اللغة والإجتهاد الفقهي
بقلم الإمام العلامة/عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
لقد قال الأصوليون إن المجتهد لا بد أن يعرف اللغة العربية والنحو ولكن تقديراتهم متفاوتة، فبينما نجد أكثرهم يشترطها للاجتهاد فإنهم لا يشترطون التبحر فيها كالأصمعي، وأبي عبيدة إلا ما ذهب إليه الشاطبي في الموافقات الذي بالغ في أهمية اللغة العربية إلى حد اشتراطه بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة العربية في المجتهد في الفقه. وسنتعرض لموقفه بشيء من التفصيل بعد استعراض نماذج من آراء الأصوليين في هذه المسالة.
يقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني المتوفى سنة 478هـ: “وينبغي أن يكون المفتي عالماً باللغة فإن الشريعة عربية، وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة، من يفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصاً في بحور اللغة متعمقاً فيها لأن ما يتعلق بمأخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط وقد قيل: لا غريب في القرآن في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا نكتفي بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه على الكتاب لأن في اللغة استعارات وتجوزات يوافق ذلك مأخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق يتفردون به في فهم المعاني وأيضاً فإن المعاني يتعلق معظمها بفهم النظم والسياق ومراجعة الكتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ، فأما ما يدل عليه النظم السياق فلا. ويشترط أن يكون المفتي عالماً بالنحو والإعراب فقد يختلف باختلافه معاني الألفاظ ومقاصدها” [1].
وفي شرح منهاج الأصول للبيضاوي[2]، ممزوجاً بشرح الأسنوي واسمه جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي المتوفى سنة 774هـ، قال البيضاوي المتوفى سنة 675هـ ما نصه: “السادس علم العربية من اللغة والنحو والتصريف لأن الأدلة من الكتاب والسنة عربية الدلالة فلا يمكن استنباط الأحكام منها إلا بفهم كلام العرب إفراداً وتركيباً ومن هذه الجهة يعرف العموم والخصوص والحقيقة والمجاز والإطلاق والتقعيد وغيره مما سبق. ولقائل أن يقول هذا الشرط يستغنى عنه باشتراط معرفة الكتاب والسنة فإن معرفتهما مستلزمة لمعرفة العربية بالضرورة”.
وعلق المحشي بقوله:”أقول يؤيد هذا، هذا الذي قاله الأسنوي ما قدمناه عن السعد في التلويح نقلاً عن الغزالي من أنه لا بد أن يعرف المجتهد الكتاب أي القرآن بأن يعرفه بما فيه لغة وشريعة إلى آخر ما قدمنا من أن معرفة معانيه لغة تفتقر إلى اللغة والصرف والنحو” إلخ. لكن قد علمت مما قدمناه أن المجتهد إنما يكون متمكناً من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام وأن يعرف كيفية الاستثمار ومعرفة المدارك المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس هي الشرط المقصود ولتوقفها على معرفة كيفية الاستثمار وتوقف معرفة الكيفية على تلك العلوم صرحوا باشتراطها تفصيلاً وإلا فاشتراط أن يكون محيطاً بمدارك الشرع متمكناً من استثمارها واستنارة بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره تتضمن جميع الشروط فمنهم من اكتفى بذلك الشرط لتضمنه كل الشروط فعبر بما ذكرنا ومنهم من نص على معرفة المدارك الأربعة وأجمل ما عداها كصاحب مسلم الثبوت فقال: وشرطه مطلقاً بعد صحة إيمانه ولو بالأدلة الإجمالية. معرفة الكتاب وقيل بقدر خمسمائة آية والسنة متناقيل التي يدور عليها العلم ألف ومائتان وسنداً ولو بالنقل عن أئمة الشأن ومواقع الإجماع وأن يكون ذا حظ وافر مما تصدى له هذا العلم أي: علم الأصول فإن تدوينه وإن كان حادثاً لكن المدون سابق وفصل ذلك شارحه فقال: لأن طرق استخراج الأحكام إنما تبين منه ثم لابد له من معرفة الصرف والنحو واللغة[3].
وقال أبو العباس الشهير بابن حلولو المالكي القيرواني في شرحه المسمى:”بالضياء اللامع على جمع الجوامع”، عند قول السبكي في شروط الاجتهاد، والعارف بالدليل العقلي والتكليف به ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية وأصولاً وبلاغة ما نصه:”الخامس كونه عارفاً بالعربية من لغة وصناعة نحو وبلاغة على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال والتواصل إلى التمييز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه وما في معنى ذلك”، قال الإبياري:”وهذا إذا بنينا على أن الشرع لم يتصرف في اللغة العربية وهو اختيار القاضي فنكتفي باللغة العربية، وإن قلنا أنه تصرف لم نكتف بذلك وقلنا لا بد من معرفة لغة الشرع وطلبنا على هذا الرأي معرفة اللغة العربية لكونها في أكثر أحوالها موافقة للغة الشرع، إلى أن قال: عن الأستاذ أبي إسحاق الذي تختلف بسببه المعاني يجب التبحر فيه والكمال ويكتفي بالتوسط فيما عداه، ويجب في معرفة اللغة الزيادة على التوسط حتى لا يشذ عنه المستعمل الكلام في اللغات”[4].
ويقول سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي في مراقي السعود في شروط المجتهد:”والنحو والميزان واللغة مع علم الأصول والبلاغة جمع”[5]. أما الشاطبي فقد قال في شروط المجتهد:”وأما الثاني من المطالب وهو فرض علم تتوقف صحة الاجتهاد عليه فإن كان ثم علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو لا بد مضطر إليه لأنه إذا فرض كذلك لم يكن في العادة الوصول إلى درجة الاجتهاد دونه فلابد من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر إلا أن هذا العلم مبهم في الجملة فيسأل عن تعينه وإلا قرب في العلوم إلى أن يكون علم المعاني ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ ومعان كيف تصورت ما عدا علم الغريب والتصريف المسمى بالفعل وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية فإن هذا ليس يفتقر إليه هنا وإن كان العلم به كمالاً في العلم العربية، وبيان تعيين هذا العلم ما تقدم في كتاب المقاصد من أن الشريعة عربية وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز فإذا فرضنا مبتدأ في فهم العربية فهو مبتديء في فهم الشريعة أو متوسطاً فهو متوسط في فهم الشريعة والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقص من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة ولا كان قوله فيها مقبولاً، فلا بد أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والخزمي والمازني ومن سواهم، وقد قال الجرمي أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه، ووجه الشاطبي ذلك بأنه كان صاحب حديث وكتاب سيبويه يهديه إلى مقاصد العرب وإنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، وأطال الشاطبي – رحمه الله – في عرض رأيه وعرج على كلام الغزالي فتأوله على نحو ما يميل إليه من شرط الاجتهاد حيث قال:”وقد قال الغزالي في هذا الشرط أنه القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال حتى يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه وهذا الذي اشترط لا يحصل إلا لمن بلغ في اللغة درجة الاجتهاد.
وناقش قول الغزالي أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وأن يعلم جميع اللغة ويتعمق في النحو قائلاً إنه صحيح إذ أن المقصود تحرير الفهم حتى يضاهي العربي في ذلك المقادير وليس من شرط العربي أن يعرف جميع اللغة ولا أن يستعمل الدقائق وكذلك المجتهد في العربية، فكذلك المجتهد في الشريعة، وأضاف الشاطبي: وربما يفهم بعض الناس أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه في الاجتهاد في العربية فيبني في العربية على التقليد المحض فيأتي في الكلام على مسائل الشريعة بما السكوت أولى به منه، وإن كان مما تعقد عليه الخناصر الجلالة في الدين وعلماً في الأئمة المهتدين، وقد أشار الشافعي في رسالته إلى هذا المعنى، وأن الله خاطب العرب بكتابه بلسانها على ما تعرف من معانيها، ثم ذكر مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن يخاطب بالعام مراداً به ظاهره وبالعام يراد به العام ويدخله الخصوص ويستدل على ذلك ببعض ما يدخله في الكلام وبالعام يراد به الخاص ويعرف بالسياق وبالكلام ينبيء أوله عن آخره وآخره عن أوله وأن تتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة والمعاني الكثيرة بالاسم الواحد ثم قال – يعني الشافعي -:”فمن جهل هذا من لسانها – وبلسانها نزل الكتاب وجاءت السنة – فتكلف ما يجهل بعضه، ومن تكلف ما جهل كانت موافقة الصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان بخطئه غير معذور إذا نطق علم بالفرق بين الصواب والخطأ فيه…هذا قوله وهو الحق الذي لا محيص عنه…”. وختم الشاطبي كلامه بقوله:”فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب بحيث يصير فهم خطابها له غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب[6].
وهذا كلام نفيس لا تجده لغير الشاطبي وقد برهن الشاطبي على رأيه بمقدمتين الأولى أن الشريعة عربية أي: بلغة عربية، الثانية: أن من لم يفهم هذه اللغة حق الفهم لا يمكن أن يكون مجتهداً ويكون مجتهداً في الشريعة يجب أن يبلغ مبلغ الخليل وسيبويه والاخفش ولكنه وهو يحاول توجيه كلام الغزالي تنازل بعض الشيء فسلم مقولة الغزالي أن المجتهد لا يشترط أن يتعمق في اللغة والنحو وأن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وهذا التنازل لا يمثل تراجعاً أو تناقضاً في كلامه بل هو محاولة لفهم الغزالي لإيجاد فهم مشترك معه ولهذا فهو من باب التسليم الجدلي ونرى الشاطبي قبل أن يختم كلامه في هذا المبحث الهام أراد أن يعضد ما ذهب إليه ويؤيده فسرد كلام الشافعي في الرسالة وهو من أقوى الحجج، فالشافعي هو أبو الأصول وهو ملتقى بحري الفقه واللغة.
أما فقها الأحناف فإن بعضهم لا ينص صراحة على الشرط اللغة في الاجتهاد كالبزدوي في أصوله فلم يشترطه إلا أن شارحه علاء الدين البخاري في كتابه كشف الأسرار اشترطه فقال:”الثاني معرفة اللغة والنحو ويختص فائدته بالكتاب والسنة ونعني به القدر الذي يفهم به الخطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وفحواه ومنظومه ومفهومه ولا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في التحويل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستدل به على مواقع الخطاب ودرك دقائق المقاصد فيه”[7].
الهوامش والمراجع
[1] – البرهان للإمام الحرمين، ج2 ص1330-1331.
[2] – منهاج الأصول للبيضاوي، ج4 ص551-552.
[3] – منهاج الأصول للبيضاوي، ج4 ص551-552.
[4] – الضياء اللامع، ج3 ص217-218.
[5] – نشر البنود، لسيدي عبد الله الشنقيطي ج3 ص217.
[6] – الموافقات لشاطبي، ج4 ص114- 118.
[7] – كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري، ص16.