الفتوى: الحاجة والضرورة (1 ـ 2)
عطفاً على المقالتين السالفتين في الفتوى أردنا أن نردفها بتوضيح لمفهوم اضطربت فيه الفتوى ولم يحقق أي فريق فيه الدعوى، وهو علاقة الحاجة بالضرورة.
ومنذ فترة وفقهاء المجامع الفقهية يتنازعون التحليل والتحريم في قضايا مردها عند السبر إلى إلحاق الحاجة بالضرورة تارة وانفكاكها عنها تارة أخرى، وقد أدليت بدلوي في ذلك الجدال ببحثين في ندوتين إحداهما في جدة والأخرى بالكويت.
إذ أن إعمال الحاجة في الأحكام أصبح من المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس، أضف إلى ذلك أن أكثر القضايا الفقهية المعاصرة سواءً تلك التي وقع البت فيها من طرف المجامع أو تلك التي لا تزال منشورة أمامها ترجع إلى إشكالية تقدير الحاجة وتقدير الحكم الذي ينشأ عنها: هل تلحق بالضرورة فتعطي حكمها أو لا تلحق بها..
سواءً كانت قضايا طبية تتعلق بعلاج العقم مثلاً أو الإجهاض ، أو قضايا اقتصادية تتعلق بالعقود الجديدة من إيجار ينتهي بالتمليك أو تأمين بأنواعه ، أو أحكام الشركات والأسهم وعقود التوريد والشروط الجزائية الحافزة على الوفاء بمقتضى العقد أو أداء الديون لما آل إليه الأمر في قضايا التضخم ما يعني أن تحديد علاقة الحاجة بالضرورة أصبح مفتاحاً لاقفال معضلة المعاملات الفقهية في العصر الحديث بالإضافة إلى أهمية هذا الموضوع في فقه الأقليات.
فلنبدأ بتعريف الضرورة. ثم بتعريف الحاجة.
الضرورة لغة: قال الفيروز آبادي في القاموس ممزوجاً بشرحه: «والاضطرار الاحتياج إلى الشيء» وقد «اضطر إليه» أمر «أحوجه وألجأه فاضطر ـ بضم الطاء ـ بناؤه، افتعل جعلت التاء طاء لأن التاء لم يحسن لفظه مع الضاد «والاسم الضرة» بالفتح.
قال دريد بن الصمة:
وَتُخرِجُ مِنهُ ضَرَّةُ القَومِ جُرأَةً……… وَطولُ السُرى دُرِّيَّ عَضبٍ مُهَنَّدِ
أي تلألؤ عضب.
وفي حديث علي رضي الله عنه رفعه أنه نهى عن بيع المضطر.
قال ابن الأثير: وهذا يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه، قال: «وهذا بيع فاسد لا ينعقد، والثاني أن يضطر إلى البيع لدين ركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس للضرورة، وهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه، ولكن يُعان ويُقرض إلى الميسرة أو تُشترى سلعته بقيمتها فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه صح ولم يفسخ مع كراهة أهل العلم له».
ومعنى البيع هنا الشراء أو المبايعة أو قبول البيع.
وقوله عزَّ وجلَّ «إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم» أي فمن أُلجئ إلى أكل الميتة وما حرم وضيّق عليه الأمر بالجوع وأصله من الضرر وهو الضيق.
«والضرورة الحاجة» ويجمع على الضرورات «كالضارورة والضارور والضاروراء»، الأخيران نقلهما الصاغاني وأنشد في اللسان على الضارورة:
أََثيبي أَخا ضَارورَةٍ أَصفَقَ العِدى عَلَيهِ وَقَلَّت في الصَديقِ أَواصِرُه
وقال الليث: الضرورة اسم لمصدر الاضطرار تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا.
قلت: فعلى هذا الضرورة والضرة كلاهما اسمان فكان الأولى أن يقول المصنف كالضرة والضرورة ثم يقول وهي أيضاً الحاجة الخ كما لا يخفى.
وفي حديث سمرة يجزئ من الضارورة صبوح أو غبوق. أي إنما يحل للمضطر من الميتة أن يأكل منها ما يسد الرمق من غداء أو عشاء وليس له أن يجمع بينهما. و«الضَرَرُ» محركة «الضيق» يقال مكان ذو ضرر أي ذو ضيق.
وإنما ذكرت هذا النص على طوله ليستبين القارئ الشيات اللغوية التي كانت ـ وبدون شك ـ عاملاً من عوامل تفاوت أقوال الفقهاء في معنى الضرورة.
وقد يكون من المطلوب أن ينبّه إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذا النص لتعريف الضرورة وهي الاحتياج والحاجة والإلجاء والضيق وما يكون حافزاً لها من دين يركب المضطر أو مؤنة ترهقه أو إكراه يجبره أو جوع يلجؤه أو أعداء يصفقون عليه كل هذه المعاني التي أشار إليها أهل اللغة وهي معانٍ تشير إلى الشدة والحرج هي التي دندن حولها الفقهاء كما سترى.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط
(الخميـس 26 جمـادى الاولـى 1427 هـ 22 يونيو 2006 العدد 10068)