حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم
السؤال | |||||||||
ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟ هل يجوز له ان يهنئهم في أعيادهم ومناسباتهم ويعزيهم في اتراحهم ومآسيهم؟ | |||||||||
الجواب: | |||||||||
إن مسألة تهنئة غير المسلمين بأعيادهم الدينية من النوازل القديمة بالجنس ولكنها جديدة بالنوع، حيث غدت أكثر إلحاحا في ظل واقع العولمة ومتغيرات العقود الاجتماعية المعاصرة. وهي مسألة اجتهادية عرية عن النّص، ومع ذلك فقد رام بعض المنتسبين إلى العلم رفعها إلى مرتبة القضايا القطعية بل نحا بها منحى الأمور العقدية. وذلك مظهر من مظاهر الخلل المنهجي الحاصل في بعض الفتاوى المعاصرة، حيث لا تولي اعتبارا لمراتب الأحكام وتحصر النهي في الحرمة وتغفل مرتبة الكراهة التي هي حكم جلّ المسائل المشتبهات. وقضية تهنئة غير المسلمين من هذه المسائل الواقعة في دائرة الاشباه، قال ابن بطال في شرحه لحديث الحلال بين والحرام بين (المشتبهات كل ما تنازعته الأدلة من الكتاب والسنة وتجاذبته المعاني فوجه منه يعضده دليل الحرام ووجه منه يعضده دليل الحلال). قال في مراقي السعود: “وما فيه اشتباه للكراهة انتمى”. وقد قصدت في هذه الفتوى رفع الحرج عن المسلمين وبيان أن الأمر واسع، إعْمالا لقاعدة التيسير التي اعتبرها الإمام الشاطبي من المقاصد الكُلّية للشريعة، وسأُبَيّن بإذن الله عزّ وجلّ أن هذه المسألة فرعية اجتهادية لا ترقى إلى الحرام البيّن بل مدارها بين الإباحة والكراهة للاشتباه, فالقول بأنها من قضايا الاعتقاد والحرام القطعي تقوّل على الشارع. ويكفي دليلا جازما على أن التهنئة مسألة في محل الاجتهاد، لم يرد نص بخصوصها، أن نذكر أن الإمام أحمد رُوي عنه فيها ثلاث روايات: بالتحريم والكراهة والجواز. قال المرداوي في الإنصاف ما نصه : ( قول الأصل: وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم: روايتان: وأطلقهمـا في «الهداية»، و«المذهب»، و«مسبوك الذهب»، و«المستوعب»، و«الخلاصة»، و«الكافي»، و«المغني»، و«الشرح»، و«المحرر»، و«النظم»، و«شرح» ابن منجا. إحداهمـا: يحرم وهو المذهب، صححه في «التصحيح»، وجزم به في «الوجيز» وقدمه في الفروع. والرواية الثانية: لا يحرم، فيكره، وقدمه في «الرعاية» و«الحاويين» في باب الجنائز ولم يذكر التحريم. وذكر في «الرعايتين»، و«الحاويين» رواية بعدم الكراهة فيباح، وجزم به ابن عبدوس في «تذكرته». وعنه: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه، اختاره الشيخ تقي الدين، ومعناه: اختيار الآجري وأن قول العلمـاء يعاد ويعرض عليه الإسلام. قلت: هذا هو الصواب، وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلّم صبياً يهودياً كان يخدمه وعرض عليه الإسلام فأسلم([1]). نقل أبو داود: أنه إن كان يريد أن يدعوه إلى الإسلام فنعم.)([2]). ولا وجه للدعوى أن التهنئة بالأعياد الدينية مستثناة من أصل المسألة، إذ لم يرد عن الإمام النص بهذا الاستثناء، والقاعدة الأصولية أن عدم الاستفصال منزل منزلة العموم، قال في “مراقي السعود”:
ومن ثمَّ فإن هذه المسألة غامضة الانتماء لأصل معين، حيث تتجاذبها جملة من العمومات وتتردد بين جملة من الأشباه، فهي مضطربة بين نصوص محذرة مثل تلك النصوص النّاهية عن التولّي والموالاة، وبين نصوص أخرى مرغّبة مثل النصوص الآمرة بالبر والقسط والإقساط، والمخالقة بالخلق الحسن. كما أنها من حيث القواعد متجاذبة بين قواعد عديدة كقاعدة سدّ الذرائع وقاعدة المصالح المرسلة وقاعدة تحكيم النيات وقاعدة مخاطبة الكفار بالفروع. وتجد نظير هذا التجاذب في كثير من المسائل المشابهة في دائرة الاشتباه. ينبغي التنبه أولا إلى كون هذه الأعياد الدينية أمرها أمر دور العبادة وسائر طقوس غير المسلمين المسالمين، في إقرار الإسلام أهلها عليها، حيث لم يلزمهم بالتخلي عنها ونهى المسلمين عن التعرض لها، كما جاء في العهدة العمرية، بل أكثرُ من ذلك أمَرهم بحمايتها والدفاع عنها، كما نصّ عليه ابنُ القَيِّم ورَجَّحَهُ في “أحكام أهل الذمة”، عند تفسير قوله تعالى (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز)، فقال : ( وَقَالَ الْحَسَنُ: ” يُدْفَعُ عَنْ مُصَلَّيَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُؤْمِنِينَ “. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَاجُ إِلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرَهُ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى الْوَاقِعِ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَمْكِنَةِ – غَيْرَ الْمَسَاجِدِ – مَحْبُوبَةً مَرْضِيَّةً لَهُ، لَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا دَفْعُهُ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ هَذِهِ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي كَانَتْ مَحْبُوبَةً لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ مِنْهَا مَا أَقَرَّ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْخُوطَةً لَهُ كَمَا أَقَرَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ وَيَمْقُتُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ مَعَ بُغْضِهِ لَهُمْ. وَهَكَذَا يَدْفَعُ عَنْ مَوَاضِعِ مُتَعَبَّدَاتِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، وَهُوَ سُبْحَانُهُ يَدْفَعُ عَنْ مُتَعَبَّدَاتِهِمُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، فَهُوَ يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهَا، كَمَا يُحِبُّ الدَّفْعَ عَنْ أَرْبَابِهَا وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُهُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي ” تَفْسِيرِهِ “: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ – هُوَ ابْنُ مُوسَى – عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} [الحج: 40] قَالَ: الصَّوَامِعُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الرُّهْبَانُ، وَالْبِيَعُ مَسَاجِدُ الْيَهُودِ، وَالصَّلَوَاتُ كَنَائِسُ النَّصَارَى، وَالْمَسَاجِدُ مَسَاجِدُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَأَخْبَرَنَا الْأَشَجُّ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج: 40] قَالَ: صَوَامِعُ وَإِنْ كَانَ يُشْرَكُ بِهِ! وَفِي لَفْظٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُذْكَرَ وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ.) ( أحكام أهل الذمة، ص 1169). وإلى هذا القول ذهب ابن عاشور في تفسيره حيث قال إن في الآية (تنويها بهذا الدفاع والمتولين له بأنه دفاع عن الحق والدين ينتفع به جميع أهل أديان التوحيد من اليهود والنصارى والمسلمين وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة). (التحرير والتنوير ج 17 ص 200). ونظرا لكون دور عبادتهم مما أقرهم الإسلام عليه، رجّح القاضي أبو يعلى في المجرّد جواز الوصية ب”بحُصر للبِيَعِ أو قناديل وما شاكل ذلك، إذا لم يقصد إعظامها بذلك، لأن الوصية لأهل الذمة فإن النفع يعود إليهم والوصية لهم صحيحة” (أحكام أهل الذمة ص 610). ومن هنا ندرك الفرق بين التهنئة في أعيادهم التي أقرهم الشارع على الاحتفال بها، وبين ما جاء في كلام ابن القيم، وهو كلام قد يكون يشير إلى وضع خاص، وإلا كيف يتأتى أن نشَبّه شيئا أذن الشارع به للمُهَنَّإِ بقتل النفس وارتكاب الفاحشة وهي أمور لا يؤذن بها في شرعنا ولا في شرعهم. وقد نُقل عن الإمام مالك روايتين بالكراهة والجواز في مسألة كراء المراكب للنصارى وبيع الذبائح لهم في أعيادهم. وصحّح ابن رشد عنه وعن تلميذه ابن القاسم الكراهة نافيا رواية التحريم معلّلا هذا القول بعلتين: الأولى أن الشريعة أقرتهم على شرائعهم والثانية أنهم ليسوا مخاطبين بالفروع، جاء في البيان والتحصيل : (وسُئل مالكٌ في بيع الجَزْرَة([3]) من النصراني وهو يعلمُ أنّه يريدها للذبح لأعيادهم في كنائسهم، فكره ذلك، فقيل له: أيُكرَوْنَ الدوابَّ والسفن إلى أعيادهم. فقال: يتجنبه أحب إليَّ، وسُئل ابن القاسم عن الكراء فقال: ما أعلمه حراماً وتركه أحبّ إليَّ. قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا: إن ذلك مكروه وليس بحرام؛ لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم والتجارة معهم وإقرارَهم ذمّةً للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم في الإقامة لأعيادهم، إلاّ أنه يكره للمسلم أن يكون عوناً لهم على ذلك، فرأى مالك هذا على هذه الرواية من العَوْن لهم على أعيادهم، فكرهه، وقد رُوي عنه إجازةُ ذلك، وهو على القول بأنهم غيرُ مخاطبين بالشرائع([4])). وتخريج ابن رشد للمسالة على القاعدة الأصلية الخلافية بعدم مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، تبعه عليه الزقاق في المنهج المنتخب قائلا: هل خوطبَ الكفار بالفروع عليه كالوطء لذي الرجوع والغسل والكرا وإحداد طلاق وغرم كالخمر وتحليل عتاق يعني بقوله ” والكرا” كراء الدّابة لكافر في عيده ليركبها ([5]). وذكر الونشريسي في قواعده الخلاف في أنهم مخاطبون بالفروع وذلك في القاعدة (68)، وأصلها للقرافي في الفروق والمقري في القواعد: وذكر مِنْ فروع هذه القاعدة إكراء الدابّة للنصارى ليركبوها لأعيادهم، وبيع الشاة لعيدهم. ونقل الونشريسي عن ابن العربي: أنه لا خلاف في مذهب مالك أنهم مخاطبون، إلاّ أنّ أبا بكر بن العربي قال: والصحيح جوازُ معاملتهم، مع رباهم، واقتحام ما حرَّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع في ذلك قرآناً وسُنَّةً، فقد قال الله تعالى( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ) وهذا نص. وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود. ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله.([6]). وقد قال ابن رشد في (البيان والتحصيل) عند تعليله قول مالك بأن معاملة المرابي المسلم أعظمُ من معاملة المرابي النصراني: وذلك من أجل أنه غيرُ مخاطب بالشرائع على الصحيح من الأقوال ([7]). ولعل من ما يرجّح القول بعدم مخاطبتهم بالفروع ما صحَّ في البخاري عن عبد اللَّه بن عمر أنَّ عمر بن الخطَّاب رأَى حُلَّةً سيراءَ عنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا حُلَلٌ فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا حُلَّةً فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ (اسم البائع) مَا قُلْتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا “. ومما يشبه مسألة كراء الدواب لهم، ما ذهب إليه الشافعية من جواز إيجار الذمي على كنس المسجد، وما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز إجارة العقارات إليهم في السواد لاتخاذها أماكن للعبادة. وجاء في الحطاب عند قول خليل” وكذا ما ذبح لعيده أو عيده أو لجبريل”: ( قال في التوضيح عن ابن الموّاز: كرهه مالك، أنه خاف أن يكون داخلا في عموم قوله تعالى: (وما أهلَّ لغير الله به) ولم يُحَرّمه لعموم قوله تعالى : (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم)، وأما الذبح للأصنام فلا خلاف في تحريمه لأنه مما أهل به لغير الله به…وهذا والله أعلمُ هو الفرق بين ما ذبح للأصنام وبين ما ذبح لعيسى لأن ما يذبحونه للأصنام يقصدون به التقرّب إليها، وما ذبح لعيسى أو لصليب أو نحوهما إنما يقصدون به انتفاعها بذلك، والله أعلم).[8] ومن القواعد الحاكمة في المسألة قاعدة المصالح والمفاسد، وبها رجّح ابن تيمية – كما تقدّم – جواز تهئنتهم وتعزيتهم عيادة مرضاهم ، وقال: يجوز أن يقول لغير المسلم أهلا وسهلا([9]). قال التتائي المالكي: ويجوز تكنية الكافر والفاسق إذا لم يعرف إلا بها أو خيف من ذكره باسمه فتنة. وذكر العوفي أنه لا تحرم مخاطبة الذمي بمعلم ونحوه إذا لم يقصد تعظيمه وخالفه الشيخ يس قائلا: لا يجوز تعظيمه إلا لضرورة([10]). وقد أسس على قاعدة المصالح الراجحة ابنُ تيمية ضوابط ومعايير في المعاملة مع الكفار في دارهم بجواز موافقتهم في سلوكهم الظاهر مما ليس مخالفا للدين ولا هادما لركن من أركانه. فبعد أن قرر أن المخالفة لهم ـــــ للكفار ـــــ لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه، قال: (ومثل ذلك اليوم: لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مـأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لمـا فيه من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والإطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة)([11]). على أن قاعدة المخالفة التي أفاض فيها ابن تيمية ليست أصلا من أصول الاعتقاد، ولم يقره عليها العلماء، وإنما الضابط في جميع معاملتهم هو عدم منافاة الشرع، فقد نبه الزرقاني على أن وجوب ترك شعار الكفر إنمـا هو فيمـا يحرم علينا. ونقل عازياً للعز بن عبدالسلام أنّ: زيّ الفقهاء إذا صار شعاراً لهم ينبغي أن يلتزموه، وليس كل ما فعلته الجاهلية منهياً عن ملابسته؛ بل ما خالف فيه شرعنا بالنهي عنه. قال بعضهم: ومن هذا المعنى –أي ما وافق الجاهلية ولم يرد نهي شرعنا عنه: صلة الناس أرحامهم في المباحات في النيروز والمهرجان.[12] قلت: يوضح ذلك أن أموراً كانت في الجاهلية وأصبحت مطلوبة في الإسلام؛ كالعقيقة وأموراً كان أهل الجاهلية لا يجيزونها؛ ككسر عظام العقيقة، وأجازها الإسلام ولم يوجب كسرها، وكذلك فإن العتيرة ـــ وهي الرجبية الشاة التي كان أهل الجاهلية يذبحونها لأصنامهم في أول رجب ــــ جائزة عند أحمد مكروهة عند مـالك إذا ذبحها الإنسان لنفسه دون التقرب إلى صنم([13]). وكذلك الفرع أول نتاج الإبل والغنم كانوا يذبحونها لآلهتهم إذا عرت عن التقرب إلى الآلهة جائزة. والنكتة في كل ذلك: أن المشابهة غير التشبه المنهي عنه، ففي «حاشية» ابن عابدين: (قال هشام: رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفين بمسامير، فقلت: أترى بهذا الحديد بأسا، قال لا، قلتُ سفيانُ وثور بن يزيد كرها ذلك لأن فيه تشبها بالرهبان، فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس النعالَ التي لها شعر، وإنها من لباس الرهبان، قال ابن عابدين: فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا يَضُرُّ)([14]). وأغلب المحرمين للتهنئة إنما أجاءهم إلى ذلك سدُّ الذريعة دون تعظيم شعائر الشرك، وقد اتفق أهل العلم على أن محرمات الوسائل تبيحها الحاجة، قال ابن القيم (وما حرّم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة)، وكرّر ابن رشد في مسائل من ممنوعات الذرائع أن الفاعل ليس بآثم. لا سيما أن التعظيم المحترز منه أمر قلبيٌّ، موكول إلى صاحبه، فالنية لصاحبها، وعندما يعلم المرءُ من نفسه أنه لا يقصد تعظيم الكفر، لا يكون آثما، ولا يجوز التقوّل عليه، فالأصل في الإنسان المكلّف أن يحمل في نيته على السلامة، قال الزقاق في المنهج: (والإذن لا العدا) قال شارحه نقلا عن التبصرة: (قال ابن لبابة : والمسلمون في دعوى الغصب والعداءِ محمولون على العافية حتى يثبت خلافها). فلا بدّ من مراعاة “تحكيم النيات”، فإنما لكل امرئ ما نوى، وحمل المسلمين على أحسن المخارج خير من اتهام النيات واختراع اللوازم التي لا تلزم، ومعلوم أن ليس من شأن المسلمين الذين يهنئون غير المسلمين من جيرانهم وزملائهم أنهم لا يقصدون إلى تعظيم معتقداتهم الكفرية وإنما هي كلمات مجاملة من باب التآلف والتوادد المشروعين الجاريين على قاعدة البر والقسط والإقساط مع المسالمين وهي قاعدة حاكمة في باب العلاقات الإنسانية وحسن التعامل، أصلته آية سورة الممتحنة الممتحنة ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾([15])، والبر والقسط همـا غاية حسن التعامل، ففي مسند الطيالسي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسمـاء بنت أبي بكر قالت: «يا رسول الله إِنَّ أُمي أَتَتْنِي فِي عَهْدِ قُرَيْشِ وهْيَ رَاغِبَةٌ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِى أُمكِ»([16]). وحديث الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُ مـا كُنْتَ وَأَتْبعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَــمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». بل قد تكون التهنئة أحيانا من باب الرد بأحسن، وهو من أصول المعاملات الإسلامية، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله برد التحية كاملة على غير المسلم مع اشتمالها على اسمه تعالى السلام، مخالفا بذلك المذاهب الأربعة. فالأمر واسع في التهنئة، من رأى التهنئة لقصد محمود، فإنه لم يرتكب محرما ولم يخرج على دينه، كما أنه لا تثريب على من سلك مهيع الورع، على أن لا يحمل الناس بالإنكار على ما اختار لنفسه، ولا يدخل عليهم حرجا ولا عنتا في دينهم. ومقصد الألفة بين المسلمين والأخوة مقدم على الخلاف في أمر جزئيّ لا نص فيه ولا إجماع، وللاجتهاد فيه مساغ. … ([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمـات، هل يُصَلَّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام، ح(1356)، (2/94) عن أنسI. ([2]) المرداوي في الإنصاف (4/221). ([3]) الجزرة هي: الواحدة من الإبل ـ انظر المصباح المنير (جزر). ([4]) البيان والتحصيل 3 /276، دار الغرب الإسلامي، بيروت، سنة 1406هـ. ([5]) المنجور شرح المنهج ص 261. ([7]) انظر: البيان والتحصيل 18/514، دار الغرب الإسلامي، بيروت، سنة 1406هـ. [8] الحطاب في مواهب الجليل ( 3/ 213-214). ([9]) المرداوي في الإنصاف (4/221). ([10]) يراجع الزرقاني (3/146). ([11]) ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم(176-177). [12] – الزرقاني شرح مختصر خليل 1/180 ([13]) يراجع الزرقاني (3/47)، والتوضيح الجامع بين المقنع والتنقيح. ([14]) ابن عابدين في رد المحتار(1/419). ([16]) – اللفظ له، وهو في الصحيحين، البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب “الهدية للمشركين” (ح2620) ومسلم، كتاب الزكاة، باب “فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين” (ح1003)، (2/696). …. |