تفاصيل الحياة الإنسانية، وشملت كل النواحي، ومن ناحية المعاملات فقد أدّت الحاجة إلى الإغلاق الكامل أو الجزئي إلى تعطّل قطاعات كبيرة من الاقتصاد وفقد الملايين لأعمالهم كما أدت إلى تهديدِ قطاعاتٍ كاملةٍ بالانهيار. ونتيجةً لذلك فقد تأثّرت العقود المُبرمة بين القطاعات المختلفة فيما بينها وبين الشركات والأفراد مثل عقود المقاولات والتوريد والتوظيف. وقد أثارت هذه التغيرات أسئلةً فقهيةً حول إمكان تأخير الزكاة عن وقتها لصالح أرباب المال جراء نقص السيولة وكساد السلع أم يكون تعجيلها لفائدة المساكين وجيها بسبب تفشي البطالة جراء إنهاء خدمة العمال وتسريحهم من وظائفهم. مما يوجد اجتماع المانع والمقتضي لا بالمعني الفقهي الأصولي ولكن من الناحية العملية مما يدعو إلى الإجتهاد وتنويع الحلول.

 

وفي هذا السياق كان لنا في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي جهد واجتهاد معتبر في إصدار مجموعة من الفتاوى والبيانات لتوضيح الموقف الشرعيّ من عدد من القضايا ذات الصلة بالعبادة من صلاة وصيام وزكاة وأصدرنا فتوى حول استخدام اللقاح المضاد لفيروس كورونا، كما نظم المجلس بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي مؤتمرا دوليا حول “فقه الطوارئ” أوضحنا فيه يسر الإسلام وسعة الشريعة وقدرتها على استيعاب مصالح الناس في مواجهة الجوائح والأزمات.

 

وحيث لا يسمح المقام ببسط الكلام، ولا إيراد التقريرات وروم التحريرات، فسأكتفي في هذه السانحة بكلمات موجزات:

 

أيها الحضور الكريم،

 

وفي ظل هذه الظروف والتغيرات العميقة ينعقد هذا المؤتمر ليناقش مستقبل التمويل في العالم ومستقبل التمويل الإسلامي على وجه الخصوص. ولاشك أن سؤال المستقبل دائما سؤال حاضر خصوصاً في ظل الظروف المتغيرة ولكنه أيضا سؤال صعب المراس، بعيد الغور. ومع ذلك فهناك توجهات عامة ومتغيرات مشهودة يمكن البناء عليها لتصور المستقبل ورسم خارطته.

ومن أهم العوامل المؤثرة في مستقبل المالية هو التطور التكنولوجي الذي ليس وليد اليوم فما نشاهده هو تراكمات لقفزات هائلة في مجال إدماج التقنية في قطاع المال على مدى العقود الماضية، لكن الجديد هو التسارع الذي شهدته السنوات الأخيرة وزادته الجائحة حضورا وهو تقدم ما يسمى التكنولوجيا المالية (فينتِك-Fintech) والتي أصحبت مجالا متسارع النمو متنوع المنتجات، بالإضافة الى الضيف الجديد غير المرحب به حتى الآن على مائدة القطاع المالي وأعني بذلك العملات الرقمية والتي تنمو بسرعة مذهلة وحجم مدهش يتناسب طردا مع حجم تردد المؤسسات المالية في التعامل معها وعجز المؤسسات الرقابية عن سن تشريعات منظمة لها.

ومن العوامل الأخرى الملحة عامل الإستدامة والحاجة إلى الاستثمار في القطاعات البيئية الخضراء بالإضافة إلى صعود توجه التمويل غير المركزي الذي بدأ ينافس في بعض القطاعات التمويل التقليدي. 

 

وأمام هذه المتغيرات والتحديات نتساءل كيف يمكن للتمويل الإسلامي أن يحقق أهدافه التنافسية ويبقى وفيا لمنبعه الأصيل وقيمه العليا وفي جاذبية المقاصد والنصوص الشرعية.

 

وإزاء ذلك نرى أن مستقبل التمويل الإسلامي يكمن في التركيز على ثلاثة عوامل هي الموائمة والملائمة والإبتكار. ونعني بالموائمة التعايش المسالم وبالملائمة التفاعل الملائم وبالإبتكار مجاوزة القديم إلى الجديد والتطوير والتجديد. ومن خلال ذلك يمكن للإقتصاد الاسلامي تلبية الحاجات الحقيقية للإقتصاد والتعامل مع الواقع الجديد للحركة الإقتصادية التي لا تعرف سكوناً والنشاط التجاري الذي لا يعرف راحة والمنافسة المحمومة التي لا ترحم خاملا ولاكسولا.

 

إنَّ نظرتنا لمستقبل التمويل الإسلامي، تنطلق من الوعي بأهمية التجديد والاجتهاد في الاحكام والنوازل إذ يجب ألا نغفل التأثيرات الحاصلة في الواقع، فالواقع شريكٌ في تنزيل الأحكام وتطبيقها، كما دلت على ذلك النصوص والأصول وأبرزته ممارسات السلف الراشد الاجتهادية وتنزيلاتهم الوقتية.

 

ولهذا فإن على المتعاطي مع فقه المعاملات أنْ يتعلم التعامل مع النصوص من خلال المقاصد والقواعد والواقع والوقائع، وأنْ يقتحم عقبة الفقه، فيفرق بين العبادات التي مبناها على التسليم وبين المعاملات التي مدارها على التعليل المعقول، ويتصرف وفق روح القيم الناظمة للشريعةَ المطهرةَ وهي: الحكمة، والمصلحة، والعدل، والرحمة. كما يقول بحق ابن القيم. وباختصار، اعتبار المصلحة المتقاضاة بالعقل قبل النقل كما يقول العز بن عبدالسلام في كتابه قواعد الأحكام.

 

وعلى كل حال، فإننا نرى أنَّ القيمة المضافة للإقتصاد الاسلامي هي قربه وارتباطه بالإقتصاد الحقيقي وبالتالي حفاظه على السوق وخاصة في وقت الأزمات الناشئة عن مغامرات السوق كما ظهر في الأزمة المالية الأخيرة أي أزمة الرهون العقارية، وذلك من خلال بعده عن الغرر الكثير والجهالة. وكذلك استعماله مبدأ الغنم بالغرم أي الاشتراك في الربح والخسارة والمشاركات بشكل عام. وانطلاقاً من هذه المبادئ اقترحت المصرفية الإسلامية جملة من المنتجات المربحة بعناوين: “المشاركة” و”المضاربة” و”الاستصناع” و”الإجارة” و”المرابحة” و”السلم”. إنها تقترح آليات للتمويل غير تقليدية وربما تكون معقدة بعض الشيء في البداية وربما ينظر إليها بأنها قديمة ولا تتلائم مع حركة ودينامكية الاقتصاد المعاصر وهو انتقاد مفهوم إلا أنها تمثل ملجأ فيه شيء من الأمان لرأس المال لأنها تعتمد على الاقتصاد الحقيقي ووراءها سيولة نقدية معتبرة؛ ولأنها قد تمثل نوعاً من الكوابح اعترف بعض الخبراء بضرورتها في مقابل السرعة المذهلة في خلق الأوراق المالية بدون أساس وفي ظل اجراءات رقابية قد تكون في بعض الحالات متراخية مما يؤدي بالمالية إلى أفق مجهول. ولذا فإنَّ هذه المزايا المنبقثة عن القيم ينبغي الحفاظ عليها في وجه إغراءات الربح السريع وحركة السوق المستمرة.

 

وفي سياق  الحديث عن المستقبل ، نعتقد أنه من الضروري في النظر الفقهي التعامل مع المذاهب الإسلامية جميعاً كمجموعة واحدة وبالتالي الإستفادة من الثروة الفقهية الكبيرة التي تزخر بها هذه المذاهب دون تعصب ولا انغلاق على مذهب واحد. آملين أنْ توفر هذه النظرة المرونةَ المطلوبة للتعامل مع التحديات التي يشكو منها المتعامل مع الإقتصاد الإسلامي في ظل حركة الأسواق السريعة بحيث يمكن صناعة معايير تكون قريبة من الإقتصاد الوضعي الذي يقوم على حرية الأسواق موكلا أمره إلى اليد الخفية حسب أدم سميث وفي نفس الوقت ليست منفصلة عن الإقتصاد الحقيقي الذي عليه اعتماد الاقتصاد الإسلامي.

 

وقد يقتضي هذا الأمر مرافعة طويلة لا يتسع المقام لها وقد قامت المجامع الفقهية مشكورة ببعض ذلك، ولكن سأتطرق في هذا الصدد إلى مقترح واحد وهو تطوير معيار التوازن والتوسط الذي يقوم على الموائمة بين الثبات والتغير. الثبات الذي هو القرب من الإقتصاد الحقيقي والتغير الذي هو القدرة على مسايرة السوق مع الانضباط المطلوب. فيكون بذلك هذا المعيار طريقا ثالثا أو مذهبا ثالثاً.

فيُفرق فيه بين الجهالة والغرر الكثير والمتوسط والقليل في المعاملات والعقود، كما يفرق فيه بين المشقة والحرج يسيره وكثيره المترتب على فوات هذه المعاملات. فهل يلحق الغرر المتوسط بالكثير أم بالقليل وهل تضم المشقة المتوسطة الى المشقة العظمى أم تلغى مع المشقة اليسيرة وهنا مَجَرُّ عوالى اجتهاد العلماء و مجرى السوابق من خيولهم. والرأي أن يُمنع الغرر الكثير في المعاملات ويسمح بالغرر المتوسط والقليل. وتُلحق المشقة المتوسطة بالكثيرة فتنزل الحاجات منزلة الضرورات وتُلغى المشقة اليسيرة فلا تؤدي الى ترخص ولا إباحة لمنهي عنه وأصل الكلام للقرافي بتصرف اقتضاه المقام . وبهذا الشكل يمثل هذا المعيار وما ينبثق عنه من معاملات وعقود المرونة المتوخاة، في مقابل الانضباط والحرفية الذي يمثله الإبتعاد عن الربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل.

 

وبهذا الخصوص يمكن الإستفادة من بعض مفردات مذهب مالك بن أنس الذي وسّع البيع بمعنى من المعاني فجعل مفهوم البيع هو العقد دون القبض  على المشهور من المذهب وضمّر الربا في تعامله مع قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرّم الربا) مع الاستدراك على مسائل سد الذرائع التي تمثل الممنوع من الدرجة الثانية، ليكون ذلك منبها على ما تختزنه المذاهب الإسلامية المتعددة من إمكانات هائلة ومرونة عالية تسمح بالتعامل مع العصر.

 

وفي هذا السياق، يمكن العمل على معيار لبيع الديون يراعي الانضباط المطلوب ويسهم في مواجهة التحديات التي تطرحها السوق مثل عقود البترول والسلع المختلفة في الأسواق الدولية وذلك وفقا لمذهب مالك الذي يجيز ذلك مع شيء من الانضباط تمثله الشروط الخمسة لبيع الدين ومنها ثبوت الدين وإمكانية الحصول عليه في وقته لأنه يعتبر الدين مالاً موجوداً ويقدر المعدوم موجوداً.

وابتداء الدين بالدين الذي نعني هنا ليس هو بيع الكالئ بالكالئ، فبيع الكالئ بالكالئ عند ماللك هو فسخ دين في دين، وأما ابتداء الدين بالدين فهو جائز عنده بشروط معلومة في السلم ومذهب سعيد بن المسيب جواز ذلك مطلقا. حيث نقل عنه ابن يونس في كتابه “الجامع لمسائل المدونة” جواز تأجيل البدلين، وسعيد بن المسيب كما يقول الشيخ ابن تيمية أفقه الناس في البيوع، وهو عند أحمد بن حنبل أفضل التابعين.

 

كما يمكن الأخذ ببيع الغائب الذي يجيزه مالك ببعض الشروط، باعتبار أنَّ الخبر بمنزلة النظر، وهي قاعدة نادرة ذكرها الحافظ أبوبكر بن العربي في كتابه “القبس”، أي الإكتفاء بالخبر عن النظر، وبالتالي أجاز بيع الغائب بالوصف، والمغيب في الأرض من الثمار.

 

ولهذه الآراء الواردة في مذهب مالك أدلتها وأصلها في عمل أهل المدينة وليس هذا محل إيرادها. لكن المراد أنَّ هناك أسساً يمكن البناء عليها لتطوير معايير جديدة تخدم التمويل الإسلامي مع الإبتعاد عن المحاذير التي تتنافى مع التعاملات الاسلامية وهي الربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل أو الثلاثي النكد كما نسميه، والتي ذكرها الحافظ أبوبكر بن العربي وسبقه إليها القاضي عبدالوهاب في كتابه التلقين.

 

ولاشك أنَّ مثل هذه المقترحات قد تحتاج إلى ورش ولجان عمل لتطويرها وتعميق النظر فيها، لكن ذكرناها هنا للتنبيه على مكنونات الشريعة السمحة وإمكانات الفقه الواسعة.

 

وباختصار، فإننا نهيب بإخواننا في الهيئات الشرعية بالمؤسسات المالية أنْ ينفتحوا على الأقوال في المذاهب الاسلامية المتنوعة التي لها اعتبارها ودليلها المعتبر ولايمنعهم مذهب سبق إليهم، من النظر في مذهب آخر قد يكون أسعد بالدليل وأقرب إلى التأصيل وأسهل في التنزيل، وليس في المراجعة والتغيير عيب ولا نقص ولا تثريب.

وختاما، فإنَّ الحاجة ملحة لنظرة جدية ورؤية متجددة فيما يتعلق بالمعطيات الاقتصادية المعاصرة، بحيث يهتم الإقتصاد الإسلامي بتحديث الأدوات الإجتهادية والمعايير التنظيمية ليكون اقتصاداً منافساً وقيمة مضافة، محافظاً في خضم عمله التجاري على قيمه الأساسية، بما في ذلك الإنضباط والشفافية وصيانة حقوق المتعاملين حتى تبقى شجرته شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

 

أشكركم جميعاً وأدعو الله أنْ يحفظ أوطاننا ويصلح أعمالنا وأنْ يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأنْ يكلله بالنجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

Comments are closed.