هل الإسلام سيف مسلول ورمح مشرع؟!
في هذا المقال نوضح جانبا من أحكام الإسلام الصحيحة تجاه مفهوم الجهاد، وتطبيقاته العملية.
من ذلك أن الجهاد قد يكون أعمالاً حربية، كما أن هناك أعمالاً حربية ليست جهاداً، ولهذا قسم ابن خلدون الحرب إلى أربعة أنواع، وذلك حسب دوافعها قائلا: إن أصل جميع الحروب إرادة الانتقام، نوعان منها حروب بغي وفتنة: حرب المنافسة (التوسع)، وحرب العدوان التي تقوم بها الأمم المتوحشة.
ونوعان عادلان: حرب غضب لله تعالى ودينه وهي جهاد.
وحرب على الخارجين عن السلطان، وهي حرب للعناية بالملك كما سماها.
والحق أن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مرادفا دائما للقتال، فالجهاد مفهوم واسع فهو دفاع عن الحق ودعوة إليه باللسان وهذا هو المعنى الأول قال تعالى: «وجاهدهم به جهاداً كبيراً» في سورة الفرقان أي بالقرآن الكريم أقم عليهم الحجة وقدم لهم البرهان تلو البرهان ومعلوم أن تلاوة القرآن لا تتضمن أعمالا حربية فليس كل جهاد قتالا، وليس كل قتال جهادا والجهاد دعوة إلى الحرية.
زعم قوم أن الإسلام سيف مسلول ورمح مشرع، إلا أن من يراجع أسباب النزول وتاريخ تطور النزاع بين الإسلام وخصومه، يمكن أن يفهم أنه لا تعارض بين الآيات الحاثة على القتال كقوله تعالى «وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ»، والتي وردت في سياق حرب قائمة بالفعل، وبين الآيات التي تحدد هدف القتال بأنه دفاعي؛ إذ أنه لا يجوز اقتطاع الآيات عن سياقها الكلي كما يحاول المستشرقون وتلاميذهم أن يفعلوه.
وبهذا المنطق يمكن اعتبار المسيحية دين حرب، إذا حكمنا عليها من خلال الفقرة 24 الواردة في إنجيل متى الإصحاح العاشر مما نسبه إلى سيدنا عيسى عليه السلام: «لا تظنوا أني جئت لألقى سلاماً على الأرض، ما جئت لألقى سلاما بل سيفاً».
فالحرب في الإسلام، إنما هي حرب دفاعية وليست لإجبار الناس على الدين. كما يرى ابن تيمية في رسالة القتال حيث يقرر أن: «حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين (27 غزوة) كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته أنه لم يبدأ أحداً بالقتال».
وبذلك يكون مفهوم الجهاد عند ابن تيمية دفاعيا فقط، وهو الذي تشير إليه الآيات القرآنية العديدة مبينة أسبابه، وهو الظلم المتمثل في الطرد عن الديار والحجر على الحرية الدينية:«أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا».
وهذه الآية يعتبرها المفسرون أول آية نزلت في القتال يقول ابن هشام في سيرته في شرحه لسبب نزول هذه الآية: بسم الله الرحمن الرحيم قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائيّ عن محمد بن إسحاق المطلبي: وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل بيعة العقبة لم يُؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتـنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم فهم من بين مفتون في دينه، ومن بين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد فراراً منهم. منهم من بأرض الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه فلما عتت قريش على الله عز وجل وردّوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه عليه السلام وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه أذن الله عز وجل لرسوله عليه السلام في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم فيما بلغني عن عُروة بن الزبير وغيره من العلماء
قول الله تبارك وتعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور».
أي أني إنما أحللت لهم القتال؛ لأنهم ظلموا ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أن يعبدوا الله وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر يعنى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
والسبب الآخر هو إنقاذ المستضعفين وإسعافهم وهذا ما تشير إليه آية سورة النساء: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا وأجعل لنا من لدنك نصيرا».والسياق الثالث: رد العدوان في سورة البقرة «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين».
وقد اعتبرها ابن جرير أول آية نزلت في القتال ومعناها أنه ليس لك أن تشن حرباً على عدوك وإنما عليك ردُّ عدوانهم وذلك في سبيل الله؛ لأنك تدافع عن نفسك وأنت مظلوم فأنت على حق.
وفي هذا المعنى من رد العدوان وإيقاف الظالم عند حده دون زيادة »وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين».
«ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور».
نلاحظ في الآيتين الأخيرتين الإشادة بفضيلة الصبر والتسامح بعد الإذن بالدفاع ضد الظالم.
وهذه الحرب تخضع لكل معايير الفضيلة ـ ردّ على العدوان.لا إفراط فيه في استعمال القوة. إسعاف للضعفاء. إفساح المجال للحرية الدينية ـ لها ضوابطها الشديدة في الحفاظ على المدنيين والضعاف والعمال الفلاحين والأجراء ورجال الدين والنساء.
والمحافظة على الأشجار المثمرة وعلى الحيوانات والمنع من حرق الغابات وإيذاء غير المقاتلين، واحترام المعاهدات احتراما شديدا حتى ولو كانت في بعض الأحيان تبدو مجحفة إنها حرب نظيفة ـ فيها قيادة واحدة وليست لعبة دموية يقوم فيها الجيش بقتل من يشاء وينهب ما يشاء ويهجم ويغير على من يشاء ـ إنها حرب ضرورة إنها بلغة العصر حرب يؤيدها القانون الدولي والمعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة وبخاصة المادة 51.
واتفاقيات حلف شمال الأطلسي في المادة الخامسة ينص على ما يلي: «تعتبر أطراف الاتفاقية أن أي هجوم عسكري ضد أي منها يقع في أوروبا وأمريكا الشمالية موجهاً ضد جميع الأطراف، وتعتبر في حالة وقوع ذلك أن كل واحد منها يمارس حق الدفاع المشروع فردياً وجماعياً المعترف به «الدفاع الشرعي» في المادة الحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة يساعد كل منهم الآخر فرديا أو باتفاق الأطراف».
ما أكثر الاغاليط المتعلقة باسلامنا، والتي نواصل الحديث حولها في المقال التالي، بعون الله.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(لخميـس20 رمضـان 1427 هـ 12 اكتوبر 2006 العدد 10173)