نحو ترشيد الفتاوى على الإنترنت 2 ـ 2
تحدثنا في الحلقة الماضية من المقال عن نهي العلماء عن تسلق غير المؤهلين على جدار الفتوى، ونكمل فنقول انه من اجل ذلك ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب وإلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا.
قال ابن القيم: الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية: يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده. ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب: «آداب المفتى والمستفتي» له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك.
وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:
أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصرا وأن يكون ذا ديانة.ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.وأن على الجهات المختصة أن تردع وتمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود :
تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ ********* وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ
وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى. فهل عرض مفتو الشاشات والمواقع ـ وما أبرئ نفسي ـ أنفسهم على هذه والآداب ؟
ثانيا ـ صفة المفتي المجتهد:
قال إمام الحرمين: المفتى مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولم ينكر واحد ولو سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا. ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول.
فصل: في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها. وقد عدّ الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول:
يشترط أن يكون المفتي بالغاً فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله.
وينبغي أن يكون المفتي عالماً باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من بفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصاً في بحور اللغة متعمقاً فيها لأن ما يتعلق بمآخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط. وقد قيل: لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجازه في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا نكتفي بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه على الكتاب لأن اللغة استعارات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل على النظم والسياق فلا. ويشترط أن يكون المفتي عالماً بالنحو، والإعراب، فقد تختلف باختلافه معاني الألفاظ، ومقاصدها.
ويشترط أن يكون عالماً بالقرآن. فإنه أصل الأحكام، ومنبع تفاصيل الإسلام، ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته. فإن معظم التفاسير يعتمد النقل. وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب، والتصانيف. فينبغي أن يحصل لنفسه علماً بحقيقته. ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه. وعلم الأصول أصل الباب. حتى لا يقدم مؤخراً، ولا يؤخر مقدماً، ويستبين مراتب الأدلة والحجج.
وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه، في معرفة الناسخ والمنسوخ. وعلم الحديث، والميز بين الصحيح والسقيم، والمقبول والمطعون.
وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة، المستقرة الممهدة. ثم يشترط وراء ذلك كله، فقه النفس فهو رأس مال المجتهد. ولا يتأتى كسبه. فإن جُبل على ذلك فهو المراد ، وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب.
ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف.
ويشترط أن يكون المفتي عدلاً لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للاعتماد كقول الصبي.
قال في الدر المختار: المفتي عند الأصوليين هو المجتهد أما من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ وفتواه ليست بفتوى بل هو ناقل.
ثالثا ـ الفتوى صناعة مركبة من عناصر، كل عنصر منها يفتقر الي شروط وضوابط .
أولا ـ النازلة أو الواقعة: وهي الأمر المطلوب الحكم عليه، ماهي طبيعتها سياسية اقتصادية اجتماعية محلية دولية، ما هو زمانها ومكانها شخوصها مآلات حكم الفقيه. كل هذه العوامل تحدد نوع الحكم الذي يصدره المفتي ان ذلك هو العلم بالواقع.
ثانيا ـ الحكم الشرعي: الإباحة الكراهة الندب الوجوب والتحريم لكل واحد من هذه الاحكام تفريعاته فالواجب قد يكون لذاته وواجب لغيره، والحرام قد يكون محرما تحريم مقاصد اوتحريم وسائل ولكل هذه الانواع مرتبته ومسقطاته ومرجحاته.
ثالثا ـ الدليل: هل هو من دلالات الالفاظ نصا أو ظاهرا أو اشارة او مفهوما… الخ.أو هو من أدلة المقاصد قياس، مصلحة مرسلة استحسان استصحاب…. هل هو كلي او جزئي. المتصرف في هذه العناصر والمهندس لهذا البناء هو المفتي الذي يجب أن يكون واضح الفكرة دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه.
كل ذلك يدل على ان الفتوى صناعة اذ ان من يفتي على المواقع والشاشات قد لا يحترم المرجعيات وادبيات هذه الصناعة.
فمتى يقف مفتو المواقع المجهولون عند حدهم؟
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 19 جمـادى الاولـى 1427 هـ 15 يونيو 2006 العدد 10061)