جسر المصالح حينما يكون جسرا للحوار الحضاري
كنا تحدثنا في المقال السابق عن وجوب التركيز على دوائر الاشتراك بين حضارتنا الإسلامية والحضارات الأخرى، ومن ذلك دائرةُ القيمِ الدينية معَ أصحابِ الرسالاتِ السماويةِ «قلْ يَا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلَى كلمةٍ سواء بينَنا وبينَكم», «وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون».
وقلنا ان الحضارة الغربية مسيحية، كما يرى هنتر ميد قائلاً: وحينَ نقولُ: المسيحيُّ فإننا نعني بالنسبة للفلسفة «التوحيدي»، فالإيمان بإلهٍ واحدٍ يحكمُ الكونَ الذِي خلقَه أساسٌ للتفكيرِ الدينِي للغربِ.. وهذهِ الأوامرُ أوامرُ الإلهِ شاملةٌ تنطبقُ على الناسِ جميعًا في كلِّ مكان.
وهذا الإيمانُ مشتركٌ، كما نبه عليه بعضُ رجالِ الدينِ المسيحيين المنصفينَ مثل هانس كيونج عندما يقولُ: بالنسبةِ لليهودِ والمسيحيين والمسلمين، فإنَّ الإيمانَ يعنِى أنَّ الإنسانَ هنا معَ كل ما أوتي من قوة ومن فكر، ملتزمٌ بدونِ قيدٍ أو شرطٍ بالتسليمِ والثقةِ باللهِ وكلماتِه.
ونختم هذه السلسلة عن أصول التحاور والالتقاء الحضاري بدائرة المصالح المتبادلة: كقضايا التجارةِ في الموادِ الأوَّليةِ والمصنَّعةِ والطاقةِ وحرية التبادل في نطاق منظمة التجارة والاتفاقات الدولية.
ولهذا فإنَّ التواصل سيكون متعدد الأبعاد متشعب الغايات، فمنه قيمي وثقافي ومنه مصلحي واقتصادي وسياسي، وقد يرفُد السياسيُّ الثقافيَّ، وقد تتضامن كل هذه الأبعاد للوصول إلى تفاهم حقيقي.
الخطوة الخامسة: التمرن على أساليب التخاطب وترتيب الحجاج:
إنَّ أهمَّ شيءٍ هوَ العقلانيةُ في الحوار. ولهذا يجبُ أنْ يكونَ كلٌّ من المتحاورينَ على درايةٍ بثقافةِ الآخرِ ومنطلقاتِه العقديةِ والفكريَّةِ. ليحسُنَ توظيفُ الكلمات، ولا نعنى باللغة ترجمةَ المفردات بمُرادفاتها وهو مهم حيث يتيه المتحاورون أحياناً في دهاليز المصطلحات، بل نعنى باللغة ما هو أبعد إنه الرسوخ في الثقافة التي تتجاوزُ الكلمات إلى رُوح تلك الحضارة ومبادئها الفلسفية وتطورها الاجتماعي والتاريخي. أذكر أني مرة في حوار مع بعض مسؤولي الغرب استشهدت على أهمية الشراكة «برقصة غربية» اعتقدت أن منشأها إيطاليا وأعجبهم الاستشهاد ولم يبدو أي اعتراض، لكني راجعت الموسوعة فيما بعد لأجد أن أصلها اسباني. إنها تفاصيل تافهة في حس المحاور العربي، وقد تكون كذلك لكنها نوع من التواصل الشكلي الذي قد يتطور إلى تواصل فعلي. إن إيجاد لغة تواصل تستوعب الخلفيات الثقافية والفلسفية ليس ترفاً بل ضرورة.
وهنا أشيرُ منْ واقعِ التجربةِ إلى أنَّ الطرفَ الإسلاميِّ غالباً ما يفتقرُ إلى الكفاءةِ فِي القضايا الفلسفيةِ والقانونيةِ، لإيصالِ رؤيتِه إلى الطرفِ الآخَر. وكذلكَ فإنَّ الاطلاعَ على الأسسِ الدينيةِ مِن مصادرها لدى الآخرِ، قدْ يكونُ مفيداً في جولاتِ الحوارِ الديني.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميـس 29 ربيـع الاول 1427 هـ 27 ابريل 2006 العدد 10012)