هل يسوغ للقاضي أن يحكم في مثل هذه الصور (في حالة الشقاق بين الزوجين وعدم ظهور وجه الحق بينهما ) بفسخ النكاح على أساس الشقاق بين الزوجين من دون أن يبعث الحكمين؟
السؤال
هل يسوغ للقاضي أن يحكم في مثل هذه الصور (في حالة الشقاق بين الزوجين وعدم ظهور وجه الحق بينهما ) بفسخ النكاح على أساس الشقاق بين الزوجين من دون أن يبعث الحكمين؟
الجواب
فالجواب عليه وعلى السؤال الذي بعده، هو: أن القاضي في حالة الشقاق بين الزوجين وعدم ظهور وجه الحق بينهما بالبينة أو الإقرار يلزمه بعث الحكمين ولا يحكم هو ولو علم في نفسه الظالم من المظلوم، قال ابن العربي : “والحكمة عندي في ذلك وهي:
المسألة السادسة: أن القاضي لا يقضي بعلمه، فخص الشرع هاتين الواقعتين بحكَمين؛ لينفذ حكمهما بعلمهما، وترتفع بالتعديد التهمة عنهما([1]).
وظاهر كلام علمائنا إن القاضي لا يقوم بالتفريق بين الزوجين في حال التباس أمرهما وظهور الشقاق بينهما وإنما يرسل حكمين إليهما.
فمن ذلك على سبيل المثال:
قال ابن العربي: “إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين ولا ينتظر ارتفاعهما؛ لأن ما يضيع من حقوق الله أثناء ما ينتظر رفعهما إليه لا جبر له”([2]).
وقال المواق: “قال في المدونة: إن لم يصل لمعرفة الضار منهما أرسل الحكمين([3]). وسألهما إقامة البينة على ما زعماه من الإضرار فذكرا أن لا بينة لهما وأشكل عليه من المضر بصاحبه منهما فدعاهما الصلح فأبياه فلم يكن بُدٌّ من توجه الحكمين”([4]).
وقال عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الجياني:”والذي نراه أن يرسل إليهما حكمين كما قال الله عز وجل في محكم كتابه لا يجوز غير ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ …} [الأحزاب: 36] وآية الحكمين محكمة لا نعلم لها ناسخًا فالعمل بها أمر فرض واجب وأمر لازم. ([5])
وقال أيضا: “قال ابن لبابة: القول بالحكمين مما لا يجوز الحكم بغيره عندي؛ لأن الله تعالى حكم به وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء إلى مالك وهلم جرا”([6]).
وقال الطاهر بن عاشور: “والآية دالة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق”([7]).
قلت: ومع ما ذكره علماء المذهب من وجوب بعث الحكمين فإنهم لم يوضحوا شرطية تحكيم الحكمين ليكون حكم القاضي باطلا في حال تجاوزه لهما. ولهذا فالذي يظهر لي أن القاضي إذا تعذر عليه بعث حكمين لعدم قبولهما أو لعدم وجود من تنطبق عليه صفات الحد الأدنى للحكمين ، -نظرا لحال الزمان- يمكن أن يحكم في المسألة دون أن يعتمد طريق الحكمين، بمعنى أنه في هذه الحالة لا يحكم بمجرد علمه كما هو شأن الحكمين، ولكن بمقتضى البينات بعد أن يدعو إلى الصلح ويستنفد الوسائل، وحينئذ فإن حكمه إما أن يكون بالتفريق بينهما بناء على ثبوت الضرر من الزوج، أو بإيجاب الخلع إذا كان الضرر من قبل الزوجة، وبناء على ما يظهر له من المصلحة قياساً على الحكمين في حال استمرار الخلاف.
وقد رأى بعض المتأخرين من أهل المذهب أن الزوجين لا يجوز تركهما أو ترك أحدهما على معصية كما لو كانت الزوجة ناشزاً وأُيس من إصلاحها فالقاضي يطلقها عليه بخلع، وفي عدمه تُطلقها جماعة المسلمين، قال ابن حمى الله الشنقيطي:
ولا يجوز ترك ناشز على عصيانها والزوج حتما قبلا
فِداءها بما أحب ممكنا إلا يطلقها عليه الأمنا
وأصل هذا الرأي في بلاد شنقيط للشيخ/ سيدي أحمد بن القاسم الحاجي الواداني الذي ألف رسالة في وجوب تطليق الناشر سماها “مفتاح الكنوز في طلاق النشوز” اختصر فيها رأيه بقوله: على أن الزوجة إذا نشزت واستعصت على زوجها بغضا له كان على الإمام أو من يقوم مقامه أن يطلقها على زوجها بخلع وإن لم يرض زوجها بذلك سواء كانت الإساءة منها أو من الزوج أو منهما أو أشكل الأمر فيها”.
وتبعه تلميذه العلامة ابن الأعمش العلوي من أكبر فقهاء القرن الثاني عشر الشناقطة، وقد جمع العلامة/ النابغة الغلاوي صاحب الطليحة فتاوى هؤلاء في نازلة له.
وقد تعلق هؤلاء العلماء بقولهم: إن الحاكم لا يحل أن يتركهما على ما هما عليه من المآثم وفساد الدين[8].
واعتمدوا على درء المفسدة الحاصلة من استمرار الشقاق بين الزوجين ولو كانت من جهة الزوجة مستشهدين بحديث زوجة ثابت بن قيس بن شمَّاس المعروف وقد أمرها عليه الصلاة والسلام بالمخالعة ولفظه للبخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم فقالتْ: يا رسول اللَّهِ، ثابت بن قيسٍ ما أَعِيبُ عليه في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكنِّي أكْرَهُ الكفر في الإسلام، فقال رسول اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فقالتْ: نعمْ، فقال رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم: اقْبَلْ الحديقة وطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» رواه البخاريُّ، وفي روايةٍ له: «وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا».
وقد قال محمد بن عبد الباقي الزرقاني -في شرحه للموطإ-: الأمرُ هنا أمر إرشاد وإصلاح لا أمر إيجاب[9]. وكذلك الحافظ في “فتح الباري”.
أما الصنعاني فقد رأى أنه أمر إيجاب وأن تطليق الكارهة وقبول الخلع لازم فقال في “سبل السلام”: وأمَّا أمرُه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم بتطليقه لها فإنَّه أمرُ إرشادٍ لا إيجابٍ كذا قيل، والظَّاهر بقاؤُه على أصله من الإيجاب، ويدلُّ له قوله تعالى{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فإنَّ المراد يجب عليه أحدُ الأَمرَيْن، وهنا قد تعذَّرَ الإِمساكُ بمعروفٍ لطلبها للفراق فيتعيَّنُ عليه التَّسْريحُ بإحسانٍ[10].
ومع أن هذا الرأي لا يعتبر قولاً في المذهب فإنه يعتبر اجتهاداً في المذهب مخرجاً على أصوله وقواعده.
وقول هؤلاء قد يكون متعيناً إذا لم يوجد حكم على الصفة الشرعية في زمان يتعذر فيه ما ذكره علماؤنا من إجبار المرأة على الرجوع إلى بيت الزوجية بالتأديب. ولهذا فلا بد أن يتصرف القاضي أو من يقوم مقامه تصرفاً يرفع الحرج ويخفف من الضرر.
والوجه عندي في ذلك: أن القاضي عندما يرتفع إليه الزوجان في حالة شقاق يباشر بحث القضية -كما هو الأصل- ويستمر في ذلك دون إعلان “الإشكال” الذي هو مناط بعث الحكمين، إذ من حق القاضي أن يدعوهما إلى الإصلاح وأن يبحث عن حقيقة أمرهما ليطبق الإجراءات في حال ظهور الشقاق من أي منهما. وقد يطلع على ما يوجب التطليق فيجريه طبقاً لأحكام الضرر أو أحكام النشوز بناء على رأي الشيوخ ، الذين أشرنا إليهم سابقاً، مستندا إلى المصلحة الراجحة وارتكابا لأخف الضررين. والله أعلم.
([1]) انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/541.
([2]) أحكام القرآن لابن العربي 1/143.
([3]) التاج والإكليل للمواق 5/263.
([4]) نفس المرجع 5/264.
([5]) الإعلام بنوازل الأحكام للإمام أبي الإصبع عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الجياني 1/155، تحقيق: يحيي مراد، دار الحديث – القاهرة.
([6]) نفس المرجع 1/156،
([7]) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 5/46.
[8] – محنض باب الديماني ميسر الجليل 1/15- 2/22
[9]- الزرقاني شرح الموطأ 3/184
[10] – الصنعاني سبل السلام