بحثا عن المشترك مع الآخرين(6)

 

اذا كان عقلاء العالم اليوم يشكون من غلبة منهج المواجهة بين الحضارات على منهج الاتصال، وتهدم الجسور، فإن من ضمن ما يجب ابرازه، والتأكيد عليه، قطعا لنهج الصدام، هو جلاء مشتركات الحضارات. وهي الخطوة التي نتحدث عنها هنا، ضمن احاديثنا السابقة عن مشكلة التواصل والانقطاع بين الحضارة الاسلامية وغيرها.

وهنا نقول إن من اسباب هذا الاتصال الحضاري هو إبراز المشترك بين الطرفين الذي قد يكونُ خافياً أو خافتاً أو قد يكونُ إطلاعُ الطرفين بعضِهم بعضاً عليه يسهِّل عمليةَ التواصل والانطلاق منه إلى آفاق المختلف فيه لتسهيل عملية التواصل.

ولهذا يجب توظيف المشترك في ثلاث دوائر:

دائرة القيم الإنسانية: فكلُّ الناسِ يبحثونَ عن العدلِ والسلامِ ويبغضونَ الجورَ والطغيانَ فما لا يرضاهُ لنفسِه لا يرضاه لغيرِه، إنَّه الضميرُ الإنسانيّ الذي يجب أن ننبهه من خلال القيمِ التي يؤمنُ بها الناسُ ـ كل الناس ـ فهناك معايير لا يختلف عليها الناس لأنها ترجع إلى العقل وهو كما يقول ديكارت أفضل الأشياء توزيعاً بين الناس ومبادئ الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي المسألة المعروفة في الفلسفة الإسلامية بالتحسين والتقبيح فقد قالَ القاضي عبدُ الجبار المعتزلي: إنَّ قبحَ القبيحِ وحسنَ الحسنِ مِن العلومِ الضروريةِ التِي يخلقها اللهُ في الإنسان».


وقد قال ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيم: إنَّ الأفعالَ حسنةٌ في نفسها أو قبيحة، وإن العقلَ يدركُ هذا الحسنَ والقبحَ في بعضِها دونَ الآخر.

فقد قال ابن القيم في مدارج السالكين: إنَّ قولَه تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الأعراف:157.

يؤكدُ أنَّ هذا الدينَ الذي جاءَ بهِ يأمرُ بما تشهدُ العقولُ الصحيحةُ بحسنِه، وينهَى عمَّا تشهدُ بقبحِه.


واختارَ القولَ بالحسن والقبح العقليين الأحنافُ، وهو مرويٌّ عن أبي حنيفةَ نفسِه، واختارَه أبو الخطابِ الكلوذانيِّ وأبو الحسنِ التميميِّ منَ الحنابلة، ومنَ الشافعيةِ أبو علي بنُ أبي هريرةَ وأبو بكر القفالُ الشاشيُّ الكبير.


واختارَ إمامُ الحرمينِ القولَ بالتحسينِ والتقبيحِ العقليينِ في أفعالِ العبادِ دونَ أفعالِ اللهِ تعالَى، وتبعَه الغزاليُّ، ويتداخلُ في نظرةِ المسلمينَ إلَى حدٍّ كبيرٍ الحسنُ والخيرُ.

وبالجملة: فإنَّ مَن يقولُ بالتحسينِ والتقبيحِ العقليينِ يجعلُ أساسَ القيمِ العقلَ، وهو أمرٌ مشتركٌ بينَ الإنسانيةِ جمعاء: فالعدلُ حسنٌ، والجورُ قبيحٌ … إلى آخر قائمة القيم. فكما قالَ ديكارت: إنَّ العقلَ هوَ أحسنُ الأشياءِ توزُّعًا بالتساوي بينَ البشرِ كلهم».


والوثيقةُ الدولية لحقوق الإنسان تمثِّلُ أهمَّ محاولةٍ لتوظيفِ المشتركِ الإنسانِي.

دائرةُ القيمِ الدينية: معَ أصحابِ الرسالاتِ السماويةِ ؟ قلْ يَا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلَى كلمةٍ سواء بينَنا وبينَكم؟؟ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون؟.


والحضارة الغربية مسيحية كما يرى هنتر ميد قائلاً: وحينَ نقولُ: المسيحيُّ فإننا نعني بالنسبة للفلسفة «التوحيدي»، فالإيمان بإلهٍ واحدٍ يحكمُ الكونَ الذِي خلقَه أساسٌ للتفكيرِ الدينِي للغربِ.. وهذهِ الأوامرُ أوامرُ الإلهِ شاملةٌ تنطبقُ على الناسِ جميعًا في كلِّ مكان».

وهذا الإيمانُ مشتركٌ، كما نبه عليه بعضُ رجالِ الدينِ المسيحيين المنصفينَ مثل هانس كيونج عندما يقولُ: بالنسبةِ لليهودِ والمسيحيين والمسلمين فإنَّ الإيمانَ يعنِي أنَّ الإنسانَ هنا مع كل ما أوتي من قوة ومن فكر ملتزمٌ بدونِ قيدٍ أو شرطٍ بالتسليمِ والثقةِ باللهِ وكلماتِه (بنقل جاك نيرنيك في حواره مع طارق «هل يمكن أن نعيش مع الإسلام؟» ص14 ).

وللحديث صلة…


 

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط

(الخميـس 22 ربيـع الاول 1427 هـ 20 ابريل 2006 العدد 10005)

 

 

Comments are closed.