هل هناك نظرية قيمية عامة تصلح للجميع؟ (4)
تحدثنا في المقال السباق عن الخطوة الثالثة من خطوات نجاح التواصل وهي : الاعترافُ بالاختلافِ للوصولِ إلى التعارفِ والائتلاف ِ واشرنا الى بعض نقاط الاختلاف القيمي كاختلاف المصدر ووعدنا بشرح «نظرية النظام العام» في القضايا الفكرية المتنازع فيها وما يترتب عليه من نتائج .
فنقول: إن النظام العام يُعتبر مبدأ قانونياً غامضاً وفلسفياً وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام بـ«المعروف»، أو «قاعدة المصلحة» على اختلاف في المدلولين، وقد أشار إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كشرطٍ من شروط التطبيقِ الميدانِي لمقتضياتِ الإعلانِ في المادة التاسعة والعشرين: «يخضع الفرد في ممارسة حقوقهِ وحرياتهِ لتلكَ القيودِ التي يقررها القانونُ فقط ؛ لضمانِ الاعترافِ بحقوقِ الغيرِ وحرياتهِ واحترامها، ولتحقيقِ المقتضياتِ العادلةِ للنظامِ العامِ والمصلحةِ العامةِ والأخلاقِ في مجتمع ديمقراطي».
وقد فسر القانونيون النظامَ العامَّ بأنَّه :«أمرٌ يتعلقُ بتحقيقِ مصلحةٍ عامةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أوْ اجتماعيةٍ تتعلقُ بنظامِ المجتمعِ الأعلى، ولا نستطيعُ أنْ نحصرَ النظامَ العامَّ في دائرةٍ دونَ أخرى، فهو أمرٌ متغيرٌ يضيقُ ويتسعُ حسبما يعدُّه الناسُ في حضارةٍ معينةٍ مصلحةً عامةً، ولا توجد قاعدةٌ ثابتةٌ تحدِّد النظامَ العامَّ تحديدًا مطلقًا يتماشَى معَ كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لأنَّ النظامَ العامَّ شيءٌ نسبيٌ، وكلّ ما نستطيعُه هو أن نضعَ معيارًا مَرِنًا يكونُ معيارًا للمصلحة العامة، وتطبيق هذا المعيارِ في حضارةٍ معينةٍ يؤدِّي إلى نتائجَ غيرِ التِي نصلُ إليها في حضارةٍ أخرى».. هذا ما يراه السنهوري.
إن تعريفَ السنهوري هو تعريفٌ دقيق للنظام العام مِن كونِه مبدأً يختلفُ من نظامٍ إلى آخر، ومن حضارةٍ إلى أخرى؛ باعتبارِه راجعًا إلى النظامِ الأعلى للمجتمع؛ ولهذا عبَّر عنه بعضُ القانونيين الغربيين بأنَّه مبدأٌ غامض، وأنَّ هذا الغموض متعمَّد ليتيحَ للسلطاتِ المعنيَّة تقديرَ الحاجةِ إلى التدخل مثلاً، فهو غموضٌ يؤسِّس للمرونة التي يَقصدُ المقننُ إليها لتحقيقِ المصلحةِ المتوخَّاة.
ويرَى السنهوريٌّ في كتابه «مصادر الحق» أنَّ النظامَ العامَ يرادفُه في الفقهِ الإسلامي «حقُّ اللهِ تعالى» في مقابلِ الحقِّ الخاص، وهو حق لا يمكن إسقاطُه ولا العفوُ، وبني على ذلك كثير من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة .
ومن أمثلةِ ذلكَ في الشريعةِ أنَّه لا يمكنُ أنْ يتنازلَ الشخصُ عنْ نسبِه ليُنسبَ إلى غيرِ أبيهِ، وكلُّ العقودِ التي يعترض فيها الشرعُ على إرادة المتعاقدين: كالعقودِ الربويةِ، والعقدِ على المحرمات: كالخمر ، والخنزير. (1/86 ).
إنَّ النظامَ العامَّ قد يرادفُ العرفَ، وهذا حيثُ يوجدُ فراغٌ تشريعي، وهو أكثرُ «النظام العام» عند الغربيين؛ ولكنَّه قد يكون تطبيقاً لنصٍّ أو قاعدة ، وحينئذٍ يكونُ قريبًا من حقِّ اللهِ تعالى، الذي أشار إليه العلامةُ السنهوري .
وقدْ أشارَ القانونيُّ الفرنسي هنري كابتان إلى أنَّ «النظام العام» قد يكونُ ناشئًا عن مبادئَ غير مكتوبةٍ، ومبادئ مكتوبة ؛ حيثُ يقولُ: إنَّ النظامَ العام هوَ مجموعةُ المبادئِ المكتوبةِ وغيرِ المكتوبة، التي تُعتبرُ في النظامِ القضائيِ أساسيةً؛ ولهذَا فإنَّها تلغِي أثرَ الإرادةِ الفرديةِ ومفعولَ القوانينِ الأجنبية».
ويقولُ كريستوفُ فينبر أيضاً، وهو المحاضرُ في جامعة روان بفرنسا،: إنَّ مبدأَ النظامِ العام مبدأٌ غامضٌ لأنَّه يختلفُ بحسبِ الوقائعِ والظروفِ والوضعِ المجتمعِي وأصولِ وأهدافِ المجموعةِ تبعاً للفلسفاتِ والأخلاقياتِ والسياسيات».
( راجع بحثه القيم في دورية القانون الدستوري تحت عنوان: النظام العام في فقه قضاء المجلس الدستوري ـ باللغة الفرنسية)
وللحديث صلة.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(لخميـس 07 ربيـع الاول 1427 هـ 6 ابريل 2006 العدد 9991)