للتأمل:إعلان مراكش للحقوق الدينية (والاسلام والشيخ بن بية)
في مدينة مراكش المغربية، حيث كنت الأسبوع المنصرم، التأم مؤتمر «إعلان مراكش حول حقوق الأقليات غير المسلمة في ديار الإسلام» الذي نظمه منتدى تعزيز السلم (مقره أبوظبي)، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، برعاية الملك محمد السادس، وبحضور مئات الشخصيات الدينية والفكرية والسياسية من مختلف الديانات والقارات، في ما شكل حدثاً استثنائياً في مرحلة حرجة وحساسة من تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية.
كان السياق الزمني الذي التأم فيه المؤتمر واضحاً، وهو أحداث الإرهاب الدموي الذي دمر دولاً بكاملها، وقوض الاستقرار والسكينة في بلدان أخرى، وضرب في قلب أوروبا، وكان السياق المكاني جلياً وهو مدينة مراكش العريقة التي ترمز لتجربة غنية من التعايش السلمي والتعاون بين الديانات والثقافات، في بلاد قدمت في السنوات الأخيرة تجربة ناجحة في تدبير الحقل الديني، ومواجهة التطرف والإرهاب، وتعزيز الحريات العامة.
وقد وضعت الوثيقة الفكرية للمؤتمر التي تقدم بها العلامة الشيخ «عبد الله بن بية» الإطار النظري والشرعي لمقاربة جديدة لبناء علاقات المسلمين بغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، في إطار مفهوم المواطنة التعاقديّة داخل الدول، ووفق مقاييس التعاون والتضامن والسلم في إطار العلاقات الدولية.
الشيخ بن بية الذي يمكن أن نطلق عليه دون تردد «فَقِيه السلم»، استند في ورقته التأطيرية إلى قراءة ثاقبة وإبداعية لصحيفة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة لتنظيم مجتمع المدينة متعدد الديانات والأعراق والقبائل، بحسب اعتبارات التعاون والائتلاف والمودة، بحيث يشكل اليهود مع المسلمين أمة واحدة لا تمييز بين أفرادها على أي أساس ديني أو عرقي. ولقد بين الشيخ بن بية أن هذه الصحيفة ليست منسوخة، بل تعبر عن مقاصد الشريعة الثابتة في الأخوة الإنسانية والعدل الكوني والنزوع السلمي في علاقة البشر في ما بينهم، انسياقاً مع كليات الشريعة في الرحمة والعدل والحكمة والمصلحة.
وبالاستناد إلى هذه الرؤية الأصيلة التي طبعت أعمال المؤتمر، ظهر إجماع واسع على أن الكثير من اعتبارات التراث الفقهي في أحكام الجهاد والجزية والذمة، تأثرت بمناخ الحروب الدينية التي كانت السمة الغالبة للعلاقات الدولية في العصور الوسطى، ولم تكن إجمالاً من ثوابت الشرع، بل هي من محددات ومعايير النظام العالمي القائم أوانها، وقد تقبَّلها المسلمون مكرهين، وتعاملوا معها بواقعية، وحاولوا في أحيان كثيرة التأثير فيها إيجابياً بما يحقق قيم الإسلام في التسامح والسلم.
وقد اختتم المؤتمر بإعلان مراكش حول حقوق الأقليات الدينية الذي اعتبره أحد كبار رجال الدين المسيحيين الحاضرين حدثاً لا يقل في الأهمية عن الإعلانات العالمية الكبرى المكرسة لحقوق الإنسان والسلم الدولي، بما حمله من مبادئ صريحة ضامنة لحريات الاعتقاد والاختلاف الديني وللحقوق الدينية، ضمن مفهوم مكين وجلي للمواطنة المتساوية.
عندما كنت أتابع إعلان مراكش الذي قرأه وزير الأوقاف المغربي، المؤرخ والمفكر والروائي المعروف «أحمد التوفيق»، كان الكاتب اليهودي الفرنسي «اريك زمور» قد كتب في صحيفة «لفيغارو» أن «الإرهاب الجهادي» الذي ذاق العالم مآسيه على يد الجماعات الداعشية ليس سوى تعبير طبيعي عن النظرة الإسلامية الجوهرية للمغاير المختلف التي تقوم على النزوع العدائي، معتبراً أن الفرق بين الإسلام والديانتين اليهودية والمسيحية هو أنه دين قانون وتشريع لا مكان فيه للأخلاق الذاتية، ولا معنى فيه لمفهوم «الميثاق» مع الإنسان الذي هو الخلفية العميقة للنزعة الإنسانية الحديثة! لا شك أن أوراق المؤتمر ووثيقته التأصيلية قد أظهرت زيف هذا التصور السائد على نطاق واسع في الأدبيات الغربية هذه الأيام، بإبرازها الطابع الإنساني الكوني لرسالة الإسلام التي قامت «سلماً على العالم» ورحمة للعالمين.
لقد انطلق مشروع «فقه السلم» من أبوظبي قبل ثلاث سنوات برعاية كريمة من قيادة الإمارات العربية المتحدة، وأفضى اليوم بعد العديد من المبادرات الفكرية والسياسية، إلى بلورة خط تجديد الدين وإصلاح شأنه المؤسسي، وإعادة بناء علاقات الأمة بالعالم في مواجهة حركية التطرف الديني والإرهاب التي تفاقم خطرها في الآونة الأخيرة.
ما أبلغه إعلان مراكش الأخير هو أن الدين دعامة للسلم، وركن من أركان الاستقرار الاجتماعي، وهو يحتاج في وظائفه الروحية والقيمية إلى دول متماسكة ومجتمعات متعاضدة، بدل تحويله إلى معول لهدم المدنية، وترويع الناس، وتهديد سلم العالم وأمنه.
د.السيد ولد أباه