من أجل فهم أعمق للحاجة والضرورة في الإسلام

إذا كنا قد نوهنا في مقالات سالفة عن حدود توظيف الحاجة في الفتوى، فينبغي أن نوضح اليوم أن بحث الحاجة يندرج تحت عنوان كبير هو اعتبار مقاصد الشريعة في صناعة الفتوى بإزاء دلالات الألفاظ؛ وهو موضوع له تداعياته على صناعة الفتوى.

ففي السنوات الأخيرة كثر الحديث عن أهمية مقاصد الشريعة لا في الفتوى بمعناها الاصطلاحي؛ وهو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه.

بل في عملية تجديد الفكر وعلاقة الموروث بالمعاصرة.

ونكتفي هنا بالعمل بالمقاصد في الفتوى، منبهين على أنه محفوف بالمخاطر الراجعة إلى الضوابط التي لا يتمكن من تطبيقها إلا من ارتاض في الشريعة فعرف مصادرها ومواردها ومداخلها ومخارجها،

ذلك أن العلماء في تعاملهم مع نصوص الشريعة انقسموا إلى ثلاثة اتجاهات:

فأولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتمُّ بالمعانِي، وإنما يقتصر على ظواهر النصوص، وهم يحصرون مظانَّ العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، كموقف أهل الظاهر من الأصناف الزكوية والأنواع الربوية في المطعومات والنقود، فيقتصرون على مورد النص ولا يجرون حكم العلة على المماثل، فلا زكاة في الرز ولا في الذرة ولا ربوية في غير الأصناف المذكورة في الحديث.

والاتجاه الثاني: يرى أنَّ مقصدَ الشارع ليس في الظواهر، ويطردُ هذا في جميع الشريعة، فلا يبقى في ظاهرٍ متمسَّك، وهؤلاءِ همُ الباطنة، وظهر هذا الاتجاه في القرن الأول مع الجعد بن درهم أيام الخليفة هشام بن عبد الملك، فكان أول من أنكر خلة إبراهيم عليه السلام وتكليم موسى عليه السلام متمسكاً بالباطن، وهو أن ظاهر الآية ليس مقصوداً، وقد أقام عليه الحدَ خالد بن عبد الله القسري أمير العراقين من قبل هشام يوم الأضحى في القصة المشهورة، وألْحَقَ بهؤلاء مَن يُغرقُ في طلبِ المعنى بحيثُ لو خالفتِ النصوصُ المعنَى النظريَّ كانتْ مطَّرحة.

والذي نرتضيه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه الشاطبي بقوله: «والثالث: أن يقالَ باعتبارِ الأمرينِ جميعاً، على وجهٍ لا يخلُّ فيه المعنى بالنَّص، ولا بالعكس؛ لتجريَ الشريعةُ على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثرُ العلماءِ الراسخين؛ فعليه الاعتماد».

قلت: وهو مذهب الأئمة الأربعة الذين أجروا علل الأحكام المعللة على أمثالها، فشبيه الحلال حلال وشبيه الحرام حرام، وفرقوا بين المعاملات والعبادات فتوسعوا في اعتبار المقاصد في الأولى وضيقوا حدود المقاصد في الثانية، وإن كان قد نقل عن بعضهم التعليل في العبادات كما أجاز الأحناف أخذ القيم في الزكاة والكفارات بدلاً من الأنواع المنصوصة اعتباراً للمعنى والمقصد. لكنَّ بحرَ المقاصدِ لاَ يزالُ زاخراً يتجددُّ عطاؤُه وبخاصة فِي القضايَا المتجدِّدة، وذلكَ فِي اتجاهينِ: قضايَا لمْ يقمْ موجبُها فِي الزمنِ الماضِي، ولمْ تظهرْ الحاجةُ إليهَا: فقامَ فِي هذَا الزمانِ كمَا أشارَ إليهِ الشاطبيُّ فِي إحداث الصحابةِ أحكاماً فِي قضايَا لمْ يكنْ مقتضاهَا قائماً فِي زمنِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولمْ يكنْ مِن نوازلِ زمانِه كمَا يقولُ الشاطبيُّ، كجمعِ المصحفِ وتدوينِ العلمِ وتضمينِ الصناع. حسبَ عبارتِه. وقضايَا قامَ موجبُها فاختلفَ فيهَا العلماءُ، لكنَّ مقتضياتِ رجحانِ المصالحِ أوِ ترجُّحِ المفاسدِ في هذَا الزمانِ اقتَضَت الأخذَ بالقولِ المرجوحِ.

وهذا مذهبٌ واضحٌ وطريقٌ لاحبٌ نجدُه عندَ العلماءَ مِن مختلفِ المذاهبِ يأخذونَ زماناً بقولٍ هوَ أرجحُ مِن حيثُ الدليلُ والأخذُ بهُ عزيمةٌ واحتياطٌ، ثمَّ يهجرونَه فِي وقتٍ لاحقٍ لعمومِ البلوَى وعسرِ الاحترازِ والمشقَّةِ وفواتِ المصلحةِ ودرءِ المفسدةِ.

كمَا فعلَ الأحنافُ فِي أخذِهم ردحاً مِن الزمنِ بقولِ الأئمةِ، وعدلُوا عنْ ذلكَ لمقتضياتِ الزمانِ، كجوازِ الاستئجارِ علَى تعليمِ القرآنِ والعلومِ الشرعيةِ، وإجازتِهم امتناعِ المرأةِ مِن الارتحالِ معَ زوجِها؛ لأنَّ أهلَ الزمانِ قدْ فسدُوا وكثيراً مِن قضاياهُم مِن هذَا النوعِ، وجعلوا بعضَ الخلافِ خلافَ زمانٍ لا اختلافَ دليلٍ وبرهانٍ. أمَّا المالكيةُ فإنَّهمْ أصَّلوا لقاعدةِ جريانِ العملِ فراجعُوا مذهبَ مالكٍ علَى ضوئِها فِي بلادِ الغربِ الإسلامِي، فكانَ لكلِّ قُطرٍ عملٌ يختلفُ فِيهِ عَنْ عملِ القطرِ المجاورِ كعملِ فاسٍ وقرطبةَ وتونُس، فأعملُوا ضعيفَ الأقوالِ وأهملُوا راجِحَها إذَا ترجَّحتِ المصالحُ وماسُوا مَعَ رياحِ المقاصدِ الغوادِي والروائحِ، وحكمُوا بتقديمِ الضعيفِ علَى القولِ الصحيحِ لعروضِ سببٍ مِن جلبِ مصلحةٍ أوْ درءِ مفسدةٍ.

وسنسوقُ أمثلةً لهذِه المجالاتِ:

أولاً: تفعيلُ النظرية المقاصدية فِي ميدانِ النظمِ؛ كالشورَى والديمقراطيةِ وانتخابِ المجالسِ النيابية وأنواع التمثيل المباشر وغير المباشر.

وفي القضايا الاجتماعية والسياسية؛ كمشاركة المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية،

وفي القضايا الاقتصادية: كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة للقارات، مع ما يشوبُ معاملاتِها من أوجه الفساد الشرعية، والانخراط في اتفاقات التجارة العالمية.

وذلك من خلال ميزان المصالح والمفاسد، وهو ميزانٌ قد يجورُ ويحيفُ إذا لم نحسنْ وضعَ الصنجةِ فِي الكفَّة.

ثانياً: ترجيحُ قولٍ ضعيفٍ علَى قولٍ قويٍّ بسبب ظهور دليله أو كثرة القائلين به، فيرجح عليه القول الضعيف وهذَا الترجيحُ يعتمدُ علَى قوَّةِ المقصدِ فِي الوقتِ الحاضرِ.

ولهذَا فإنَّي أقولُ لطلبتِي إنَّ مكانةَ القولِ الراجحِ محفوظةٌ، وحقوقُه مصونةٌ؛ لكنَّ المقاصدَ تحكُم عليهِ بالذهابِ فِي إجازةٍ، ولاَ تحيلُه إلَى التقاعدِ، ريثمَا تختفِي المصلحةُ التِي مِن أجلِها تبوَّأ القولُ الضعيفُ مكانَه. ولكنَّ الأمرَ يحتاجُ إلَى ميزانٍ يتمثَّلُ فِي النظرِ فِي الدليلِ الذِي يستندُ إليهِ القولُ الراجحُ الذِي قدْ لاَ يكونُ إلاَّ ظاهراً أوْ قياساً أوْ فعلاً محتملاً. هذا مِن جهةِ الدلالةِ.

وأيضاً مِن جهةِ الثبوتِ قدْ يكونُ خبرَ آحادٍ ونحوَه. ثمَّ إنَّ القائلَ بالقولِ الضعيفِ يجبُ أنْ يكونَ مِن أهلِ العلمِ الذينَ عُرفتْ مكانتُهم، وأنَّهم أهلٌ لأنْ يُقتدَى بهِم. وبذلكَ يكونُ الترجيحُ بالمقصَد متاحاً، بلْ ومعيناً.

ولدينا عشراتُ المسائلِ مِن هذَا النوعِ فِي مختلف أبوابِ الفقهِ، ولا سيَّما فيمَا نسمِّيه بفقهِ الأقلياتِ الذِي يستندُ إلى الضروراتِ والحاجات المنزَّلةِ منزلةَ الضروراتِ.

ولأطبَّقَ هذِه المعاييرَ سأضربُ أمثلةً مِن عدةِ أبوابٍ.

لأبدأَ بالعباداتِ: ففِي الحجِّ مثلاً مسألةُ الرمِي قبلَ الزوالِ قولٌ مخالفٌ لقولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، وقدْ قالَ بهِ بعضُ العلماءِ مِن الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ الآخرينَ؛ فهوَ منقولٌ عَن ابنِ عباسٍ عندَ ابنِ أبِي شيبة، وعنْ ابنِ الزبيرِ عندَ الفاكِهي، وقولُ طاووس وعطاءٍ فِي إحدَى الروايتين، والإمامِ محمدِ الباقرِ رضيَ اللهُ عنه، والروايةُ المرجوحةُ عَن أبِي حنيفةَ، وهوَ قولُ ابنِ عقيلٍ وابنِ الجوزيِّ مِن الحنابلةِ، والرافعيِّ من الشافعية. القولُ الراجحُ يستندُ إلى فعلِ الشارعِ الذِي يدلُّ على الوجوبِ فِي هذا الوقت؛ أيْ بعدِ الزوالِ.

وفعلُ الشارعِ مجملٌ؛ لأنَّ أفعالَ الحجِّ منها الواجبُ، ومنها السنَّة، ومنها الجائزُ، كالتحصيبِ مثلاً، وقدْ خالفَ بعضُهم أفعالَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فِي الترتيبِ، وأقرَّهم علَى ذلكَ قائلاً: افعلْ ولاَ حرجْ. بالإضافة إلى أن الرمي سنَّةٌ عندَ بعضِهم نسبه ابن جرير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ودلالةُ «خذوا عني مناسككم» علَى وجوبِ الأفعالِ ضعيفةٌ مِن وجهينِ أولاً: لمَا فِي دلالةِ الأمرِ مِن الخلافِ ففيهِ اثنا عشرَ قولاً: الوجوبُ والندبُ والوقفُ والقدرُ المشتركُ والتفصيلُ.. إلخ.

و«مناسككم» عامٌّ مخصوصٌ بسننِ الحجِّ ومستحباتِه.

أما الواقع: فكثرةُ الحجاجِ فِي عصرِ وسائلِ المواصلاتِ فيهِ ضيقتِ المكانَ وقاربتِ الزمانَ فأدَّت لزحامٍ هلكتْ فيهِ الأنفسُ وتضاعفتْ المشقةُ.

المقصدُ الشرعيُّ: المحافظةُ علَى الأنفسِ إحدى الضرورات «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما».

المقصدُ الشرعيُّ الآخرُ: التيسيرُ «ومَا جعلَ عليكُم فِي الدينِ مِن حرَج» الآيةُ مِن سورةِ الحجِّ، ولا سيَّما فِي فريضةِ الحجِّ بدليلِ «افعل ولا حرج» وأدلةٌ كثيرةٌ لا تحصى. النتيجةُ: القول المرجوح عند الأحناف جَعله المقصدُ الشرعيُّ راجحاً ومتعيناً فيجوزُ الرميُ قبلَ الزوال. هذَا هوَ الفقـه.

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميـس 30 رجـب 1427 هـ 24 اغسطس 2006 العدد 10131)

Comments are closed.