طبعة جديدة من الرسوم المسيئة!
لم تمض إلا أشهر يسيرة على الرسوم الدنماركية السيئة السمعة حتى ظهرت طبعة جديدة لهذه الرسوم، لكن الرسام في هذه المرة لم يكن صحفياً مغموراً بل كان رجلاً مشهوراً بل هو أكبر رجل دين في الغرب فهو رئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا بنديكت السادس عشر الألماني الأصل الذي طلع على العالم في محاضرة في جامعة بالمانيا باقتباس لكلام الامبراطور مانويل الثاني البيزنطي ينال فيها من الإسلام ونبيه ويكيل الاتهامات جزافاً، مركزاً على مفهوم الجهاد الذي ادعى أنه إكراه للناس على اعتناق الدين الإسلامي. مؤكداً منافاة ذلك للعقلانية بطبيعة الرب.
مضيفاً إلى ذلك مقولة المشيئة المطلقة للرب جل وعلا والتي بمقتضاها حسب زعمه واستشهاده بكلام منسوب لابن حزم الظاهري بأنه يجوز أن يأمر الباري بعبادة الأوثان.
هذه الفقرات من المحاضرة أثارت ما كان يتوقع أن تثيره من ردود فعل ساخطة في العالم الإسلامي ومتأسفة أحياناً في العالم الغربي وأثارت الكثير من الدهشة والاستغراب والتساؤلات.
لكن التساؤل لم يكن موجهاً إلى المضمون بقدر ما كان موجهاً إلى الدوافع والغايات بالنظر إلى ما يكتنف المحاضرة من بيئة عالمية مأزومة وقرائن حافة تجعل للكلمة الأثر والخطر وبخاصة إذا صدرت عن مرجع من أكبر المراجع الدينية في العالم وأكثرها أتباعاً وحضوراً في صياغة العلاقة بين الدين والسياسة على الساحة الدولية.
مما يرجح فرضية اندراج تصريحات رئيس الكنيسة الكاثوليكية في سياق الحروب التي تشنها قوى غربية في مناطق من العالم الإسلامي تحت عنوان مكافحة الإرهاب بل يوفر بُعداً دينياً لهذه الحروب وإنها لا تعدو أن تكون نسخة من الحروب الصليبية مكررة بوجوه أخرى وتبريرات تخفي النوازع والدوافع الحقة لها وأن البابا يحي سيرة سلفه البابا بربان الثاني آمر الحروب الصليبية الأولى 1096م.
ذلك واحد من بين تفسيرات أخرى لا تنأى كثيراً عن إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب ومنها أن تزايد أعداد معتنقى الديانة الإسلامية في ديار الغرب يقلق البابا ولذلك لابد من توتير العلاقة مع المسلمين وشيطنتهم في أعين المسيحيين لكبح تطلعهم إلى هذا الدين الذي لا يفقد حيويته على كر الزمان ويستعصى على الادماج والذوبان فيكون خطاب البابا موجهاً إلى العلاقة بين الغربيين والأقليات المسلمة في هذه الديار.
إذا كانت هذه الاعتبارات غائبة عن ذهن البابا الذي أكد فيما بعد أنه لم يكن يريد الإساءة إلى الإسلام فإنها لا يمكن أن تغيب عن أذهان العالم الذي يتابع وتابع أحداث استعمال الذخيرة الحية من حدود باكستان إلى فلسطين.
وإذا افترضنا أنه لم يكن يريد الإساءة إلى الإسلام فماذا كان يريد؟ هل كان البابا يجهل مآلات تصريحاته على التعايش بين المسلمين والمسيحيين في اندونيسيا ـ أكبر بلد مسلم ـ التي اعتنقت الإسلام منذ مئات السنين بالدعوة الحسنة دون أن يرفع فيها سلاح وعلى لبنان حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون منذ ألف واربعمائة سنة وعلى نيجيريا وكل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
لقد شجبنا دائماً تلك الفتاوى المتعصبة التي تدعو إلى الكراهية وتصب في جدول الإرهاب من شيوخ مسلمين لا ينظرون في مآلات فتاواهم وعواقب أقوالهم فنحن اليوم أمام فتوى شيخ الكنيسة الأكبر وهي فتوى لا تعالج داء الإرهاب ـ الذي ندينه بكل قوة ـ بالتأكيد ولا تشجع على الحوار الذي لاحظنا تراجع أسهمه منذ اعتلى الباب بنديكت كرسي البابوية وقد اشتركنا في بعض دورات الحوار بعد توليه سدة الفاتيكان فواجهنا منطقاً غير مقبول مما حملنا على الاعتذار عن اجتماع دعت إليه منظمة سانت جيديو النشطة في شهر فبراير الماضي.
عواقب هذه التصريحات يمكن أن تكون كارثية على أولئك المساكين في آسيا وإفريقيا من المسلمين والمسيحيين الذين يرغبون في السلام والعيش الهادئ المشترك..
ويؤجج روح التعصب والصراع فهل كان البابا يجهل هذا أم كان يعرف ويتصرف لإحداثه كلا الافتراضين صعب القبول. إن ذلك حتماً ينافي وظيفة رجل الدين ورجل السلام الذي يفترض أن يكونه البابا. هذا عن سياق التصريحات وتداعياتها التي لم تنته بعد والتي نتمنى من كل قلوبنا أن تنتهي بسلام وندعو المسلمين أن لا يرتكبوا أي أخطأ أو خطيئة في حق جيرانهم ومواطنيهم المسيحيين كما نطلب من المسيحيين بالمثل في ديار الأقليات المسلمة.
أما عن مضمون ذلك الاستشهاد والاقتباس فإنه لا يعدو أن يكون دعوى تفتقر إلى دليل ونحن نثبت عكس ذلك لعظيم الكنيسة الكاثوليكية بالدليل الشرعي وبوقائع التاريخ وبشهادة المنصفين من الغربيين الذين كان الاستشهاد بهم أجدى من الاستشهاد بإمبراطور يمثل طرفاً في الحرب مع المسلمين.
أولاً: الدعوى بأنه عليه الصلاة والسلام لم يأت إلا بالشرور فهي دعوى لا تستحق الرد فهو قد هدى البشرية إلى عبادة الله الواحد الأحد والتوحيد الخالص والإيمان بالرسل والأنبياء وجاء بتبرئة مريم البتول مما أتهمها به اليهود وأن عيسى رسول الله وعبده وروح الله وكلمته. وجاء بإقامة العدل والأخوة بين الناس والتكافل والتضامن وإعانة الفقير وإغاثة الملهوف والمساواة بين الناس.
فهل هذا هو الشر؟
وسنواصل الرد، في المناسبات المقبلة، على الشبهات الأُخر وهي: مفهوم الجهاد وإكراه الناس على اعتناق الإسلام. ومسألة المشيئة المطلقة للباري جل وعلا وتعلقها بالشر، والإسلام والعقل.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 06 رمضـان 1427 هـ 28 سبتمبر 2006 العدد 10166)