معالم وضوابط التواصل مع الآخر ووسائله وآلياته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
ورقة معالي الشيخ عبد الله بن بيــّه المقدمة إلى مؤتمر
نحن… والآخر” بدولة الكويت 6-8 مارس 2006 م
بناء على دعوة كريمة من وزارة الأوقاف الموقرة والتي تضمنت طلب بحث حول ” معالم وضوابط التواصل مع الآخر ووسائله وآلياته”. وبعد تقديم واجب الشكر والدعاء بالمثوبة والأجر لصاحب الدعوة يطيب لي أن أُقدم هذا البحث الذي سيكون في مقدمة وفصلين وخاتمة:
– أما المقدمة فإنها تؤكد على ضرورة البحث عن أسس للتواصل.
– بينما يكون الفصل الأول عن معالم وضوابط التواصل.
– والفصل الثاني عن الوسائل والآليات.
– ثم خاتمة هي خلاصة البحث.
مقدمة:
هل هناك ضرورة للبحث عن أسس التواصل ؟
إن التواصل هو تفاعل بين اثنين فأكثر فهو إقامة صلة مادية أو معنوية وهو باللغة الأجنبية Communication وتستعمل في حقيقتها الأولى لإقامة علاقة مع شخص ما. وقد نبه الكاتب الفرنسي دومينك ولتون في كتابه “العولمة الأخرى” إلى أن الإعلام مثلاً ليس هو التواصل قائلاً: أميز جيداً مصطلح أعلم: أخبر عن مصطلح تواصل لأن عولمة الإعلام توصلت إلى إعلام الناس بالأخبار لكنها لم تجعلهم يتواصلون ليتفاهموا بشكل أفضل”.
إن الإعلام بالتأكيد أداة من أدوات التواصل التي من أهمها الحوار الذي أصبح ضرورة وواجبا مقدساً فقد بلغ السيل الزبى فإذا كان التواصل يفترض وجود إشكاليات يراد التغلب عليها أو عقبات يرجى تجاوزها أو سوء فهم تُحاول إزالته فإن الجواب لا بد أن يكون إيجابياً والتواصل ضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط لوجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة يضاف إليه حوادث عارضة تتهم فيها أطراف تنتمى إلى الإسلام على الرغم من أنها تتم بدون استشارة ولا إشارة من الغالبية العظمى من المسلمين.
وهكذا انضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة
فما هو أصل سوء الفهم هذا أو سوء الظن ذلك ؟
فلنقل أولاً: إن الاحتكاك طبيعي بين الجيران وهذا الاحتكاك قد يتحول إلى معارك حول “البحيرة” البحر الأبيض فكان كل من الجيران يجتاز البحر هذا الحاجز المائي أو الواصل المائي إلى الضفة الأخرى فكان ما قدره بعض الباحثين بـ 3000 معركة كبرى.
إذ أن ظهور الإسلام في القرن السابع كقوة -حضارية وروحية وإمبراطورية – عازلة بين أوربا وإفريقيا وتخوم آسيا وما تلا ذلك من أحداث امتدت فصولها عبر قرون بدأت بفتح الشام وباقتطاع جنوب المتوسط عن الإمبراطورية الرومانية والاستيلاء على الأندلس وفتح القسطينطنية جعلت الإسلام يشار إليه في الغرب بأنه العدو الأكبر والعدو اللدود الذي يجب القضاء عليه بكل السبل العسكرية والثقافية واستعمال أسلحة السب والتشهير ووجدت تلك الألفاظ البذيئة والصفات المقيتة طريقها إلى ما يسمى “بالكتاب التنويريين” من أمثال دانتي وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم ليكرسوا صورة نمطية سيئة للإسلام والمسلمين.
وهكذا نشبت الحروب الصليبية و”الاستردادية” بعد نداء البابا اوربان 1059م.
ولم يكن سقوط الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر وتراجع الجيش التركي عند أسوار فيينا 1683م إلا بداية للمد الاستعماري الغربي وبقية القصة معروفة وقد انتهت بإنشاء دولة إسرائيل في قلب العالم العربي.
وهناك سبب آخر انتبه له بعض الكتاب الغربيين – مارسل بوزار- وسماه بعقدة الأقارب باعتبار أن الأقارب هم أقل الناس تفاهما فالمسيحي يجد في الإسلام أشياء كثيرة تذكر بدينه وأفكارا قريبة جدا من أفكاره .
فإذا كان المسيحيون أظهروا تسامحا إزاء الأديان السابقة أنبياء اليهود فقد قابلوا الإسلام الذي ظهر لاحقا بالرفض المطلق فقد اعتبروه انحرافا للنصرانية وقد كانوا يظنون أن بإمكانهم تشويه الإسلام و انشأوا لذلك الاستشراق الذي كان يحاول أن يعرف الإسلام معرفة جيدة ليحاربه محاربة جيدة كما يقول بوزار. وإذا كنا في شك من النوايا المبيتة ضد الإسلام في الدراسات الاستشراقية فما علينا إلا أن نراجع خطاب أرنست رينان الذي ألقاه في كوليج دي فرانس في 23فبراير1862حيث يقول: في هذا الوقت المناسب إن الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الإنشاء هو تدمير كل ماله علاقة بالسامية ألحقة تدمير سلطة الإسلام التيوقراطية لان الإسلام لا يستطيع أن يعتبر إلا كدين رسمي وعندما يختزل إلى وضع دين فردي فإنه سينقرض هذه الحرب الدائمة الحرب التي لن تتوقف إلا عند ما يموت آخر أولاد إسماعيل بؤسا أو يرغمه الإرهاب علي أن ينتبذ في الصحراء مكاناً قصياً .
إن الإسلام هو التعصب إن الإسلام هو احتقار العلم ،هو القضاء على المجتمع المدني,انه سذاجة الفكر السامي المرعبة, إنه يضيق الفكر الإنساني, يغلقه دون كل فكرة دقيقة, دون كل عاطفة لطيفة, ودون كل بحث عقلاني .. إلى آخر كلامه.
إنه تصريح لا يحتاج إلى تفسير وإن كل تعقيب من شأنه إضعاف النص كما يقول المستشرق الفرنسي المنصف فنسان مونتاي (يراجع كتاب الإسلام اليوم-منشورات اليونسكو)
ومع الأسف فإن رواسب هذا الحقد أو”الجهل” لنسميه باسمه مازالت في الكتب المدرسية في الغرب لتُلقِن الأجيال دائما تلك الصورة المشوهة عن الإسلام وهكذا فإن لجنة من جمعية دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة أبرزت الأخطاء التي تتضمنها الكتب المدرسية في الوقائع المتعلقة بالإسلام والمسلمين والعرب يراجع هذا التقرير فهو لا يحتاج إلى تعليق .
فالإسلام قلما يقدم كإحدى ديانات التوحيد الكبرى
وكذلك أجريت دراسة في فرنسا فأظهرت نتائج مزعجة وتحاول بعض التعديلات التربوية أن تعالج السببين الرئيسين لتشويه الإسلام وهما النسيان أو التناسي وتكرار القوالب المغلوطة وكذلك الصورة في وسائل الإعلام. – يراجع “الإسلام اليوم”.
كما أن أعمالاً مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص ينتمون إلى الإسلام – إذا صح أنهم قاموا بها- دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية تضاعف من سوء الفهم لتوصله إلى الذروة وتخرج نظريات السوء من خزائن كهان الفتن إلى ذرى المنابر السياسية لتتحول إلى مكاتب وزارات الدفاع فتصبح أساطيل تمخر البحار وطائرات تسبح في الأجواء وصواريخ تتحرى الإطلاق وأصابع على الزناد تزرع الدمار- أطلقت الصواريخ بالفعل وأزهقت الأرواح البريئة والمتهمة في مناطق عدة من العالم الإسلامي ولم تصل القصة إلى نهاية بعد- إذا كانت هذه اللوحة السوداء الحمراء هي التي تبرز الآن فإن الحوار ضروري لإنقاذ أنفسنا وإنقاذ الغرب من نفسه.
إذ الغرب كما يقول المؤرخ توينبى : عرض حياة الآخرين لعدم الاستقرار وأن قوة الغرب عرضت نمط حياته هو نفسه للخطر نظرا لانعدام الكوابح والرقابة اليقظة .
والبلدان الغربية مصممة تصميما شيطانيا- حسب عبارته- على متابعة هذا السياق الفاجع فلم يعد من الوارد أن يعود إليه الوعي لينقذ نفسه من المصير المحتوم وينقذ معه باقي الإنسانية وإذا كان لا بد من إعادة الاستقرار إلى حياة الإنسانية التي جعلها الغرب حائرة وإذا كان لا بد من تخفيف غلواء الديناميكية الغربية لجعلها قوة تهب الحياة لا الدماء فلا بد من البحث عن موجهى هذه الحركة من خارج الغرب. ( حركات التاريخ الكبرى عبر العصور)
ليس من الضروري أن نوافق توينبي على تقويمه للحضارة الغربية لأن الحضارة الغربية ككل حضارة ذات أوجه وألوان وأطياف فهي حضارة التكنولوجيا والعلوم والديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنها في نفس الوقت تلغى حضارة الآخر وتضيق ذرعا بالتنوع الحضاري وأحيانا تحاول فرض توجهها العلماني على الآخر وتكرس اقتصاد السوق على حساب فقراء العالم الثالث فكيف أكون معها أو ضدها ؟
لكن من الأكيد أن كل الحضارات مدعوة للتعاون لإنقاذ البشرية من النزوات الضارة مهما كان مصدرها.
إن الغاية من هذا التواصل هو البحث عن نقاط الالتقاء عن طريق المنطق والعقل والفهم للوصول إلى أرضية مشتركة تعتمد على المصالح المتبادلة تكشف عن زيف رواسب التعصب التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين.
والغاية الأخرى هي المثاقفة والتلاقح الفكري الذي يسمح بالتأثر والتأثير وليحل التسامح محل نظرة الاستعلاء والتفوق لدى قطاع كبير من قادة الفكر في الغرب وهي نظرة تتلخص في إقصاء الآخر كما شرحتها الكاتبة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها ” الغرب والآخر”.
ونتيجة لهذه النظرة الاستعلائية يحاول الغرب جاهداً أن يفرض رؤيته على الآخرين ولا يعترف بحق التنوع والاختلاف ومن لم يقبل بذلك فهو من معسكر الشر لأن العالم ينقسم إلى أخيار وأشرار وعلى هذه الأساس تقوم فكرة صراع الحضارات التي تعتبر الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي لا تزال العصية على الاحتواء الغربي وعلى الحداثة. كما يقول فوكوياما وهو لا يختلف في ذلك عن صاموئل هانتغتون.
إن الإيحاء بحتمية الصدام نتيجة تنوع الحضارات إنما هو دليل على فشل إحدى الحضارتين في أن تدرك أهمية الاعتراف بحق التنوع وهو الحق الذي سيكون أساسا للحوار ووسيلة التعارف.
وهكذا فإن مفهوم التواصل يتقدم ليواجه مفهوم الصدام ولقد اخترعت بعض الدوائر الغربية ما سمته “بالحوار النقدي” مع بعض الدول الأخرى.
فالهدف الأسمى من الحوار والتواصل هو إيجاد خرق في جدار هذا التصور الغالي المتطرف، الذي لن يؤدي إلا إلى تطرف وغلو وصدام، ففي المثل: من يزرع الريح لن يحصد إلا العاصفة.
إن أوضح مثال على هذا التباين هو موقف الكثير من المثقفين في الغرب من الرسوم الرامية إلى الإساءة إلى صورة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنهم إذا لم يؤيدوا الإساءة صراحة فإنهم يمتعضون من رد فعل العالم الإسلامي ويعتبرون أن ما تقوم به الصحيفة أمر طبيعي يدخل في حرية التعبير.
إن عملية التواصل ستحاول تجاوز الحاجز النفسي والثقافي ومد الجسور بين الحضارات لجعل الآخر يفهم البدائل المتاحة عن للصراع الدائم والعقيم في نفس الوقت.
الفصل الأول: معالم التواصل وشروطه.
إن أول معالم التواصل التي يجب أن يركز عليها هو معلم الاعتراف بالاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري الذي لا يعني القطعية بين الحضارات والتقوقع على الذات والفصام بين الحضارات فهناك جوامع بين الحضارات وإنما يعني أن يكون نقطة البداية حتى يكون الطرفان على درجة من الاستعداد النفسي لاستيعاب الاختلاف وتحييد أسباب الصراع ليتحول الاختلاف إلى إثراء وليس إلى عداء ذلك هو الشرط الذي لا غنى عنه.
لهذا فالاختلاف سنة كونية قال تعالى ﴿ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾
قال تعالى﴿ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود… ﴾
إن الاختلاف الذي نؤكد عليه هو اختلاف في القيم والرؤى والأعراف والقوانين والثقافات وأيضا السياسات والمصالح.
وهو أمر يضيق به الكثير من الغربيين ذرعاً ولهذا فعلينا أن نؤكد مشروعيته.
ونبرز بعض نقاط الاختلاف في القيم بين الفكر الإسلامي والحضارة الغربية لأن الاعتراف بها يمثل منطلقاً جيداً للحوار.
لعل أهم نقاط الاختلاف ترجع إلى اختلاف في القيم.
وأهم وثيقة تحظى بالإجماع هي: إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م لم تسلم من تجاهل خصائص الحضارات الأخرى ، وإغفال التنوع الذي يقوم على الخصائص الثقافية ، التي تفترض التعددية في النظم ومن خلال وقفات مع هذه الوثيقة تلمح بعض أوجه الاختلاف مع الغرب.
لنؤكد على حق شعوب العالم الإسلامي في أن تطالب بالتعددية الحضارية ، استنباطاً من قوله تعالى] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [()
فالآية تشير إلى تعددية تمد من فوقها جسور التعارف والتعايش ، وإذا أصر الغرب على العالمية وأصرت الحضارة الإسلامية على العالمية – وهي كذلك حتمًا – وقد اعترف فوكوياما بالصفة العالمية للحضارة الإسلامية في كتابه نهاية التاريخ .
فيمكن للحوار من خلال العالميتين أن يوصلنا إلى شيء من النسبية لهذا سنتعرض لبعض أوجه الاختلاف التي تمثل خلفية الاختلاف القيمي مع الغرب.
أولاً: مصدر الحقوق:
في المادة الأولى : “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلاً وضميرًا” .
ما أصل هذه الكرامة ؟ من هو الفاعل المجهول في وهبوا ؟ لقد سماها الإعلان الفرنسي حقوقًا مدنية ؛ حيث ينص في مقدمته على الآتي : لما كان جهل أو نسيان أو ازدراء حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات قرر ممثلو الشعب الفرنسي المجتمعون في جمعية عمومية عرض الحقوق الطبيعية المقدسة وغير القابلة للتصرف في إعلان مهيب ؛ لكي يبقى هذا الإعلان حاضرًا ، ونصب أعين جميع أعضاء الجسم الاجتماعي فيذكرهم بحقوقهم .
فهكذا اعتبرها حقوقًا طبيعية ومقدسة ولكن من قدسها ؟
ويقول هيكتور جروس إشبيل – وزير خارجية أورجواي الأسبق ورئيس محكمة حقوق الإنسان الأمريكية -: إن الأساس العالمي لهذه الحقوق هو الكرامة الكامنة في الكائنات البشرية”.
من أعطى هذه الكرامة ؟ من أودعها في الإنسان ؟
ذلك ما تجنبه ميثاق حقوق الإنسان العالمي ، بل إنه في المناقشات التي دارت في اللجنة التحضيرية لميثاق حقوق الإنسان رُفضت الإشارةُ إلى الله تعالى وإلى كلمة “الخلق” وما تصرف منها ، كما يقول في مذكراته الأستاذ شارك مالك – الحقوقي اللبناني والعضو في اللجنة التحضيرية لإعلان حقوق الإنسان – حيث كانت النتيجة هي اعتبار الإنسان نفسه مركزيًّا وكأنه هو الله تعالى وتقدس.
أما المرجعية الإسلامية فهي إلهية ، وهذا ما جاء في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه وتعالى : ] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[ () .
ولهذا صرح إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام في المادة الثانية :”الحياة هبة من الله ، وهي مكفولة لكل إنسان”.
هذه الهبة التي وردت في الإعلان العالمي غير مسندة إلى أحد ، فمصدر تعيين الحقوق الكبرى الخمس هو الله سبحانه وتعالى ، بينما المصدر في الإعلان العالمي إنساني ، والمصدر في الإسلام رباني حيث ترجع ثوابت الحقوق إلى الكليات الخمس وتدور في فلكها.
لكن ذلك لا يستبعد دور الإنسان ولكنه يحجمه وبخاصة في مجال الأخلاق والسلوك حيث توجد ثوابت دينية قوية تحدد إطارا حقوقيا وبخاصة في تقسيم الحقوق إلى حق لله تعالى وحق للآدمي ممنوح من البارئ الذي منحه الكرامة (ولقد كرمنا بنى آدم ) بينما في النظرة الغربية التي ترجمها إعلان حقوق الإنسان سنة 1948م ” حقوق الإنسان هي إنسانية فالإنسان هو الذي منح نفسه هذه الحقوق والمادة الأولى من الإعلان تقول: يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلا وضميرا”
ثانياً : وانطلاقًا من ذلك نشأ اختلاف في بعض المفاهيم :
مفهوم الترجيح بين الحق الجمعي أو حق الجماعة وبين حق الفرد :
بينما تبدو النظرة الغربية أكثر ميلاً وترجيحًا لحق الفرد أو مصلحة الفرد تكون النظرة الإسلامية أكثر توازنًا ، فهي تقوم على أساس أن الحرية تساوي المسؤولية ، أي مسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه غيره: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” ،
] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ [() . وإن الفرد ينظر إلى مصالحه ومفاسده من خلال جهته الفردية ومن خلال علاقته بالمجتمع: ] وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [() ، فلا يجوز أن يضر نفسه ، ولا أن يتسبب في ضرر غيره.
وقد شبه r تعسف الفرد في استعمال حقه في الحرية وحق الجماعة في الحد من هذه الحرية لمصلحة الجميع بأصحاب السفينة ، وذلك في الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ؛ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا” () .
إن هذا الحديث يدل على أهمية حق الجماعة وترجيحه على حرية الفرد لصالح الجماعة والفرد معًا ، وإن الحدود الشرعية إنما جاءت لحماية الجماعة والمجتمع .
وكذلك في الحديث : “لا ضرر ولا ضرار” ، ومن القواعد : “دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص” ، و “وارتكاب أخف الضررين” ، “تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة” .
أما النظرة الغربية فإنها أكثر انحيازا إلى الفرد.
ثالثًا: مفهوم النظام العام :
وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام بالمعروف ” ، أو “قاعدة المصلحة” على اختلاف في المدلولين ، وقد أشار إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كشرط من شروط التطبيق الميداني لمقتضيات الإعلان في المادة التاسعة والعشرين : “يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط ؛ لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي”.
وقد فسر القانونيون النظام العام بأنه : أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى ، ولا نستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى ، فهو أمر متغير يضيق ويتسع حسبما يعده الناس في حضارة معينة مصلحة عامة ، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا يتماشى مع كل زمان ومكان ؛ لأن النظام العام شيء نسبي ، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معيارًا مرنًا يكون معيارًا المصلحة العامة ، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى”. هذا ما يراه السنهوري.
إن تعريف السنهوري هو تعريف دقيق للنظام العام من كونه مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى باعتباره راجعًا إلى النظام الأعلى للمجتمع ؛ ولهذا عبر عنه بعض القانونين الغربيين بأنه مبدأ غامض ، وأن هذا الغموض متعمد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلاً ، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخاة .
ويرى السنهوري في كتابه “مصادر الحق” أن النظام العام يرادفه في الفقه الإسلامي “حق الله تعالى” في مقابل الحق الخاص ، وهو حق لا يمكن إسقاطه ولا العفو ، وبني على ذلك كثيرًا من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة .
ومن أمثلة ذلك في الشريعة أنه لا يمكن أن يتنازل عن نسبه لينسب إلى غير
أبيه ، وكل العقود التي يعترض فيها الشرع على إرادة المتعاقدين: كالعقود الربوية ، والعقد على المحرمات : كالخمر ، والخنزير. (1/86 ) .
وسبق أن شرحنا أن النظام العام قد يرادف العرف ، وهذا حيث يوجد فراغ تشريعي ، وهو أكثر “النظام العام” عند الغربيين ؛ ولكنه قد يكون تطبيقا لنص
أو قاعدة ، وحينئذ يكون قريبًا من حق الله تعالى الذي أشار إليه العلامة السنهوري .
وقد أشار القانوني الفرنسي هنري كابتان إلى أن “النظام العام” قد يكون ناشئًا عن مبادئ غير مكتوبة “العرف” ومبادئ مكتوبة ؛ حيث يقول: إن النظام العام هو مجموعة المبادئ المكتوبة وغير المكتوبة ، التي تعتبر في النظام القضائي أساسية ؛ ولهذا فإنها تلغي أثر الإرادة الفردية ومفعول القوانين الأجنبية” .
أما الأستاذ كريستوف فيبيرا فيعرف النظام العام بما يلي: كل مجتمع يلزم أعضاءه باحترام مجموعة تضيق وتتسع من القواعد التي لها الأولوية المطلقة ، والتي يطلق عليها عبارة “النظام العام” ، فكلمة النظام (Ordre) توعز بفكرة التوجيه والأمر والترتيب ، وإضافة العمومي أو العام إليها تبرز أسبقية المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة ( من بحثه النظام العام والمجلس الدستوري ) بالفرنسية .
ويقول كريستوف فينبر أيضا وهو المحاضر في جامعة روان بفرنسا: إن مبدأ النظام العام مبدأ غامض لأنه يختلف بحسب الوقائع والظروف والوضع المجتمعى وأصول وأهداف المجموعة تبعا للفلسفات والأخلاقيات والسياسيات”.
– راجع بحثه القيم في دورية القانون الدستوري تحت عنوان: النظام العام في فقه قضاء المجلس الدستوري -باللغة الفرنسية ”
ولهذا فالنظام العام يختلف بحسب الحضارات والمصالح والأخلاقيات لكل قوم فمن الطبيعي أن يختلف بين الإسلام وبين الحضارة الغربية ولأزيد الأمر وضوحاً أقدم مثالاً هو منع الحكومة البريطانية عرض فيلم يمس شخصية المسيح عليه السلام في بريطانيا بحجة أنه يسئ إلى النظام العام – حماية لمشاعر المسيحيين من الإساءة – وعندما رفعت بعض الجهات المهتمة بحقوق الإنسان دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوربية ضد قرار الحكومة البريطانية باعتبار هذا الحظر منافيا لحق الإنسان في التعبير عن رأيه ونشر رأيه إلى آخر الحقوق المكفولة أصدرت المحكمة قرارها في القضية المعروفة” وفقروف والمملكة المتحدة”أيدت المحكمة موقف الحكومة البريطانية وذلك في 25 نوفبر 1996 لاشتمال الفيلم على الشتم والوقاحة “. يراجع بحث الحقوقي الفرنسي جيل اندريان الأستاذ بكلية الحقوق برانسون تحت عنوان” تألق وفاقة النظام العام الأوربي” باللغة الفرنسية .
ولكن بريطانيا نفسها دافعت عن سلمان رشدي في مفترياته المسيئة إلى مشاعر المسلمين مع ما اشتمل عليه من وقاحة وتفاهة انه منطق النظام العام والاختلاف الحضاري .
وعندما يشير إلى المبادئ غير المكتوبة فإنه يمنح للجهة التي تطبق القانون دورًا كبيرًا في تقدير نظرية “النظام العام” أو خلقها وكذلك للقاضي ؛ وهو ما يجعل النظام العام يدخل في فقه القضاء أو عمل المحاكم .
إن مجموع الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة ، فلو كانت كذلك لأدت إلى فوضى من كل نوع . ومن هنا تبرز فكرة “النظام العام” .
إن وظيفة النظام تنحصر في ثلاثة أمور: كأداة تحديد الحريات هذه هي وظيفتها ، وكمعيار لأهلية السلطات للتدخل ، وكوسيلة لرقابة المجلس الدستوري .
والأمثلة على ذلك من قرارات المجلس الدستوري الفرنسي عديدة ، ومنها قرارات المجلس الدستوري في 25 / 1 / 1985م بصلاحية البرلمان في إعلان حالة الطوارئ في جزر “نوفل كالدوني” ، وهى حالة ليست منصوصة في الدستور ، مع أنها تحد من الحريات الفردية ، وبرر المجلس ذلك بالمحافظة على النظام العام .
ومحكمة حقوق الإنسان الأوربي أيدت قرار السلطات التركية الذي يحظر حزب الرفاه الإسلامي ، وذكرت في حيثياتها أنه يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وذلك مالا يتفق ومنظومة القيم الأوربية ، وبمعنى آخر “النظام العام الغربي” .
وقد أشرنا إلى قرار المحكمة بتأييد حظر الفيلم المسيء إلى المسيح عليه السلام.
والمحكمة في كلتا الحالتين تحترم منظومة القيم الغربية التي تعتبر المسيح u مقدسًا ، وبالتالي فإن التضييق على حرية التعبير مشروع إذا كان يمس بتلك
القدسية ، انطلاقًا من مبدأ النظام العام ، بينما تعتبر شريعة الإسلام غير مقدسة طبقًا لنفس القيم الغربية ، فيجب تضييق نطاق حرية التعبير على من يطالبه بها.
وما موقف كثير من قادة الرأي في الغرب من الرسوم السيئة السمعة ببعيد.
ذلك هو منطق النظام العام الغربي ، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجة التعصب والاستعلاء ، بل نعتبر أن موقفهم ينسجم مع نظرتهم الخاصة ؛ ولكن عليهم أن يحترموا الآخر. وإذا كانوا قد مارسوا حقهم في التعامل مع مبدأ نظامهم العام فلا أقل من أن يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأ ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأ النظام العام ، فلكل أمة نظامها العام ومنظومتها القيمية ، وهكذا فإن مادة ( 27 ) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عندما تنص على تقييد الحريات المنصوص عليها في الإعلان عندما تتعارض مع “النظام العام” وهو يختلف من بيئة إلى بيئة وثقافة إلى ثقافة ، فقد يعتبر ذلك اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.
وعليهم أن يحترموا الآخر المسلم ونظرته إلى الكون والحياة ونظامه العام ومقدساته.
وهناك اختلافات في قوانين الأسرة وفي البيوع والمعاملات وتجريم بعض السلوكيات ترجع إلى اختلاف القيم.
تلك أمثلة عن بعض أوجه الاختلاف القيمي فما ظنك بالاختلاف الناشئ عن العنصرية المبطنة والحقد والكراهية فيما أصبح يعرف بالإسلاموفوبيا وتلك الناشئة عن المصالح بين دول الغرب وبين العالم الإسلامي في استغلال الموارد والاستثمار والتجارة.
إن الاعتراف بالاختلاف يمثل أهم منطلق لحل الخلاف ولعلنا نحتم بهذه الفقرات لفيلسوف غربي: فأفضل ما يعبر عن النسبية واعتماد القيم على البيئة هذه الفقرات لوايتهيد في كتابه مغامرات الأفكار حيث يقول: وتفاصيل هذه المقاييس الخلقية تتعلق بالظروف الاجتماعية الخاصة بالمحيط المرافق للحياة في زمن معين على الجانب الخصب من الصحراء العربية، والحياة على المنحدرات السفلى من جبال الهملايا، والحياة في سهول الصين أو سهول الهند، والحياة في دلتا أي نهر عظيم.
كما أن معني المقاييس متغير وغامض، فهناك مثلاً مفاهيم الملكية والعائلة والزواج والعقل، والله سبحانه وتعالى، فالسلوك الذي ينتج في محيط ما وفي مرحلة ما مقياسه المناسب من الإشباع المتوافق قد يكون في محيط آخر وفي مرحلة أخرى منحطًا انحطاطًا مدمرًا، ولكل مجتمع نمطه الخاص من الكمال وهو يحتمل صعوبات معينة حتمية في مرحلته.
وهكذا فإن المفهوم القائل بوجود مفاهيم تنظيمية معينة مضبوطة ضبطًا كافيًا لإيضاح تفاصيل السلوك لكل الكائنات العاقلة على الأرض، وفي كل كوكب آخر، وفي كل مجموعة شمسية، هو مفهوم يستحق الإهمال، فذلك هو مفهوم نمط واحد من الكمال يهدف إليه الكون كله”. ()
إلا أن هذه النسبية تقابلها قيم مطلقة وذلك هو المعلم الثاني: الذي يقابل الأول وهو البحث عن المشترك ليشكل أرضية للتفاهم
فما هي القيم؟
إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمة في اللغات الغربية لوجدنا كلمة ETHIQUES التي تدل على مجموعة قواعد السلوك، كما نجد كلمة VALEUR باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقًا وجميلاً وخيرًا طبقًا لمعايير شخصية أو اجتماعية ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي.
أما ما تشير إليه الكلمة وتوحي به ظلالها في اللغة العربية، فالقيم جمع قيمة، وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة، يقول المثل العربي: قيمة كل امرئ ما يحسنه”.
وتشير القيمة إلى الخصلة الحميدة والخلة الشريفة التي تحض الإنسان على الاتصاف بها كحرصه على اقتناء الأشياء ذات القيمة الثمينة والاحتفاظ بها، والقيمة ثمن الشيء الذي يقوم مقامه.
وترد القيم مفردًا مصدرًا، ومنه: ]دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ[ [إبراهيم:161]، في قراءة جماعة من القراء، وكذلك ورد في قوله تعالى: ]وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَمًا[[النساء:5]، في قراءة نافع، أي بها تقوم أموركم.
والشيء القيّم الذي له قيمة عظيمة مبالغة، وأصله قويم على رأي الفراء، وفيعل شاذ على رأي سيبويه، وقرأت طائفة ]دِينًا قِيَّمًا[ أي مستقيمًا أو كافيًا لمصالح العباد يقوم عليها.
وهي عند بعض الفلاسفة حكم يصدره الإنسان على الأشياء وينبع منه الاعتراض والاحتجاج على الوجود كما هو قائم ومفروض لتحويل هذا الوجود وفق ما ينبغي أن يكون.
تبعًا لهذا الأصل اللغوي فإن القيم هي تلك المبادئ الخلقية التي تمتدح وتستحسن وتذم مخالفتها وتستهجن، ولعلنا لا نتوقف طويلاً عند وصف هذه المبادئ بأنها خلقية؛ لأن الأخلاق تحتاج إلى تعريف، وباختصار فهي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا.
وقد رأي بعضهم :أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة” ().
وإذا كان الأمر كذلك فلا يسمى قيمة إلا ما كان مستحسنًا على أن يحظى باستحسان عام ومستمر، فما يحبه شخص من طعام لا يمكن أن يُسمي قيمة، لكن هذا الاستحسان العام قد يكون قاصرًا على مجتمع معين أو يكون عامًا للبشرية كلها.
إن القيم الخاصة بالمجتمعات المعينة والتي مردها إلى العرف والعادة أو الدين أمر لا شك فيه، ولكن القيم العامة المشتركة أمر له أهميته.
إن تحرير محل النزاع كما يقول أهل الأصول هو: ما هو مركز القيمة؟ وهل للخير الذي هو أساس القيم وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك خير بالمعني العام؟ أو هو دائمًا نسبي تبعًا لرضا فرد معين أو فئة معينة؟
لقد اختلف الفلاسفة في هذه المسألة الأساسية اختلافًا شديدًا وذهبوا فيها مذاهب، فكانوا طرائق قددًا من اقتصاديين واجتماعيين ونفعيين ومثاليين، أعفيكم من ذلك بل أُجمل الكلام في موقفين هما موقف من يقول بالنسبية، أي أن القيمة هي نسبية وقد قدمنا بعضه ولا توجد قيم عامة بغض النظر عن العنوان الذي يوضع ذلك تحته، ومن يقول بعموم القيم بغض النظر عن دوافعه، ثم أعرج على موقف الإسلام من ذلك.
عبر عن المذهب المطلق خير تعبير هنترميد بقوله: يمكن التعبير عن موقف المذهب المطلق باختصار بأنه يري أنه لا يوجد إلا معيار واحد أو في حالة الأخلاق قانون واحد هو الصحيح منذ الأزل، وهو الذي يسري على البشر أجمعين، هذا المعيار لا يسري على نحو عالمي شامل فحسب، بل إنه أيضًا مستقل عن العصر، وعن الموقع الجغرافي، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، والعرف القانوني وكل شيء آخر، والأمر الذي يشكل التزامًا لي في هذا المكان والزمان هو بالمثل التزام للصيني أو الأسباني أو البولندي.
وهو فضلاً عن ذلك قد كان التزامًا لليوناني القديم والأوروبي في القرون الوسطي سواء أكان يعلم ذلك أم لم يكن، وهو سيكون التزامًا بالنسبة إلى جميع الأجناس والمدنيات التي ستعقب مدنيتنا، فما هو خير الآن كان خيرًا عندئذٍ وسيكون خيرًا في المستقبل البعيد، وما كان شرًا في الماضي ما زال شرًا وسيظل كذلك أبد الدهر، وليس هناك قانون أخلاقي للماضي وآخر للحاضر، ولا معيار للشرقي وآخر للغربي، وإنما الخير والحق شامل يسري على كل زمان ومكان”().
إن نظرية المبدأ المطلق تجد سندها في الديانات السماوية وخصوصًا تلك التي تؤمن بالشمولية، ويعترف هنتر ميد بذلك لأن الحضارة الغربية أصلها مسيحي، قائلا: وحين نقول المسيحي فإننا نعني بالنسبة للفلسفة “التوحيدي”، فالإيمان بإله واحد يحكم الكون الذي خلقه أساس للتفكير الديني للغرب.. وهذه الأوامر أوامر الإله شاملة تنطبق على الناس جميعًا في كل مكان”.
وهذا الإيمان مشترك وقد نبه بعض رجال الدين المنصفين إلى هذا الاشتراك في الإيمان وهو هانس كيونج عندما يقول : بالنسبة لليهود والمسيحين والمسلمين فإن الإيمان يعنى أن الإنسان هنا مع كل ما أوتي من قوة ومن فكر ملتزم بدون قيد أو شرط بالتسليم والثقة بالله وكلماته .( بنقل جاك نيرنيك في حواره مع طارق “هل يمكن أن نعيش مع الإسلام ص14)
المصدر المنطقي: ربما كان “كانت” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان “كانت” يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض، ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها “كانت” في هذا الصدد.
فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به فإن سلوكنا يكون شرًا؛ لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعد ولكني أخلفت وعدي، فمعني ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملاً، ولو أخلف كل شخص وعوده لما عاد أحد يؤمن بالوعود ولكان لنا مبدأ آخر هو أن من الصحيح أن أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد، وهو مبدأ يتناقض مع الأول”.()
أما نحن المسلمين فكل تصوراتنا الفكرية تشير إلى أساس مشترك للقيم بين الإنسانية على الأسس التالية:
1- قرر الإسلام مبدأ المساواة المطلقة بين الناس وردهم إلى أصل واحد، لأن رّبهم واحد وأباهم واحد، قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[[الحجرات:13].
وقال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كُلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.()
ورسالة النبي الخاتم سيدنا محمد r هي للناس كافة، قال تعالى: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[[الأعراف:158].
2- قرر الإسلام أن النزعة إلى الخير والإيمان والحق فطرة لكل الناس. قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[[الروم:30].
3- قرر الإسلام أن للحواس دورًا بجانب العقل المركّب في الإنسان قال تعالى: ]وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[[النحل:78].
فليس السمع والبصر وحده، وإنما بالإضافة للفؤاد وهو محل للعقل، يقول السيد قطب في “ظلال القرآن” في تفسير هذه الآية: والقرآن يعبر بالقلب ويعّبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية، وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكُنه والعمل”.
وقال صاحب التحرير والتنوير: والأفئدة، أي العقل مقر الإدراك كله فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها، وهي العلم بالتصورات المفردة، وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيات وإلى النظريات وتُسمي الكسبيات، وهذا ما غاب عن الفلاسفة حين انقسموا إلى حسيين وعقليين، فالحس مصدر من مصادر الإدراك، والعقل مركزها وهو المحمول ومصنع توظيف مدركات الحواس”.
4-اعتني العلماء المسلمون بمسألة التحسين والتقبيح العقلين، وهي أهم إشكالية في أساس قانون القيم، فذهب المعتزلة إلى أن الحسن والقبح هما الأساس والمرجع للحكم على الشيء من الناحية الأخلاقية، وهما أيضًا أساس الأمر والنهي الشرعيين، فجعلوا الشريعة تابعة ونابعة عن موقف العقل ومؤكدة له، وليس هذا إنكارًا للوحي، بل يعني أن الوحي هو من عند الله تعالى والعقل هبة الله فلا يمكن أن يجيء الأول بما يخالف الثاني، وهذه قريبة من عبارة ابن رشد الحفيد.
وقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: إن قبح القبيح وحسن الحسن من العلوم الضرورية التي يخلقها الله في الإنسان”.
وقد قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن الأفعال حسنة في نفسها أو قبيحة، وأن العقل يدرك هذا الحسن والقبح في بعضها دون الآخر.
فقد قال ابن القيم في مدارج السالكين: إن قوله تعالى: ]يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ[[الأعراف:157]. يؤكد أن هذا الدين الذي جاء به يأمر بما تشهد العقول الصحيحة بحسنه وينهي عما تشهد بقبحه، وإلا فلو كان كونه معروفًا ومنكرًا وخبيثًا وطيبًا إنما هو لتعلق الأمر والنهي به لكان بمنزلة أن يقول: يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه، وأي فائدة من هذا ؟
وقال: إن قبح الفواحش يدركه العقل إلا أن الشرع هو الذي يحدد العقاب”. ()
أما الأشاعرة فجعلوا التحسين والتقبيح بالشرع فقط، فما نهي عنه الشرع العزيز فهو قبيح، وما أمر به فهو حسن.
وفي رأيي أن الأشاعرة لا ينفون الحسن والقبح العقليين، إلا أنه لا يبنون عليهما حكمًا، وهم يعترفون بالملاءمة في الحسن والمنافاة في القبح، وأن الحسن صفة كمال والقبح صفة نقص.
ولعل عبارة ابن القيم في مدارج السالكين تكون توفيقية في قضية الحسن والقبح عندما يقول: إن قبح الفواحش يدركه العقل إلا أن الشرع هو الذي يحدد العقاب”.
وقد نشأ عن الاختلاف حول التحسين والتقبيح الخلاف بين المالكية وغيرهم حول مفهوم الطيب والخبيث في قوله تعالى: ]وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[[الأعراف:157].
فذهب المالكية إلى الرجوع إلى النصوص الأخرى لتعين الطيب والخبيث، فكل ما لم يحرمه الشرع فهو طيب، فأجاز أكل الحيّات إذا أمن سُمها، وخشاش الأرض والأوزاغ ونحوها، وحرم الشافعي ذلك قائلاً:إن الخبث هنا هو خبث طبعي أي ما استخبثة الإنسان”.
واختار القول بالحسن والقبح العقليين الأحناف، وهو مروي عن أبي حنيفة نفسه، واختاره أبو الخطاب الكلوذاني وأبو الحسن التميمي من الحنابلة، ومن الشافعية أبو علي بن أبي هريرة وأبو بكر القفال الشاشي الكبير.
واختار إمام الحرمين القول بالتحسين والتقبيح العقلين في أفعال العباد دون أفعال الله تعالى، وتبعه الغزالي، ويتداخل في نظرة المسلمين إلى حد كبير الحسن والخير.
وبالجملة: فإن من يقول بالتحسين والتقبيح العقليين يجعل أساس القيم العقل، وهو أمر مشترك بين الإنسانية جمعاء، فالعدل حسن والجور قبيح إلى آخر قائمة القيم، فكما قال ديكارت: إن العقل هو أحسن الأشياء توزعًا بالتساوي بين البشر كلهم”.
إنه مهما استغرق المرء في مجادلات فكرية حول المبدأ المطلق والنسبي، وتلوت به النظريات الفلسفية في معارج منعرجات لا نهاية لها، فإن من البديهي أنه توجد قيم مشتركة وأن اللغة خير برهان على ذلك.
ففي كل لغة كلمة “العدل” كلمة نبيلة حبيبة على النفوس، وكلمة “الصدق”، وكلمة “الحرية”، “التسامح”، “الوفاء” وغيرها من الألفاظ المحمودة عند كل الأقوام.
وفيها نقيض تلك الألفاظ وهو مذموم لا يقبله أحد مثل “الجور”، “الظلم”، فلو قلت لأشد الناس جورًا إنه جائر لسخط من ذلك وأحب أن يوصف بالعدل “الكذب” حتى الكذّاب لا يريد أن يوصف بذلك، “التعصب”، “الخيانة”، “الغدر”، إنها صفات مذمومة كريهة إلى النفوس ممقوتة من جميع الأقوام، الفطرة والعقل يمجّانها. أليس ذلك دليلاً عمليًا وبرهانًا ساطعًا على وجود قيم مشتركة؟
وأود أن أشير هنا إلى أن لغة العبادة للخالق قيمة مشتركة متأصلة في كل المجتمعات، أو بعبارة أدق التهيؤ للعبادة، ففي كل اللغات توجد كلمة العبادة للخالق، أما في الأديان التي أصلها التوحيد كاليهودية والنصرانية فإن اللغة المشتركة بين المسلمين وبينهم لا تقتصر على العبادة بل تصل إلى التفاصيل: كالصلاة والصيام والحج والصدقة وإن كانت التفريعات مختلفة.
ولعل ذلك مما يسهل التفاهم مع الغرب لو جلينا تلك الأصول التي ترجع إلى ]فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[[الروم:30].
إنه قد تختلف درجة التمسك بهذه القيم والإلحاح عليها بين مجتمع وآخر فيُلح مجتمع ما علي الحرية، ويُلحّ آخر على العدل نظرًا لاهتمامات كل مجتمع أو الأولويات التي تفرضها ظروفه وضروراته، فقد شاع في الستينات في الأنظمة شبه الاشتراكية في العالم العربي “لا حرية لجائع”.
وقد أشار ديكارت إلى ذلك عندما قال: إن العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي. ويجيب على التساؤل: كيف اختلف الناس في المعرفة النظرية وتفاوتوا مع أن منطلقهم واحد؟ فأجاب: إن هذا ينشأ من أننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر إليه الآخر”.
نعم إن البيئة والفطرة والحواس والعقل وقبل ذلك الوحي، كل تلك هي أصول القيم ومغرس الفضائل، يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”: ولما وُهب الإنسان الفطرة، وأُعين بالفكر، ورفد بالعقل؛ جمع هذه الخصال”.
المعلم الثالث: تحديد أهداف التواصل والحوار
إذ أن ضبط وربط التواصل والحوار بأهداف وغايات يضبط المسيرة ويوضح الدرب حتى ولو التوت السبل وتعرجت المسالك وبالعكس فإن الحوار الهائم العائم الذي ليس له هدف ولا غاية هو حوار من أجل الحوار قد يكون مقبولاً في بدايات الطريق لاستكشاف ساحات التواصل واستيضاح مناحى المشاكل ولكنه لا يجوز أن يكون أبدياً وهذا ما حدا بالإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يطلب إلغاء اجتماع مع إحدى المنظمات الغربية الناشطة في الحوار بعد عقد دورات معها كانت تنظم بدون جدول أعمال وبدون بيان مشترك وأحياناً في مكان قصي ينأي عن الصحافة والإعلام وقد أشعرناهم باستعدادنا للحوار في ظروف أفضل.
ولهذا فإن هذا الضابط يعتبر مركزياً في عملية التواصل والتبادل التي تسود على الساحة العالمية.
المعلم الرابع: لغة التواصل لها أهميتها
أسلوب الخطاب ، ترتيب الحجاج ، إن أهم شيء هو العقلانية في الحوار. ولهذا فيجب أن يكون كل من المتحاورين على اطلاع على ثقافة الآخر ومنطلقاته العقدية والفكرية.
وهنا أشير من واقع التجربة إلى أن الطرف الإسلامي غالباً ما يفتقر إلى الكفاءة في القضايا الفلسفية والقانونية لإيصال رؤيته إلى الطرف الآخر. وكذلك فإن الاطلاع على الأسس الدينية من مصادرها لدى الآخر قد يكون مفيداً في جولات الحوار الديني.
الفصل الثاني: وسائل وآليات للتواصل
إن التواصل ككل عمل بشري إرادي يحتاج إلى وسائل وآليات لتحقيقه في الميدان العملي وهذه الوسائل.
من أهمها: الحوار الهادف الواعي بذاته وبغاياته ولهذا فإن التواصل قد يكون رديفاً للحوار لأنه وسيلته الأولى وأداته المفضلة ولهذا اعتمده القرآن الكريم في تبليغ الدعوة وإيصال الحجة ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ لأنه بالحوار كما يقول أفلاطون يطلع الناس بعضهم بعضاً على البدائل المتاحة عن الصراع فهو قيمة حضارة.
إلا أن مدلول التواصل قد يشمل وسائل أخرى كإنشاء الجامعات والمراكز وعقد الدورات المتخصصة لدراسة أي موضوع فكري قانوني أو فلسفي أو ديني للوصول إلى نتائج معينة.
ومن ناحية عملية يمكن أن نسرد قائمة من الوسائل الرائجة للتواصل :
1- عقد الندوات المشتركة بين فريق أو فرقاء ينتمون إلى خلفيات ثقافية قد تكون مختلفة أو يفترض فيها أن تكون كذلك.
من المستحب أن تبدأ هذه الندوات مصغرة وأن تقدم فيها بحوث متبادلة من الطرفين في موضوعات محددة.
وقد كانت لنا ندوة في الفاتكان من هذا النوع حول “العلمانية والدين”.
2- عقد مؤتمرات تقدم فيها بحوث وتدور فيها منقشات.
3- إنشاء لجان مشتركة تتبادل المعلومات وتتشاور حول قضايا الحضارة والفكر والتواصل وتعد للندوات والمؤتمرات.
4- إنشاء مراكز في مناطق معينة من العالم للقيام بعملية التواصل.
5- إنشاء مكاتب ارتباط لدى لعض الجهات كالبرلمان الأوربي مثلا.
6- كما أن التواصل قد يتم عن طريق الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية.
7- يمكن للسفارات والبعثات الدبلوماسية أن توظف علاقة دولها في تسهيل التواصل.
خاتمـة:
خلاصة القول:
إن عملية التواصل أصبحت ضرورة لإنقاذ البشرية من التردي في هوة سحقية من الاضطراب والفوضى يدحرجها إليها تجار الحروب ودعاة الشر الذين أطاعوا طغوى النفوس وطغيان المطامع العاجلة فضاقت مساحات عقولهم وانكمشت آفاق بصائرهم.
وأخيراً فإن من أهم أدوات التواصل الحوار الذي يعني تخاطباً بين متقابلين للوصول إلى أرضية مشتركة قد تؤسس على قناعة بالرأي المقابل أو على مصالح متبادلة والحوار قد لا يؤدي إلى اتفاق إلا أنه يمكن أن يقدم البدائل عن الصدام والصراع ويجعل الآخر يفهمك وإن يتفق معك.
وهذا التواصل يجب أن يقوم على دعائم قوية:
أولاً: الاعتراف بالاختلاف للوصول إلى التعارف والائتلاف ذكرنا أمثلة غير حاصرة ولا حاشرة ولا جامعة مانعة وإنما هي أمثلة توجيهية تسعف عملية الحوار بمادة مناسبة تستحق لفت انتباه المتحاورين كاختلاف المصدر واختلاف مفهوم النظام العام وهو المعروف أو العرف الذي يتلقى الرضا العام أو النكير المطلق في أي مجتمع.
إن الاعتراف بالاختلاف يشعر الفرقاء بجدية الحوار وأنه ليس استحواذاً ينكر فيه الآخر على مقابله حقه الطبيعي في الاختلاف ويطلب منه أن يتماهى معه وكأنه يشترط ذلك مسبقاً لقبول التواصل معه.
إن شعار التواصل هو أن يقبل الفرقاء كل واحد منهما الآخر كما هو لا كما يتمناه.
ثانياً: إبراز المشترك بين الطرفين الذي قد يكون خافياً أو خافتاً أو قد يكون إطلاع الطرفين بعضهم بعضاً عليه يسهل عملية التواصل ﴿ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد﴾
ولهذا يجب توظيف المشترك في ثلاث دوائر :
دائرة القيم الإنسانية: فكل الناس يبحثون عن العدل والسلام ويبغضون الجور والطغيان فما لا يرضاه لنفسه لا يرضاه لغيره إن الضمير الإنساني بتقديم القيم التي يؤمن بها الناس كل الناس من أهم أسس التواصل.
والوثيقة الدولية لحقوق تمثل أهم محاولة لتوظيف المشترك الإنساني.
دائرة القيم الدينية: مع أصحاب الرسالات السماوية ﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾ كعلاقة المقدس بالدنيوي وتراجع القيم الدينية لصالح العلمانية مثلاً.
دائرة المصالح المتبادلة: كقضايا التجارة في المواد الأولية والمصنعة والطاقة إلى آخر القائمة.
المرتكز الثالث: تقرير غايات للتواصل تشده إلى الأمام وتهون في سبيل الوصول إليه الصعاب وتذلل العقبات.
المرتكز الرابع: أهمية إيجاد لغة مشتركة للتواصل تستوعب الخلفيات الثقافية كالفلسفة والدراسات المقارنة للأديان
وفي الفصل الأخير: استعرضنا زمرة من أدوات التواصل التي يمكن تصنيف بعضها في خانات الوسائط كاعتبار الإعلام واسطة والصحيفة والتلفزة وسيلة مثلاً وهذه الوسائل ليست حصرية وإنما هي أمثلة.
ولعلي أختم بنظرة أبي حيان التوحيدي إلى الإنسان، فقد نظر إلى الإنسان كإنسان، إلى ما يعتريه وما يجري عليه من أعراض اختيارية أو اضطرارية محمودة أو مذمومة ما كان منها من قبيل القيم والأخلاق وما لم يكن كذلك، فعرض منها قائمة طويلة ما كان منها بالفطرة أو ما يكون ناشئًا عن الفكرة فيقول: وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والخير والشر…… ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع”.
هذا هو الإنسان في كل مكان وفي كل زمان بنقائصه ومزاياه، فهل لنا أن نأمل في تنمية جوانب الخير والقيم الإنسانية الخيرة المشتركة، إن سلوكنا الفاضل، وتسامحنا، وسخاءنا، وصدقنا، ووفاءنا، وأمانتنا من شأنه أن يقنع الآخر، وهو الإنسان الذي حمل نفس الإعجاب بتلك القيم أن يعاملنا بنفس المعاملة النبيلة، فالخير يدعو للخير، والسخاء يستدعي السخاء.
إن إقناعنا للغير بسلوك سبيل الخير أهم قضية إنسانية. ونقتبس من أفلاطون قوله:إن خُلُق العالم هو تعبير عن غلبة الإقناع على القوة.
وتتألف قيمة البشر من قابليتهم للإقناع، فهم يستطيعون أن يقنعوا ويقتنعوا بإظهارهم على مختلف الوسائل التي يمكن أن يُستعاض بإحداها عن الأخرى، فمنها الأحسن ومنها الأسوأ، والحضارة هي الحفاظ على النظام الاجتماعي بواسطة الإقناع الفطري الذي يتجسد باختيار الأفضل.
أما استخدام القوة مهما يكن ذلك حتميًا فإنه يكشف عن فشل الحضارة سواءً كان ذلك بالنسبة للمجتمع العام أم بالنسبة للأفراد”.
فلنبذل جهدًا لإقناع الآخرين بالعدل والمحبة والإخاء والمساواة والوفاء والمسالمة، فإذا شاعت تلك القيم بين الأفراد والمجتمعات والدول عند ذلك نطمع في نظام عالمي ينصف الشعوب الضعيفة والأمم المظلومة، يكون الحوار وسيلته، وصالح البشرية غايته، بدلاً من نظام عالمي يقوم على المصالح الأنانية للأمم القوية، والتمييز العنصري والديني المقنع أحياناً والسافر أحياناً أخرى، ويوم يأتي ذلك النظام الذي يرتكز على القيم الإنسانية المشتركة، قيم العدل والمساواة والحق ينزل الفرج ويسود السلام.
]وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[[الروم:5].