أدب الاختلاف(نسخة منقحة)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ،
تشتملُ هذه الورقةُ على مقدمةٍ عن معنى الاختلافِ والخلافِ ، والباعثِ على تقديم هذه الورقةِ، نتعرضُ فيها للعناوين التالية :
1 – تأصيلُ الألفةِ والجماعةِ.
2- تأصيلُ الاختلافِ بين أهلِ الحقِ وتسويغه.
3- أقوالُ العلماءِ في الاختلافِ.
4- آدابُ الاختلافِ.
5- أسبابُ الاختلافِ .
– خاتـمةٌ .
مقدمـة:
الاختلافُ هو التباينُ في الرأي، والمغايرةُ في الطرحِ، وقد ورد فعلُ الاختلافِ كثيراً في القرآن الكريم قال تعالى:}فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ{(مريم الآية 37) ،وقال تعالى:}فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{(البقرة113) ،وقال تعالى: }وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ{(البقرة 213) ،وقال تعالى:} وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ{ (الشورى 10).
والاختلافُ قد يُوحي بشيءِ من التكاملِ والتناغمِ، كما في قوله تعالى } فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ{ (فاطر27).
وأما الخلافُ فإنَّه لا يُوحي بذلك، ويَنصبُّ الاختلافُ غالباً على الرأي، اختلفَ فلانِ مع فلان في كذا والخلافُ يَنصبُّ على الشَّخصِ.
ثم إنَّ الاختلافَ لا يَدُلُّ على القطيعةِ، بلْ قد يدلُّ على بدايةِ الحوارِ، فإنَّ ابنَ مسعود اختلفَ مع أميرِ المؤمنين عثمانَ في مسألةِ إتمامِ الصلاةِ في سفرِ الحجِّ ؛ ولكنَّه لم يُخالف بلْ أتمَّ معه وقال : الخِلافُ شَرٌّ.
هذه الإيحاءاتُ والظِلالُ جعلتنا نُرشح كلمةَ الاختلافِ لكيْ تكونَ مقدمةً للتفاهم والتكاملِ على كلمةِ الخلافِ ، وإنْ كان العلماءُ يستعملون كلتا الكلمتين لتأديةِ نفسِ المعنى؛ باعتبارِهما من المُترادفِ فتتعاورانِ وتتعاقبان .
الكلماتُ ذات العلاقة :
هناك كلماتٌ قويةٌ في دلالتِها على اشتدادِ الخلافِ كالنِّزاع والشِّقاقِ، وهو الوقوفُ في شق أي في جانبٍ يقابلُ ويضادُّ الجانبَ الآخرَ.
الاختلافُ ظاهرةٌ لا يمكن تحاشيها؛ باعتبارِها مظهراً من مظاهر الإرادةِ التي رُكبت في الإنسانِ ، إذ الإرادةُ بالضرورةِ تُؤدى إلى وقوعِ الاختلافِ والتفاوتِ في الرَّأي.
وقد انتبه لذلك العلامةُ ابنُ القيم عندما يقول:” وقوعُ الاختلافِ بين الناس أمرٌ ضروري لا بُد منه لتفاوتِ أغراضِهم وأفهامِهم وقوى إدراكهم؛ ولكنَّ المذمومَ بغيُ بعضِهم على بعضِ وعدوانُه” ( إعلام الموقعين)
فإنَّ الشِّقاق يُمكن تفاديه بالحوارِ، الذي من شأنه أنْ يُقدمَ البدائلَ العديدةَ لتجنبِ مأزقِ الاصطدامِ في زاويةِ الشِّقاقِ.
ونحنُ في ورقتنا هذه إنما نبحثُ عن البدائلِ ، انطلاقاً من الشَّريعةِ الإسلاميةِ نصوصاً ومقاصدَ وأصولاً وفروعاً وتطبيقاتٍ بنماذجَ تاريخيةٍ.
الباعثُ : إنَّ الباعثَ على هذه الورقةِ هو ملاحظةٌ لا تَعزبُ عن بالِ أحدٍ بل لا تَغربُ عن حواسِه تتمثلُ في اختلافٍ كثيرٍ تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام: وإنَّه منْ يَعش منكم بَعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ” .
وهو اختلافُ انتشرَ في الأمةِ أفقيًا وعمودياً ، في كل الفئاتِ وعلى مختلفِ المُستوياتِ. تعددتْ أسبابُه وتنوعتْ ألوانُه ، واستُعلمتْ فيه كلُ الوسائلِ من تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه، وما شِئتَ من مَصدرٍ على وزن تفعيلِ.
واستعملَ فيه الخصومُ كلَّ أدواتِ الدِّفاعِ والهجومِ، وضاقتْ بالحيادِ فيه الأرضُ بما رَحُبتْ، فالكلُّ مُتهمُ والكلُّ بَراءٌ ، وأعجزَ داءَ الأمةِ الدَّواءُ ، فحضرَ الشهودُ إلا شاهدَ العقلِ، واستُحضرتْ الحججُ إلا حُجةَ الإنصافِ، }وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي{.
ونحن هنا لا نحاولُ إصدارَ فتاوى في مسائلِ الاختلافِ، ولا تحضيرَ بلسمٍ سحريٍّ يُبرءُ الأوصابَ؛ لأنَّ ذلك ليس في مَقدورنا ولا في طاقتنا ، فقد نَتكلفُ شططاً ونكلِفُكم عناءً وعنتاً لو حاولنا ذلك ، وقد يكونُ منَ المُفارقاتِ أنْ أطلُبَ منَ الآخرينَ التواضعَ والنسبيةَ في الحكمِ وفي الوقتِ نفسِه أُصدرُ أحكاماً باتةً في قضاياهم.
إنَّ مُحاولتنا تعنى بحثاً عن كيفيةِ تَعقيلِ أو عقلنةِ جدلِنا ، وتنظيم اختلافاتِنا وتَرتيبِ درجاتٍ سُلمِ أولوياتِنا ، وتحسينِ نياتِنا وإرادتِنا ، على ضوءِ ما يُستخلصُ منْ نُصوص شَرعيةٍ حاكمةٍ وآثارٍ عن السَّلفِ شَارحةً ومُمارساتٍ رشيدةٍ هاديةً.
إذْ مِنْ شَأنِ ذلك أنْ يُقلل منْ الخِلافِ، أو يَنزعَ فَتيلَ نارِه لتُصبحَ بردًا وسلاماً.
يقولُ العلامةُ ابنُ القيم: ” فإذا كان الاختلافُ على وجهِ لا يُؤدي إلى التَّباينِ والتَّحزُبِ وكلُّ من المختلفين قصدُه طاعةَ الله ورسولِه لم يَضرَّ ذلك الاختلافُ فإنَّه أمرٌ لا بُد منه في النشأةِ الإنسانيةِ؛ لأنَّه إذا كان الأصلُ واحداً والغايةُ المطلوبةُ واحدةً والطريقةُ المسلوكةُ واحدةً لم يَكد يقع اختلافٌ ، وإنْ وقعَ كان اختلافًا لا يضرُّ كما تقدمَ من اختلافِ الصحابةِ.
كيف نجعلُ اختلافنا منْ هذا النوعِ الذي أشارَ إليه ابنُ القيم ؟
فإذا كان ذلك غرضُنا فلننتقل إلى تأصيلِ أهميةِ الألفةِ وإصلاحِ ذات البين.
تأصيلُ الألفةِ والاعتصامُ بحبلِ الجماعةِ :
إنَّه من المعلومِ ضرورةً تأصيلُ الألفةِ من الدِّين قال تعالى }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا{ ، } وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم{ قوتكم وجماعتكم ونصركم.
}وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ{
}أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه{
هذه أوامرُ بالاعتصام بحبلِ الله تعالى، وإقامةِ دينِه مقرونةً بنواهٍ عن التَّّفرُقِ والنِّزاعِ، مع التنبيه إلى النتائجِ الحتميةِ المتمثلةِ في الفشلِ؛ الذي يعنى العجزَ عن الوصولِ إلى غايةٍ مُعينةٍ ، وهنا فشلُ الأمةِ وعجزِها عن القيامِ بوظيفتِها في هدايةِ البشر والخلافةِ الراشدة في الأرضِ}وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا{
وقد بينَ عليه الصلاةُ والسلام ذلك خيرَ بيانٍ ، وهو المُبينُ للذكرِ المُبلغُ للوحي في نَهي صَريحٍ “ لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ”.(اللفظ لمسلم)
الأمر بإصلاح ذات البين :
} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ { ، } لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا { }وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ { ، }وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا { وفي حديث أبي هريرة ” لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ” وخرج أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء عنه عليه السلام { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا”.
وفي ثاني خطبة له بالمدينة بعد الهجرة كما يروى ابن إسحاق دعا إلى حب الله تعالى قائلاً : أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ” ثم دعا المسلمين إلى الحب فيما بينهم قائلاً : وتحابوا بروح الله بينكم “
استخلصَ العلماءُ رحمهم الله تعالى من ذلك أنَّ الجماعةَ والألفةَ أصلٌ من أصولِ الدِّين يُضحى في سبيلِه بالفروعِ.
وعبرَ عنه خيرَ تعبيرٍ ابنُ تيميةَ حيث يقول : “فَإِنَّ الِاعْتِصَامَ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَالْفَرْعُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ الْخَفِيَّةِ فَكَيْفَ يَقْدَحُ فِي الْأَصْلِ بِحِفْظِ الْفَرْعِ”.(مجموع الفتاوى 22 / 254 ).
وهو كلامٌ صحيحٌ فيه فقهٌ وبصرٌ بأحكامِ الشَّرعِ، ولقد اعتذرَ نبيُّ الله هارونُ لأخيه موسى عليهما السلام في عدم اتِّبَاعِه له، عندما عبد بنو إسرائيل العجلَ بالمحافظة على وحدة بني إسرائيل، فلو تفرقوا لحملتني مسئولية ذلك:}{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي {.
ومن هنا نفهم ترتيب الأوليات ووزن المصالح لنصل إلى قبول الاختلاف وتفعيله .
تسويغ الاختلاف :
إن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع ، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فإنه لا يكون مذموماً ؛ بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الفكري، ووسيلةً للوصول إلى القرار الصائب ، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف الحميد } وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ{ فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابَه، ويستمع إلى آرائهم، وتختلف وجهاتُ نظرهم في تقرير المُضي في حملة بدر ونتائج المعركة، وكان الاختلاف من الموقف من الأسرى.
فعندما استشارهم في المضي قدماً لنزالِ المشركين بعد أن تبين كثرة جيوشهم بالنسبة للمسلمين كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليهم وما ليمَ أحدٌ على رأي أبداه أو موقف تبناه وما تعصب منهم أحد ولا تحزب، بل كان الحقُّ غايتَهم والمصلحةُ رائدَهم.
وقد يقرُّ النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص ، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح ، كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة، فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يُعنف أحداً منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم . وما عابَ أحدٌ على أحدِ كما جاء في الصحيح.
والاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود وحديث عمر وأبي بن كعب.
إنها التربيةُ النبوية للصحابة؛ ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقاً لاجتهادهم.
وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحياناً كثيرة بالاتفاق، كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.
وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة، وحول جمع القرآن الكريم، ورجوع عمر إلى قول عليّ في مسألة المنكوحة في العدة.
وتارة يظل الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض ، كقصة عمر مع ربيعة بن عياش في التفضيل بين مكة والمدينة.
وقصة الأراضي المفتوحة هل تصير خراجية أم توزع على الغانمين.
وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى.
وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سُكنى المبتوتة ونفقتها.
وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير.
وأبي هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار.
واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.
ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها.
وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح فصاح– معتبرةً أنه لم يبلغ بعد درجة الاجتهاد، ولكنَّ الأمر لا يتجاوز ذلك.
وموضوعات الاختلاف كثيرة جداً ، ولكنها تحسم بالتراضي إما بالرجوع إلى رأي البعض، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء إخوته من الصحابة واعترافه أمام الملأ بذلك قائلاً: امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ. وتأصيله للقاعدة الذهبية وهي:” أن الاجتهادَ لا يُنقض بالاجتهاد ” وهي قاعدة تبناها العلماءُ فيما بعد ، فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم، حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات، وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف، الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.
أقوال العلماء في الاختلاف :–
يقول الحافظ بن رجب: ولما كثر اختلافُ الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم ، وكل منهم يظنُّ أنه يُبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً ، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض، فإنَّ كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظنُّ أنه لا يقول إلا الحقَّ، وهذا الظنُّ قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحاملُ على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدِّين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظنُّ أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابعُ فقد شاب انتصارَه لما يظنُّ أنَّه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق، فافهم هذا فإنَّه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. )
انتهى كلام الحافظ وهو كلام في غاية الفضل.
وقال الشافعي : ” ألا يستقيم أنْ نكون إخواناً وإنْ لم نتفق في مسألة “
وقال : “ما ناظرتُ أحداً إلا قلتُ: اللهم أجر الحقَّ على قلبه ولسانه فإنْ كان الحقُّ معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” – قواعد الأحكام.
رفض مالك حمل الناس على الموطأ !
فقال مالك للخليفة العباسي – حينما أراد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه – لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أنَّ لكل قطر علماءه وآراءه الفقهيةِ، فرجع الخليفةُ عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
وعدم التجريح في المختلف فيه كما قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه : أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
كان الذهبي مثال العالم المتفتح المنصف الذي لا يتعصب لأتباع مذهبه.
فقد قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى: “إنه قل من سمع منه لأنَّه كان فيه زَعارةٌ وكان فيه غلو في السنة ” وقال عنه : “وعُني بالسنة وجمعَ فيها وناظرَ الخصوم وكفرهم، وكان صاحبَ حزبية وتحرق على الأشعرية فرموه بالتجسيم، ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس.”اعتبر الذهبي ذلك حزبية.
والذهبي يدعو إلى الإنصاف فقد قال عن القاضي أبي بكر بن العربي : “لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط وبالغ في الاستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد فرحمهما الله وغفر لهما”.
وكان الذهبي يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف.
ويعتذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً: ” ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظنّي وتندرُ مخالفتهم الإجماعَ القطعي”.
ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدِّين.
وقال عنهم: “وفي الجملة فداود بن علي بصيرٌ بالفقه عالمٌ بالقرآن حافظ للأثر، رأس في المعرفة من أوعية العلم له ذكاء خارق وفيه دين متين ، وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق”.
ويقول الذهبي :”ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول، وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج بغير إنزال وأشباه ذلك ولا يجوز تقليدهم في ذلك “.
وقال: ” كل فرقة تتعجب من الأخرى ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة “.
ويقول ابن تيمية : ” وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله “.
المعاداة بين المختلفين في الاجتهاد اتباع للهوى :
يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة ، حين يكون الاتباع للهوى، وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى؛ لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة، وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياساً لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه فقال: ( فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء ، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى } إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا { فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى، وهو ظاهرٌ في أنَّ الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكلُّ رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ).
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالى موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفه بأنه من أهل التفرق والاختلاف. ( الفتاوى 7- 349 )
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفاً قائلاً : ” لأن مصلحة التأليف في الدِّين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلمتغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب “.
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال الخلاف شر. ( الفتاوى 22 – 407 )
رأي النووي في الطائفة المنصورة : ” ويحتمل أنَّ هذه الطائفةَ تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض “.
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ” قلت: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم “.
آداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها ليعذر بعضهم بعضاً :–
1– العذر بالجهل !
يقول ابن تيمية : وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرا.( 11-411 )
وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة ” يدرس الإسلامُ كما يَدرس وشي الثوب، حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها. فيقول: صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار. ثلاثاً” رواه الحاكم.
وقد وقع في الديار الشيوعية وأيام سقوط الأندلس أشياء من هذا القبيل والله المستعان.
2 – العذر بالاجتهاد :
يقول ابن تيمية أعذار الأئمة في الاجتهاد، فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عمدا فلا بد له من عذر في تركه مضيفا : وجميع الأعذار ثلاثة أصناف أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ ( 20- 232 )
وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر : ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها. ( جامع بيان العلم وفضله )
ويقول ابن تيمية : وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور. (19 – 262 )
ويقول ابن القيم : فالعامي لا مذهب له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال.
3- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلدا.( إعلام الموقعين 3 – 365 )
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئاً مختلفاً في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه؛ إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً ( قواعد الأحكام 1-109 )
قال إمام الحرمين : ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف؛ إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا ، ومن قال إنَّ المصيب واحدٌ فهو غيرُ متعين عنده، فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين. ( الإرشاد ص 312)
4- الرفق في التعامل :-
والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عليه الصلاة والسلام قائلاً : لاتزرموه – أي لا تقطعوا بولَه – وأتبعوه ذنوباً من ماء، وقال للرجل: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات.
وحديث خوات بن جبير رضي الله عنه حين رءاه مع نسوة فقال ماذا تبغي هاهنا قال التمس بعيراً لي شارداً . ثم حسنَ إسلامُه وخلصتْ توبته، فمازحه عليه الصلاة والسلام قائلاً: ماذا فعل بعيرُك الشاردُ قال : قيده الإسلامُ يا رسول الله .
وحديث الأعرابي الذي أعطاه فقال له أحسنت عليك ، فقال كلاماً غير لائق فهم به الصحابة فنهاهم عليه الصلاة والسلام وأدخله في البيت، فأعطاه ثم خرج به وقال هل أحسنت ؟ فقال أحسنت علي وفعلت وفعلت، فضحك عليه الصلاة والسلام وضرب مثلاً بصاحب الراحلة الشاردة.
5- أن لا يتكلم بغير علم، قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } لا بد من الإحاطة بما في المسألة قبل أن تخالف .
قل للذي يدعى علمـــــا ومعــرفة ***علمت شيئـا وغـابت عنك أشـيـاء
فالعلم ذو كثــرة في الصحف منتشر *** وأنت يا خل لم تستكمـــل الصحفـــا
6- أدب مراعاة المصالح الشرعية في الإنكار، فإذا كان النهي سيؤدي إلى مفسدة أكبر أو سيضيع مصلحة أعظم فلا نهي ولا أمر، ويفصل ابن تيمية ذلك في الفتاوى (20/58)
وإذا كَانَ قَوْمٌ عَلَى بِدْعَةٍ أَوْ فُجُورٍ وَلَوْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرٌّ أَعْظَمُ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ مِنْهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالنَّهْيِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ.(14/472)
فحيث كانت المفسدةُ للأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجباً وفعلَ مُحرماً ، إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم.(2/211)
وإذا كان الكفرُ والفسوقُ والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليه آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً إذ الإنسان ظلوم جهول. (26/142)
ولكن ما هي أسباب هذا الاختلاف؟
إنها أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء، والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار، وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وإلى اللغة وضوحاً وجلاء وغموضاً وخفاء، كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها .
كما يرجعُ الاختلاف إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص، ومقاصد الأحكام كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كما يرجع الاختلاف إلى الأعراف المعتبرة، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.
وفي الختام
فإنه لا بد من إحياء روح التسامح في الأمة، فتتجنب التباغض وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم.
– ا بد من تأكيد أدب الاختلاف وتجنب سلبيات الخلاف .
-لا بد من التأكيد على أن للاختلاف أسباباً موضوعية مشروعة ووجيهة يجب إبرازها واستثمارها لرأب الصدع وإصلاح ذات البين.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل