ما هو ضابط “الضرر” على القول المفتى به عند المالكية؟
السؤال | |
ما هو ضابط “الضرر” على القول المفتى به عند المالكية؟ |
|
الجواب | |
الجواب: إنَّ الضرر كلي مشكك وهو الذي لا يستوي في أحواله ولا مَحَاله بمعنى أنَّ معناه ومدلوله أشد ظهوراً وبروزاً في بعض آحاده وليس متواطئا، ولهذا السبب فإنّ ضبط الضرر فيه عسر. فمن حيث اللغة فإن الضرر: اسم من الضر، وهو النقصان يدخل على الشيء، تقول دخل عليه ضرر في ماله، والضرر الضيق. وقد ورد في الشرع بصيغة الكلي “لا ضرر ولا ضرار”. ([1]) وهي كليةٌ سالبةٌ بنى عليها الفقهاء كليةً موجبةً “الضرر يزال”. وهذه القاعدة مستنبطة من القرآن الكريم استقراء ومن السنة نصاً، ومن الاجماع نقلاً، قال القاضي أبوبكر ابن العربي: والضرر لا يحل بإجماع”. {أحكام القرآن 1/628} ومن حيث المذهب فإن مالكاً رحمه الله تعالى يقول: وليس عندنا في قلة الضرر وكثرته شيء معروف. كما نقل علي بن عبدالسلام التسولي في “البهجة شرح التحفة”([2]). قال التاودي بن سوده في شرحه “حلى المعاصم” وهو يصور كيفية شهادة الشهود: إن فلاناً يضرب زوجته فلانة بضرب أو شتم في غير حق أو تجويع أو عدم كلام أو نحو ذلك مما يقضى العرف أنه ضرر، قال مالك: وليس عندي في ذلك شيء معروف.{1/541} وهذا لا يعني أنه لا فرق بين شديد وخفيف ولا بين قوي وضعيف، إلا أن ذلك مُحَال إلى العرف كالكثير من الكليات الشرعية. وهو يدل على أنه في أصل المذهب لا حد له ولا ينضبط ألا بالاجتهاد العرفي إلا أن علماء المذهب حاولوا ضبطه من خلال الأمثلة. فقد مثل له الشراح ومن أقدم الأمثلة التي ذكروا كلام صاحب السليمانية -وهو تلميذ سحنون- وفيه تحويل الوجه، وبعد ذلك اختلفوا في ضرورة تكرار الضرر أو الاكتفاء بالمرة الواحدة. فقال المواق عند قول خليل (ولها التطليق بالضرر ولو لم تشهد البينة بتكرره): قال ابن سلمون: إذا ثبت للمرأة أن زوجها يضربها وهي في عصمته فقيل لها أن تطلق نفسها كما تفعل إذا كان ذلك شرطا . وقيل : ليس لها أن تطلق نفسها حتى يشهد بتكرر الضرر . انظر بعد هذا قول مالك: من باع زوجته طلقت عليه. وانظر إذا كان لها شرط في الضرر . قال في السليمانية : إذا قطع الرجل كلامه عن زوجته أو حول وجهه عنها في فراشها، فذلك من الضرر بها ولها الأخذ بشرطها . وقال المتيطي : إذا ثبت أنه يضر بزوجه وليس لها شرط، فقيل إن لها أن تطلق نفسها وإن لم تشهد البينة بتكرار الضرر ([3]) وقال الدسوقي إنها إن شهدت أنه حصل لها مرة واحدة، فلها التطليق بها على المشهور([4]). ويقول العدوي: “الضرر المعهود الذي لها التطليق به، كأن ينقصها حقها في النفقة أو يكلفها شغلا لا يلزمها خدمته أو يشتمها أو يضربها ضربا مبرحا أو لغير أدب احترازا من غيره، كما إذا أدبها على ترك الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة”([5])؛ ولأن الضرر بالزوجة مخالف للمقصود من النكاح وهو الألفة وحسن العشرة، والنكاح من عقود الأبدان، وهي لا تتم إلا بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر؛ فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه، وكانت المصلحة في الفرقة([6]). وقال الدردير: وهو ما لا يجوز فعله شرعا من هجرها بلا موجب شرعي وقطع الكلام عنها وتولية وجهه عنها في الفراش وضربها أو سبها أو سب أبيها, نحو يا بنت الكلب يا بنت الكافر يا بنت الملعون . وكوطئها في دبرها([7]). قلت: وما درج عليه خليل وشروحه من القول بالتطليق بالضرر في المرة الواحدة ليس على إطلاقه لوجود فرق بين الضرر القوي الذي تكفي فيه المرة الواحدة كالضرب المبرح أو المثلة كحلق رأسها، وبين الضرر الخفيف الذي لا يخلو منه الأزواج كالمشاتمة. وقد نبه على ذلك علي بن عبد السلام التسولي في “البهجة في شرح التحفة” حيث قال: الثَّالث: لا بُد من تكرار الضَّرَر حيث كان أمراً خفيفاً فإِنْ كان ضرباً فاحشاً كان لها التَّطْلِيق به ولو لم يتكرَّر كما مر أول الفصل عن المُتَيْطِيَّة وقول(خَ) ولها التَّطْلِيق بالضَّرر ولو لم تشهد البَيِّنَة بتكرره لا يعول عليه، بل لا بُدّ من التّكرار حيثُ كان خفيفاً كما مرّ. ولذا قال بعضهم: هو على حذف الصّفة أي: ولها التَّطْلِيق بالضَّرر البين أي الفاحش، والقول الثَّاني: في النّظم صريح في اشْتِرَاط التكرير إلَّا أن ظاهره أنه لا بُد من الزّجر والتكرار ولو كان بيناً فاحشاً وليس كذلك كما في النَّقل. قال ابن عبد الصَّادق المذكور مُعترضًا على ظاهر لفظ(خَ) ما نصه: والعجب كيف تطلق المرأَة نفسهَا بالمرة الواحدة من تحويل وجهه عنها وقطع كلامه ومشاتمته إلى غير ذلك ممَّا عدوه من الضَّرر بالمرة الواحدة إِذْ لا يخلُو عنه الأزواج مع أن مسائل مبنيَّة على ثُبُوت التّكرار كالسكنى بين قوم صالحين وبعث الحكمين واختبارهما أمور الزَّوجين المرة بعد المرة قال: وَقد نزلت فاحتج بعض المفتينَ بظاهر(خَ) وخالفه غيره فعظم الأمر حتَّى وصل إلى أمير الوقت فحكم بأنَّه لا بُد من التّكرار[8]. فما ذكروه من “تحويل الوجه” الذي لاحظتم غير مسلّم لهم إلا لقوم عادتهم تستقبح ذلك استقباحا شديدا أو لكون المرأة شريفة ونحو ذلك. ولهذا فقد أنكر ابن عبد الصادق الاكتفاء بالمرة الواحدة في مثل هذا النوع، كما مر. قلت: والفيصل في كل هذا هو العرف الذي يجب على القاضي أو من يقوم مقامه أن يحقق المناط من خلاله ليفرق بين ضرر شديد لا يشترط تكراره وبين ضرر متوسط أو خفيف. إذ يقول القرافي في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”[9]. ولهذا يمكن أن يكون الضابط في الضرر الموجب للتطليق على الزوج هو: كل أذى ظاهرٍ يلحق الزوجة في دينها أو بدنها أو عرضها أو مالها أو حق من حقوقها الثابتة لها بالشرع أو بالشرط أو بالعرف –حسب تقدير القاضي أو من يقوم مقامه- فإنه يخولها حق التطليق. ثم الزوجة إذا حصل الأذى الظاهر وأرادت الطلاق، تكون طلقة واحدة بائنة([10])؛ لوجهين: أحدهما كلي، والآخر معنوي. أما الكلي فكل طلاق يحكم به الحاكم فإنه بائن، سوى ما استثني من طلاق لإيلاء أو عسر بالنفقة. الثاني: أن المعنى الذي لأجله وقع الطلاق هو الضرر، ولو شرعت فيه الرجعة لعاد الضرر، كما كان أول دفعه، فلم يكن ذلك يفيد شيئا؛ فامتنعت الرجعة لأجله. كما قال القاضي ابن العربي في مسائل الشقاق. ([11]). ثانيا: وللرد على الأسئلة الخمسة المتعلقة بالشقاق وبعث الحكمين ينبغي أن نقدم بمقدمة عن حالة الشقاق بين الزوجين وهي تنحصر في ثلاث حالات: الأولى: أن يكون النشوز منها فيعظها، فإن هي قبلت، وإلا هجرها، فإن هي قبلت، وإلا ضربها ضرباً غير مخوف. فإن غلب على ظنه أنها لا تترك النشوز إلا بضرب مخوف لم يجز تعزيرها أصلاً. أو ظن أنه لا يفيد فلا يكون مشروعاً قال خليل:”إنْ ظن إفادته”. الحالة الثانية: أن يكون العدوان منه بالضرب والإيذاء، فيزجر عن ذلك، ويجبر على العود إلى العدل، وإلا طلقت بالضرر كما أسلفنا. الحالة الثالثة: أن يشكل الأمر، وقد ساء ما بينهما، وتفاقم أمرهما، وتكررت شكواهما ، ولا بينة مع واحد منهما على الضرر، ولم يقدر على الإصلاح بينهما، فيبعث من جهة الحاكم أو من جهة الزوجين، أو من يلي عليهما حكمان لينظرا في أمرهما([12]) . قال المواق([13]) : “وعبارة اللخمي : إذا اختلف الزوجان وخرجا إلى ما لا يحل من المشاتمة والوثوب كان على السلطان أن يبعث حكمين ينظران في أمرهما , وإن لم يرتفعا ويطلبا ذلك منه. فلا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المآثم وفساد الدين. ونص الوثيقة عند المتيطي : وسألهما إقامة البينة على ما زعماه من الإضرار فذكرا أن لا بينة لهما وأشكل عليه من المضر بصاحبه منهما فدعاهما إلى الصلح فأبياه، فلم يكن بد من توجه الحكمين”. وقال الباجي: والأصل في بعثة الحكمين قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] ذهب جمهور العلماء إلى أن المخاطب بقوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الحكام([14])
([1]) رواه أبو نعيم في الحلية “9/76” ورواه مالك في الموطأ كتاب الأقضية باب القضاء في المرفق وبرقم “31”. وابن ماجه في كتاب الأحكام باب من بني في ما يضر بجاره وبرقم “2340” وبرقم “2341” – أخرجه الدار قطني والحاكم قائلا: إنه صحيح على شرط مسلم. والبيهقي وغيرهم من طرق مختلفة يقوي بعضها بعضاً كما يقول النووي. ([2]) التسولي “البهجة شرح التحفة” 1/ ([3]) التاج والإكليل للمواق 4/17. ([4]) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/345. ([5]) حاشية العدوي على كفاية الطالب 2/113. ([6]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/541. ([7]) الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي 2/345. [8] – التسولي البهجة شرح التحفة 1/ 548 [9] – القرافي الفروق 1/176- 177 ([10]) انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 2/345. ([11]) أحكام القرآن لابن العربي 1/142. ومختصر خليل ص134 ([12]) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس 2/158. دراسة وتحقيق: أ. الدكتور حميد بن محمد لحمر. |