التكفير: الوجه الثاني للحرب على الأمة الإسلامية (2 ـ 2)
وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكّفر بعضها بعضًا، فالأشعري يكفّر المعتزلي زاعمًا أنه كذّب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات وفي القول بخلق القرآن، والمعتزلي يكفّر الأشعري زاعمًا أنه كّذب الرسول في التوحيد، فإن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء.
قال: والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولاً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصًا فهو من التعبد، وإنما الكذب أن ينفي جميع هذه المعائر ويزعم أن ما قاله لا معنى له إنما هو كذب محض، وذلك هو الكفر المحض، ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازمًا لقانون التأويل؛ لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر».
وكلام الغزالي الذي لا يسلمه له بعض من العلماء هو نموذج من التشديد على من يستسهل إطلاق الكفر على الناس.
«وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المُكره».
أقول: قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة، فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.
وفي الفتاوى الصغرى: «الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر».
وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم، زاد في البزازية: «إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتار خانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والاحتمال لا نهاية معه».
«والذي تحرر أنه لا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور لا يفتى بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها». أ.هـ كلام البحر ـ باختصار ـ .
ومثله نص عليه في تنوير الأبصار مع شرحه رد المحتار، وعلق ابن عابدين على قوله: ولو رواية ضعيفة بقوله: قال الخير الرملي: أقول: ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع، لكن للناس نزاعا في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع ـ والمقصود هنا ـ أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لإمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم، بل في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما».
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميس 13 ربيـع الثانـى 1427 هـ 11 مايو 2006 العدد 10026)