كلمة العلامة عبدالله بن بيه في افتتاح الجولة 2 من القافلة الأمريكية للسلام – مدينة الرباط
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
أيها السادة والسيدات،
نستقبل اليوم قافلتكم الموقرة في مدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية الشريفة، أرض التسامح والمحبة والسلام، التي سبق لنا أن التقينا فيها على مائدة مؤتمر مراكش، برعاية سامية من أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله، وإشراف مباشر من معالي الأستاذ/ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشئون الإسلامية وفقه الله، التي كنتم شهوداً على إعلان العلماء المسلمين لبيان يوضح شرعية حقوق الأقليات وقدسيتها استحضاراً لوثيقة المدينة النبوية التي كانت أول دستور ينص صراحة على المواطنة المتساوية لساكنة المدينة دون اعتبار للعرق أو الدين.
واستلهاماً لروح إعلان مراكش ودعوته الصريحة في الفقرة 19 التي تنص: “إننا كلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعاً بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته. وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل، بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء”.
إن إعلان مراكش يدعو : “مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيداً عن الجور والإقصاء والعنف.
ويدعو: “ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية”.
إن هذه الفقرات من إعلان مراكش تستوجب منا البحث عن الطرق والوسائل الكفيلة بإنجازها.
وبدون شك فإن مبادرة قافلة السلام الأمريكية الإبراهيمية في الولايات المتحدة تمثل تجسيداً واستجابة لما يدعو إليه إعلان مراكش.
أيها السادة والسيدات: لن يكون هذا اللقاء الا كما كان اللقاء الأول -في مدينة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة بلد زايد فضاء المحبة والتسامح، لقد لمستم تلك الروح- بحثاً وإحياء لروح التعايش السعيد بين الديانات، وحثاً على مبادئ التسامح والتعارف، لقد أكَّدَ ذلك اللقاء قناعتي بالاستعداد والإمكان لتحقيق ذلك الأمل المنشود للتحالف بين الديانات، لإنقاذ سفينة البشرية من الغرق في بحور الحروب والدمار.
ومن ثمَّ فنحن نشجع مبادرتكم الرائدة لتنظيم هذه القافلة التي تضمُّ رجال دين من الولايات المتحدة الأمريكية ينتمون إلى العائلة الإبراهيمية، وهي مبادرة تمثّل أملا في هذا الوقت بإتاحتها الفرصة للتعايش والتعارف، وعقد أواصر الأخوة الروحية إلى مجتمعاتكم الخاصة وروجتم لها من خلال الأنشطة المشتركة .
لعلّ هذه الزيارة تكون فرصة للتذاكر حول تفعيل إعلان مراكش الذي أصدرناه يناير 2016 بمدينة مراكش بالمملكة المغربية، تتويجاً لمؤتمر “حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة”. وقد شرفنا بعضكم بالحضور فيه.
لقد كانت مبادئ إعلان مراكش تستبطن دعوة للتعايش بين الديانات والثقافات، وهو بهذا يؤسّس لمرحلة جديدة من الفهم العميق للاستفادة من تراث الماضي لبناء تعايش في الحاضر والمستقبل؛ فإعلان مراكش لم يكن إعلانا عاديا بل هو عبارة عن فهم ووقفة مع النص الديني ومع التراث في تجلياته في التسامح والوئام والتعايش.
إن إعلان مراكش يبين واجب رجال الدين في البحث في نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم ليجدوا أساسا وينبوعا للتسامح والتعايش، وتفعيل المشتركات.
إعلان مراكش يعلي أول مشترك هو كرامة الإنسان:” إن البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرامهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم).
إن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين(.
إن البشر بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا(.
وفعلاً فإن مكانة الإنسان في الديانات العائلة الإبراهيمية ظلت محفوظة فهو القابل للإيمان بالغيب، والحامل بالفطرة للقيم العُليا، رغم النظريات التي حاولت في العصور الحديثة أن تُلغي الفرق بين الإنسان والحيوان مع فرويد (Freud) -والذي يسميه بول ريكور (Paul Ricœur) أستاذ الشك- في تحليله النفسي للسلوكيات، وداروين ((Darwin في تفسيره لأصول الإنسان.
ورغم المحاججة العلمية الوجيهة ضد تلك الآراء من طرف فلاسفة آخرين -والتي لا مجال لها هنا- فالذي نريد أن نقول: إنّ الديانات ظلت متمسكة بالأصل الإنساني للإنسان كمخلوقٍ متفرد، خلق بعناية الله العلي الأعلى، الذي هو المسبِّب، والذي بدأ خلق الكون، بعد أن لم يكن، وأن الكون لا يمكن أن يقفز إلى الوجود من العدم المحض إلا بقدرة خالق، أزلي قيوم، خلق المادة والزمان، فهو أعلى من المكان والزمان
فالعدم لا ينتج الوجود – والجهل لا تنتج العلم – والفوضى لا تخلق النظام.
الكون بديع عظيم مصمم، له خالق مبدع مريد.
إذا لم يكن الكون أزلياً في ماضيه كما أثبته آرفيد بورد (Arvid Borde) والآن غوث (Alan Guth) والكسندر فيلنكن (Alexander Vilenkin)سنة 2003م, فلا بد له من موجد، وإن من يدعي عكس ذلك لم يستطع اثبات دعواه، وقصارى الأمر أنه لم يجد، وعدم الوجدان ليس دليلا على عدم الوجود، وعدم العلم ليس دليلا على علم العدم.
إن العدم الذي معناه اللاوجود الخالي من القوى والخصائص والإمكانات لا يمكن أن ينشئ الكون بدون مكون.
فديانات العائلة الإبراهيمة تقوم على التفسير الغائي للكون, وليس على التفسير الآلي، والإنسان في صلب هذه الغاية.
فهو مكرم يرجع إلى أصل واحد مخاطب من قبل الباري جل وعلا مسخر له الكون.
إن فلسفة التعليل عند توما الإكويني ( (Tommaso d’Aquinoالتي تقوم على أن ممكن الوجود مفتقر إلى واجب الوجود، هي نفسها عند ابن سينا والفارابي وموسى بن ميمون، وهي قريبة مما عند بعض قدماء الفلاسفة، ورغم ما تعرضت له تلك البراهين من شغب ونقد فما زالت حسب رأينا صامدة، وبخاصة أنها مؤيِّدةٌ لما جاءت به الرسالات السماوية.
وهو ما نقوم به في منتدى تعزيز السلم حيث نقدم الرواية والرؤية، رواية الإسلام في دعوته للسلام والتسامح اعتماداً على نصوص أكيدة وعلى ممارسات تاريخية رشيدة، وعلى التأويل الصحيح، على عكس الرواية المحرّفة على يد الغلاة الخارجين عن الضبط الديني والضبط العقلي، والذين جعلوا الدين دعوة للعنف ومُشْعِلا للحروب ومصدرا للكراهية والبغضاء وطاقة تدمير وتفجير بدل أن يكون طاقة إيجابية في حياة الناس، طاقة سلام تحييهم ولا تقتلهم.
ولهذا فنحن نرى أن الرجوع إلى النصوص والتأويل المناسب والمقارب هو الذي سيسمح لنا بالرد على مروجي الكراهية والإسلامفوبيا وعلى الإرهابيين على حد سواء.
إن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية في نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التعايش والتي لا تخطئها العين، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش وحول عالمية الكرامة الإنسانية، واحترام الاختلافات الدينية هي مضادات قوية للتطرف الديني العنيف.
وعلى تأكيدها تتضافر نصوص جميع الديانات السماوية، ونقتبس هنا من نصوصنا المقدسة هذه التوجيهات والأوامر الربانية:
– (فكما أن الله رحيم فيجب أن تكون أنت رحيماً, كما أنّ الله رؤوف فيجب أن تكون أنت أيضاً رؤوفاً) (مزمور 17:145). وغيره من النصوص المبثوثة.
– وكذلك نجد في الانجيل، ففي الصلاة الربانية: (اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا) (متى 6:12) وجاء في لوقا: (ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيئٌ… إلخ).
– وفي القرآن الكريم وردت معاني العفو والغفران والصفح في آيات كثيرة: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ([الأعراف: 199]، )ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور( (سورة الشورى: 43)،) وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم( [التغابن:14]، وفي الأحاديث النبوية الشريفة نصوص كثيرة في هذا المعنى.
أيها السادة والسيدات،
تلك هي المشتركات لبناء السلام والمحبة علينا التذكير بها وتقديمها للناس؛ إن إعلان مراكش الذي مثّل خطوة وانطلاقة عملية في التسامح يجب أن يظل حيا ليس في ذاكرتنا فقط وإنما في ممارساتنا، ولهذا فإنّنا نتطلع إلى ترسيخ نموذج مبادرتكم “قافلة السلام” ليصبح آلية عملية ناجعة للتعاون والتعايش، وتقليدا ينبغي العمل على تعميمه والاستفادة منه.
وبعد مقامكم في المملكة المغربية، سيكون من المناسب أن يكون لقاؤنا القادم في واشنطن لإظهار تضامننا، وتوسيع دائرة هذه القافلة لتتحوّل إلى صيغة تعاون ومجال مشترك للتفكير والعمل من أجل السلام والوئام ويمثل نوعاً من حلف الفضول، ينمو من أجل خير الإنسانية.
إن تفعيل هذه المبادئ وتعزيز هذه المبادرات ضرورة ملحة لمواجهة الواقع العنيد والتحديات المختلفة على المستويات الفكرية والعملية؛ ذلك أن طموحنا في تعزيز التفاهم وبناء الصور الإيجابية بدل النمطية، يواجه بأوضاع من القتل والتدمير لا يقبلها عقل ولا يسوغها دين، تلك هي الممارسات الخاطئة المعززة للصورة النمطية والمشوهة.
وكما قلت في لقائنا في أبوظبي إن أيا من المجموعات لا تهدف إلى دعوة المجموعة الأخرى لاعتناق ديانتها، ولا تبشر بملتها، وإن كنت لا أستبعد أن البعض منا يتمنَّى عن حسن نية أن يشرك الآخرين فيما يعتقد أنه مفتاح النجاة في عالم الآخرة؛ ولكنَّ الذي يهدف إليه ويدعو إليه هو التعايش السعيد في عالم الدنيا الذي نعيش فيه اليوم، ونعتقد أن دياناتنا تدعونا إليه.
إن الديانات المنتمية إلى العائلة الإبراهيمية عندما تتصالح وتتصافح فإن من شأن ذلك أن يعزز روح السلام في العالم ويسهِّل الولوج إلى طريق العدالة والخير ومعالجة المظالم والمظلوميات.
ولا يعني لقاء هذه الديانات المنتمية إلى العائلة الإبراهيمية إقصاءً ولا تكتُّلا ضد الديانات والمذاهب الأخرى، وإنما يعني تعزيز المشتركات في دائرة العلاقات الخاصة التي تتواصل مع دائرة الإنسانية مع الديانات والفلسفات الكونية التي تعلي من شأن الحياة وحقوق الإنسان.
أتمنّى لكم مقاماً طيباً في الرباط واجتماعات موفَّقة.