عرض لمحاضرة المقاصد في الشريعة

 

عرض لمحاضرة المقاصد في الشريعة 

    التي القاها العلامة عبدالله بن بيه في مركز المقاصد بمكة المكرمة الاسبوع المنصرم

 

بقلم : الاستاذ محمدو بن عبدالله بن بيه

استهل مولانا الشيخ المحاضر برصد ما لقصد من معان مذكورة في كتب اللغة كالمقاييس لابن فارس واللسان لابن منظور والقاموس المحيط للفيروزابادي.

وبعد وعي الحاضرين لدلالتها اللغوية افرغ لهم في وعائها المعنى الاصطلاحي الذي استعمل في كلام الفقهاء والأصوليين تارة لمقاصد الشريعة أي ما يقصد الشارع بشرع الحكم وبعبارة أخرى :” مراد الحق سبحانه وتعالى من الخلق”.

وهو الذي تجليه العقول من نصوص الشرع فيتداخل مع العلل والأسباب والحكم مع اختلاف في بعض الشيات وبخاصة عند من يرى كالرازي العلل مجرد أمارات وعلامات وليست حكماً وغايات.

ونبه الشيخ إلى أن العلماء قد عبروا بعبارات مختلفة عن هذا المعنى واختار أن يبدأ بعبارات المتأخرين الذين نضجت لديهم نظرية المقاصد وتدرج بعد ذلك إلى عبارات المتقدمين التي تشكل جذور هذه التعريفات وأصولها.

وبعد جولة في التعريفات أدرك السامعون أن المقاصد تارة تكون حِكماً وغايات وتارة تكون أحكاماً تُحقِّق تلك الحكم وتارة تكون نوايا المكلفين وغايتهم.

وأوضح الشيخ للحضور كيف أن المقاصد هي فلسفة التشريع الإسلامي معللاً ذلك بتقديمها الإجابة لثلاثة أسئلة أساسية تواجه كل تشريع:

السؤال الأول: ما مدا استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة وهو ما سماه بعض القدماء بالقضايا اللامتناهية كابن رشد:

السؤال الثاني: ما مدا ملاءمة التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة.

السؤال الثالث: ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الالهي.

مذكراً بأن للغربيين ما يسمى بروح القوانين وعلى ضوئها يفسر القضاة والمحامون القوانين ويتأولونها فإن فلسفة التشريع في الغرب قد لا تبدو شمولية مستوعبة للزمان والمكان إذا قيست بنظرية المقاصد في الشريعة الإسلامية.

ثم وقف مولانا الشيخ مع ابتداء تصنيف الأصوليين للمقاصد الثلاثة فذكر أنها تبلورت إلى حد ما مع الجويني حيث رد الشريعة إلى مقاصد كبرى هي المقاصد الثلاثة، الضروري والحاجي والتحسيني في مبحث تقاسيم العلل والأصول.

وبعد ميز لما هو مقصد أصلي ومقصد تابع خطى مولانا الشيخ إلى استكشاف المقاصد واستشفاف الحكم والفوائد فذكر أن البحث عن المقاصد مطلب شرعي فهم من القرآن الكريم في سياقين أولهما صريح وثانيهما بالتلميح من خلال تضافر النصوص.

وأورد جملة أدلة كانت له الحجة البالغة على ما ذكر.

وهذه الدعوة إلى كشف مقاصد الشريعة واستشفاف الحكم فهمها السلف فتجلت في فقه الراسخين في العلم وظهرت في قضاياهم وفتاويهم رضي الله عنهم في أمور لم يسبق فيها حكم أو أمر منه عليه الصلاة والسلام أو سبق فيها حكم أو عموم فخصصوه في الزمان.

ويفتون فيما تجدد من قضايا اعتماداً على ما حفظوه من الوحيين وتارة اعتماداً ما فهموه من دلالة المقاصد.

وامتد هذا الفقه في عصر التابعين بنسب متفاوتة ﴿ فسالت أودية بقدرها ﴾ وأخذت كل مدرسة بنصيب ومع ذلك كانت الإشارة إلى مدرسة أهل المدينة بأنها مدرسة المقاصد إذ منها الفقهاء السبعة واستمر عمل أهلها على منهج ما ورثوه من تراث النبوة فوجد أوقافهم قائمة دليل على جواز الوقف.

وإذا كانت مراعاة المقاصد ظلت ماثلة في فقه الأئمة فإن التباين ظهر مبكراً في اجتهادهم اتساعاً وضيقاً لصوقاً بالنص وبعداً منه ويصف الشاطبي هذه الاتجاهات المتعارضة في موقفها من التعامل مع النص: فأولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.

 

 

والاتجاه الثاني: يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة فلا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنة وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.

والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله:

والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد.

إن تقسيم الشاطبي تقسيم دقيق إلا أنه يحتاج إلى تجلية وقد اختلفت المدارس الفقهية بين متمسك بظاهر النصوص مع دليل واحد هو الاستصحاب، وهؤلاء هم أهل الظاهر.

بينما قال الشافعية مع الظاهرية بظاهرها وزادوا بالقياس مع اضطراب في مذهبهم حول الاستصلاح.

وهؤلاء أقرب إلى حرفية النص.

وزادت المدارس المالكية والحنبلية والحنفية على الظاهر والقياس فقالت بالاستدلال وهو لغة طلب الدليل. قال الشوكاني: ” وهو في اصطلاحهم ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس “.

وفي آخر القرن الثاني بدأت تتبلور صورة المشهد المتباين والمتساكن والمتداخل والمتقابل وإن كان أئمة المذاهب الثلاثة الحنفية والمالكية والحنبلية لم يعلنوا عن هويتهم إلا من خلال اجتهاداتهم المتناثرة في المسائل التي تجسدت فيما بعد في قواعد فإن الإمام الشافعي رحمه الله سطر أصوله التي كان لدلالات الألفاظ فيها النصيب الأوفر والحظ الأوفى ولم يكتف بذلك فقد أوضح موقفه من الآخرين وبذلك قدم لنا مواقفهم كما يراها فتحدث عن الاستحسان وعن الذرائع معلنا موقفه المبدئي الحاسم منها.

وهكذا تميزت اتجاهات داخل المذاهب الأربعة التي تجمع بينها روابط نسب العلم بالأخذ المباشر بين أئمتها.

وخرجت من عباءة هذا الجدل المقاصد ومن المفارقات أن يكون الشافعية في طليعة مؤسسي الفكر المقاصدي من خلال مقولات إمام الحرمين الجويني وردوده اللاذعة على مذهب مالك وأبي حنيفة فعندما يلج النزاع ويحتدم الجدال وتلتك البراهين على حياض الاجتهاد في محاولة لضبط أوجهه خارج نصوص الكتاب والسنة والإجماع والقياس فيما سمى لاحقاً بالاستدلال كانت المقاصد الوسيلة والمعيار لهذا الضبط لأنها كلية مشككة وإن كانت قطعية بتفاريق أدلة شتى حسب عبارة الغزالي تقريباً.

وقد بدأ البحث عن المقاصد انطلاقاً من الرسالة ورد الفعل عليها والجدل حولها الذي اشترك فيه علماء من مختلف المذاهب أرسخهم القاضي أبو بكر الباقلاني إلا أن الفلسفة المقاصدية كانت مع الجويني سنة478 وتلميذه أبي حامد الغزالي سنة 505 وتلميذه أبي بكر ابن العربي سنة543 والعز بن عبدالسلام سنة660وتلميذه القرافي سنة 682هـ

مع آخرين كالرازي وأبي الخطاب وأبي الحسين البصري وغيرهم من الأصوليين والمتكلمين.

وإن تأخر رد فعل الأحناف ليكون في القرن الثالث فإنهم انخرطوا في جدل مع الشافعية وغيرهم في مختلف قضايا الخلاف التي يرجع بعضها إلى دلالات الألفاظ وبعضها إلى معقول النص أي المقاصد إلا أن تدخل المدارس الكلامية كالأشعرية والماتريدية والمعتزلة والشيعة أثرى الفكر المقاصدي وأوجد أسساً جديدة للحوار الدائر حول المسألة المقاصدية من خلال طرح إشكالية التحسين والتقبيح العقليين ووجوب الصلاح والأصلح أساساً لتعليل أحكام الباري جل وعلا وأفعاله ومسألة الباعث في التعليل فكان الفقيه الأصولي مدفوعاً لخوض غمار علم الكلام وأحياناً السباحة في بحر الفلسفة الأرسطية دون أن يكون قد أعد لها زورقها.

 

ويعد نثره لتلك الورود أطلعهم مولانا الشيخ على كيفية استنباط المقاصد وسبل استخراجها.

وزاد على ما ذكر الشاطبي وابن عاشور جهة خامسة هي: جهة الترك. وليس الترك مرادفاً للسكوت، فالترك هو فعل متعمد من الشارع.

 

الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها

نعني بهذا أن المقاصد بعد استنباطها واستخراجها من مكامنها كيف نجنى ثمرتها وكيف .تنجدنا. وترفدنا وتسعفنا وتتحفنا بفوائد تشريعية فأول استثمار لها هو ترشيح المستثمر الذي هو المجتهد ليكون مجتهداً موصوفاً بهذا الوصف لا بد من اتصافه بمعرفة المقاصد لقد بني الشاطبي اجتهاد المجتهدين على دعامتين من المعرفة هما: أولاً: معرفة اللغة العربية فيما يتعلق بدلالات الألفاظ ومقتضيات النصوص.

ثانياً: معرفة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلاً إذا تعلق الاجتهاد بالمعاني من المصالح والمفاسد.

 

ولهذا فيمكن أن نقرر وجود مقاصد كبرى قطعية ثابتة بأكثر من دليل في حكم التواتر ومقاصد ثانوية ثبوتها كثبوت العلل ومقاصد عامة تنتشر في كل باب من أبواب الشريعة ومقاصد خاصة تخص باباً واحداً أو طائفة من أحكام أحد الأبواب.

وبهذا يتضح توالد المقاصد وترابطها وتضامنها وتسلسلها وتراتبها في سلم العموم والخصوص تتدرج بين العام و الخاص وبين الأعم و الأخص. وهناك أيضا مقاصد المقاصد ومقاصد الوسائل.

وتعرض ابن عاشور لاحتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة فقال: إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء.

ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي والعلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمهما الله تعالى نقول: إنه يستنجد بالمقاصد في أكثر من ثلاثين منحى من مسائل الأصول يمكن أن نستعير لها كلمة المحائر والأكنسة لأنها مكامن لؤلؤ الحكم ومكانس ظباء المقاصد وجذور أرومتها وأقناس أجناسها.

خلاصة القول: إن المقاصد روح الشريعة وحكمها وغاياتها ومراميها ومغازيها.

وقد تباينت آراء الباحثين حول المقاصد من مبالغ في اعتبارها متجاوز لحدود عمومها حيث جعله قطعياً وجعل شمولها مطرداً غافلاً أو متجاهلاً ما يعترى العموم من التخصيص وما ينبرى للشمول من معوقات التنصيص.

فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد شامل.

ومن مجانب للمقاصد متعلقاً بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغى المقاصد والمعاني والحكم التي تعترض النص الجزئي وتحد من مدى تطبيقه وتشير إلى ظرفيته فهي كالمقيد له والمخصص لمدى اعتباره إلى حد المناداة بإبطال المصالح.

والمنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك يعطى الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه. وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي رحمه الله تعالى حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي.

وبما قدمنا نكون قد رمينا نظرية استقلال المقاصد عن أصول الفقه بالفند وأبنَّا الاندماج بينهما اندماج الروح في الجسد والمعدود في العدد.

فَإِن لا يَكُنها أَو تَكُنهُ فَإِنَّهُ       أَخٌ أَرضَعَتهُ أُمُّها بِلِبانِها

والقول الفصل إن للمقاصد أصولاً كبرى فوق علم الأصول وأصولاً عامة مشتبكة بمباحث الأصول وأخرى أخص من ذلك إلا أنها في خدمتها مفصلة لها مبينة تارة ومكملة تارة أخرى.

فمنظومة الشريعة لا يعزب عنها حكم ولا تغيب عنها حكمة وقد تفطن الأصوليون للمقاصد الكبرى وهي مقصد العبادة ومقصد الابتلاء والامتثال في مبحث التكليف.

لكن بحر المقاصد لا يزال زاخراً يتجدد عطاؤه وبخاصة في القضايا المتجددة وذلك في اتجاهين: قضايا لم يقم موجبها في الزمن الماضي ولم تظهر الحاجة إليها: فقام في هذا الزمان كما أشار إليه الشاطبي في احداث الصحابة أحكاماً في قضايا لم يكن مقتضاها قائماً في زمنه عليه الصلاة والسلام ولم يكن من نوازل زمانه كما يقول الشاطبي كجمع المصحف وتدوين العلم وتضمين الصناع. حسب عبارته.

ولأطبق هذه المعايير سأضرب أمثلة من عدة أبواب لأبدأ بالعبادات”. كذا قال الشيخ . وبعد ان ضرب الامثال وقدم البراهين ختم الشيخ المحاضرة قائلا:

“وبهذا نختم هذه المحاضرة التي أردنا أن تكون وجيزة حسب الإمكان ومُلمعة إلى ما وراءها من بيان نرجو أن تكون مقدمة لدراسات معمقة سيقوم بها هذا المركز المبارك إن شاء الله تعالى.

مع تنبيه الحضور إلى أننا لم نرد تكرير الشاطبي ولا ترديد ابن عاشور مع أننا اقتنصنا من شواردهما واستقينا من مواردهما معترفين لهما بالجميل إذ ليس المقلد كالأصيل منشداً قول الأنصاري:

لَيسَ قَطا مِثلَ قُطَيٍّ وَلا الــــمَرعِيُّ في الأَقوامِ كَالراعي

فهم الرعاة ونحن المرعيون ونحن التابعون وهم المتبعون والله المستعان.

وفقنا الله وإياكم إلى مقاصد الخير وخير المقاصد.

 

 

لخصه في عرض سريع

الاستاذ: محمدو بن عبدالله بن بيه

 

Comments are closed.