وماذا عن ميراث العنف لدى الآخرين؟
وما زالت الاتهامات الخاطئة توجه لصورة الاسلام الحضارية،ومن أبرز هذه الاتهامات أن الاسلام هو دين عنف في جوهره ، ودين قطيعة مع الآخر، اعتمادا على اقتطاعات غير موفقة من النصوص.
في السياق التالي نجلي الصورة، وأنه بالامكان قلب هذا المنهج ازاء الآخرين.
مع أن إسلامنا دين سلام وتسامح كما بينا جليا في المقال السابق.
ينبغي أن نقارن هذا بالنصوص التالية من العهد القديم لنرى كيف كان هذا الدين الحنيف رحمة للعالمين ففي التوراة مثلا تقسم الشعوب إلى قسمين: فبخصوص الفئة الأولى يطلب يهوه من شعبه أن يعرضوا عليهم شروطاً للسلام (سفر التثنية: إصحاح 10:20) فإذا قبلوا واستسلموا فعليهم أن يكونوا عبيداً لإسرائيل بالسخرة (التثنية: 20 ـ 11)
أما إذا لم يستسلموا لكم سلمياً وحاربوكم وبعد ذلك انتصرتم عليهم فاقلتوا كل رجالهم بحد السيف (التثنية:13 ـ 20)
أما «النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها» يأخذها المنتصر غنيمة (التثنية 20 ـ 14).
إلا أن هذا الاستعمال المصنّف والمدرّج لا ينطبق على الشعوب غير العبرانية المقيمة داخل أرض الميعاد.
فهؤلاء تحل عليهم اللعنة وهو مصطلح غالباً ما يترجم «بالحرمان» أو «الدمار المقدّس» أو «لعنة الدمار».
وفي سياق لاهوت سفر التثنية فإن إحلال اللعنة على جماعة إنما هو صنو للإبادة الكاملة لحياتهم الشخصية والاجتماعية والروحية. كما يقول الباحث الألماني توماس شفلن. قلت: ونحن نؤمن بالتوراة الأصلية كتاباً منزلا من عند الله تعالى فيه هدى ونور لكن ممارسات البشرية هي التي حرفت المضمون وأساءت التطبيق. لقد أقام الإسلام العلاقة مع المخالف في الدين، على المودة، والبر، ما لم يعتد علينا «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» يقول ابن العربي المالكي: أي تعطوهم قسطاً من المال.
وأمر بالسلام: «وأَنْ تُقْرأَ السَّلامَ على مَنْ عَرَفْتَ ومَنْ لَمْ تَعْرِف». وهو جزء من حديث صحيح.
وهذه شهادات غربية منصفة عن ممارسة المسلمين:
يقول بحق توماس ارنولد: لو اختار الخلفاء المسلمون تنفيذ إحدى الخطتين ـ الإغراء أو الاستئصال ـ لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى بها فردندو وايزابلا دين الإسلام من الأندلس أو التي جعل بها الويس الرابع عشر المذهب البروتستانتي مذهباً يعاقب عليه متبعوه في فرنسا أو بتلك السهولة التي ظل بها اليهود مبعدين من إنجلترا طيلة ثلاثمائة وخمسين سنة».
ويكتب تاجر إنجليزي كان يعيش في تركيا القرن السادس عشر وتحديدا 1578 واسمه ريتشارد ستيير مقارنة بين معاملة الأتراك المسلمين للارثودكس وبين معاملة الإسبان الكاثوليك لهم قائلاً: وعلى الرغم من أن الأتراك بوجه عام شعب من أشرس الشعوب فقد سمحوا للمسيحيين جميعاً للإغريق منهم واللاتنيين أن يعيشوا محافظين على دينهم وأن يصرفوا ضمائرهم كيف شاءوا بأن منحوهم كنائسهم لأداء شعائرهم المقدسة في القسطنطينية وفى أماكن أخرى كثيرة جدا على حين أستطيع أن أكد بحق بدليل أثنتي عشرة سنة قضيتها في إسبانيا أننا لا نرغم على مشاهدة حفلاتهم البابوية فحسب بل إننا في خطر على حياتنا وممتلكاتنا».
ويقول الباحث الألماني توماس شفلين وهو يقدم صورة عن الإسلام ما يلي: لم يكن العنف فضيلة بحد ذاته بل كان الإسلام بالأحرى مسخراً لتهذيب العنف القبلي العربي بإخضاعه للقوانين الإلهية.
وكما أوضح غولدتسيهر (1850 ـ 1921) فإن مصطلح الجاهلية الذي كان يشير عادة إلى جهل المجتمع القبليّ قبل الإسلام له في الأساس معنى أوسع من ذلك وهو «الهمجية أي السلوك غير المتحضّر والمتهور والمتوحش لأولئك الأشخاص الذين لم يتأثروا بالوحي والرحمة الإلهيين».
ويصف مكاريوس وهو يشكو من معاملة البولنديين الكاثوليك للارثوذكس البولنديين بأنهم ملعونون وأنهم مردة الرجس وأن قلوبهم متحجرة وذلك بما أظهروه من قسوة في معاملة المسيحيين قائلاً: أدام الله بقاء دولة الترك خالدة إلى الأبد فهم يأخذون ما فرضوه من جزية ولا شأن لهم بالأديان سواء كان رعاياهم مسيحيين أم ناصريين يهودا أو سامرة أما البولنديون ـ الكاثوليك ـ الملاعين فلم يقنعوا بأخذ الضرائب والعشور من إخوان المسيح بل وضعوهم تحت سلطة اليهود الظالمين أعداء المسيح الذين لم يسمحوا لهم حتى بأن يبنوا كنائسهم ولم يتركوا لهم قسساً يعرفون أسرار دينهم».
وفي الأخير يجب أن ننبه على ثلاثة أمور ليتأملها المنصفون من الغربيين.
أولاً: أن الإسلام عند ظهوره لم تكن العلاقات بين دول العالم قائمة اعلى قانون القوة الذي يفترض العداء الدائم للآخر إذا لم يستسلم أو يتماهى مع القوى ديانة وثقافة وأعرافاً وتقاليد وأمام هذا الوضع كانت تعاليم الدين الإسلامي تدعو إلى السلام «وإن جنحوا للسلم فأجنح لها» وإقامة المعاهدات مع الخصوم «إلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»
ثانياً: إن سنة الله عز وجل جرت في رسله وأنبيائه بتكليف بعضهم بما لا يكلف به البعض فمنهم من كلف بالدعوة إلى عبادة الله والوعظ والإرشاد وهذه كانت طبيعة دعوة عيسى عليه السلام وكانت طريقة نبينا عليه الصلاة والسلام طيلة 13سنة من أول دعوته فكان الأمر إلى أصحابه بالصبر والصفح فقتل بعضهم التعذيب بمكة وهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة ومن الرسل من كلف بالإضافة إلى الدعوة بإقامة دولة الحق ونزلت عليه شريعة مفصلة وأمر بتطبيقها في حياة الناس وهذه كانت سيرة موسى عليه السلام وكانت طبيعة رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بعد هجرته إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام مما اقتضى الجهاد لرد العدوان ومعالجة المعتدى مع ما يترتب على ذلك من آليات الغاية منها سياسة البشرية بالعدل.
ثالثاً: إن جوهر الرسالة لا يحاكم على ضوء سلوك الأتباع وتصرفاتهم فسلوك حكام المسلمين تجاه الخصوم على مر التاريخ كان فيه الصواب والخطأ ونحن لا نبرئ تاريخنا إلا أن صوابه كان أكثر من خطئه وعدله كان أكثر من جوره وبخاصة إذا قورن بسلوك جيراننا المسيحيين في حروبهم على الإسلام سواء تلك الإبادة في الأندلس والحروب الصليبية التي دامت قرنين والحروب الاستعمارية التي امتدت ثلاثة قرون مما أجهض كل نهضة للعالم الإسلامي أو كما يقول الأبوان جوزف كوك ولويس غارديه عن الحروب الصليبية إنها حطمت انطلاق المسلمين الحضاري.
وهذه الحرب التي بدأت مع مطلع هذا القرن التي لا يعلم غاية نهايتها إلا الله تعالى في كل هذه الحروب سفك المسيحيون بشهادة مؤرخيهم دماء أعداد هائلة لا يمكن حصرها من المسلمين الأبرياء وكذلك من اليهود وبرهنوا عن همجية لا نظير لها في التاريخ إلا ما كان من حملة التتار على بغداد في فترة من التاريخ إلا أنهم لم يعتذروا للمسلمين كما اعتذروا لليهود فهل يمكن أن ننسب إلى عيسى عليه السلام ما ارتكبه المسيحيون ضد الإنسانية؟
هل لدى فخامة البابا الشجاعة التاريخية للاعتذار للمسلمين بدلا من تكرار الجدل البزنطي؟
وسنتابع مع بقية المقولات البابوية في حلقات مقبلة.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(لخميـس 27 رمضـان 1427 هـ 19 اكتوبر 2006 العدد 10187)