قراءة في كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول” للدكتور عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه
د. محمد المنتار
رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء
اهتم العلماء المسلمون بموضوع المعارف الإنسانية، واستبطنت الحركة العلمية منهاجيات خاصة، تحولت إلى علوم ومعارف لها تجلياتها النظرية، والمعرفية، والعلمية، أفرزت بدورها طرائق في الاستنباط، والاستدلال، رامت تيسير عملية الاستمداد من الوحي، وإيجاد آليات وأدوات مساعدة للنهوض بواجب التفكر والتدبر في النص المؤسِّس.
وقد شملت هذه العناية علم أصول الفقه باعتباره منهجا لفهم الخطاب الشرعي، وإدراك مقاصده، وقد عرفت مباحثه تطورا ملحوظا في القضايا، والإشكالات، والأدلة، والمصطلحات، والمفاهيم، منذ العصر ما بعد الراشدي حتى يومنا هذا.
وقد أسهمت عوامل عقدية، ومذهبية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية أحيانا في تشكيل الصورة التي رسمت لعلم أصول الفقه، وهي عوامل لا تزال في حاجة إلى دراسة وتحليل، بالنظر إلى ما تكنه مقرراته من إمكانات علمية وقواعد جليلة مسعفة في ضمان مرونة الشّريعة، واطراد صلاحها.
ولا يخفى أن أجيالا من العلماء قد بذلوا جهودا كبرى لتأسيس هذا الفن، وترتيبه، وتفصيله، وهيكلة بنائه، خدمة للوحي وتيسيرا للاجتهاد في نطاقه، ظهر ذلك جليا منذ المدونات الأصوليّة التي انطلقت مع مرحلة التدوين، وما تبعها من جهود المتكلمين والأحناف وأصحاب منهج التوفيق، وصولا إلى جهود المحدَثين والمعاصرين.
والناظر في مدونات هؤلاء الأعلام وغيرهم من أهل الفضل عبر تاريخ الأمة، يجد تقسيمات لمقررات الفكر الأصولي من حيث الاتفاق والاختلاف، ومن حيث رجوعها إلى النقل والعقل، ومن حيث الأصلية والتبعية، ومن حيث القطعية والظنية، ومن حيث تحقق المناطات من عدمها، واستحضار المآلات، واعتبار المساقات..
حيث اختار المتكلمون مدخل القواعد، ووضع الحدود والتعريفات وتحقيقها، وتأويل النصوص في ضوء معانيها اللغوية، وحشد الأدلة والبراهين النقلية والعقلية، وتأثرت طريقة الفقهاء بالفروع والأحكام، فبحثوا عن القواعد الأصولية في ثنايا الفروع والأحكام.. وعمل الرواد من أهل المقاصد على إيجاد تكامل بين فهم النص وتنزيله في الواقع المعيش، مع فقه مآلاته، وهو ما اقتضى صياغة مباحث الفكر الأصولي صياغة مقاصدية، فيما فضل أهل التوفيق الجمع بين كل المناهج في صياغة القواعد وتقرير الأصول الكلية، بما يخدم تيسير الاجتهاد والفهم..
وهي تقسيمات تتفاوت في القوة المعرفية والمنهجية، تجعل من علم أصول الفقه، حقلا علميا، حاملا لنسق منهجي متكامل ومتداخل، جامعا لعدة علوم وأنساق معرفية، تشكل نموذجا للتداخل والتكامل والتواصل بين العلوم في الثقافة العربية الإسلامية.
غير أن دخول العلوم الإسلامية، عموما، في مرحلة المختصرات والحواشي والشروح، كان له بالغ الأثر على تراث علم أصول الفقه، وبدرجة أكبر على وظيفية هذا العلم، وبعده العملي والتنزيلي، مما بات يستدعي ترشيد مسار هذا العلم بشكل يسهم في إعادة ربطه بمصدره الأساس الذي هو الوحي، قرآنا كريما وسنة نبوية شريفة، في استحضار لمقتضيات السياق الراهن.
هذه الوظيفة التي كانت بوصلة لعديد من رواد التجديد في هذا الحقل المعرفي، أمثال: محمد بن إدريس الشافعي في جمعه بين الحديث والرأي، وأبي حامد الغزالي في تسخيره لآليات المنطق وأشكال الاستدلال لغاية استغلال الطاقة الدلالية واللغوية للنص الشرعي، وأبي إسحاق الشاطبي الذي اتخذ النظر المقاصدي مدخلا لإعادة تشكيل العقل. وهم كلهم أعلام، حائزون بسبقهم تفضيلا، يستوجبون الثناء الجميل، قاموا بالحفر من أجل تخليص علم أصول الفقه من كثير مما علق به من الشوائب، على حد تعبير أبي إسحاق الشاطبي، وربط عملي بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته.
وهي، ولا شك مداخل للتجديد في حقل الدراسات الأصولية وجب البناء عليها، واستئناف القول فيها بما يخدم العملية الاستمدادية في كل أبعادها المعرفية والمنهجية والتأويلية.
ويعد كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”، للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بّيه، (الصادر عن “دار التجديد” و”دار وجوه”، ويقع في 167 صفحة من القطع المتوسط) من المؤلفات التجديدية الرائدة في هذا الباب، حيث رام مؤلفه، استئناف العملية الاجتهادية في قضايا محورية ضمن البناء العام لعلم أصول الفقه، لذلك نجد الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه أبدع في رد فروع المسائل إلى أصولها وجزئيها إلى كليها، ولا يتعرض للمادة الأصولية في مجملها وتفاصيلها، وإنما يشير إلى بعض الموضوعات التي تعتبر جديرة بالاستئثار بالاهتمام في مشروع التجديد، ويرسم ملامح التصور للصورة الذهنية للتجديد، بالإضافة إلى خوض غمرة بعض القضايا نظريا وعمليا لتكون أنموذجا ومجسما لبناء البيت الأصولي.
بين يدي الكتاب
أصل الكتاب محاضرة ألقيت في قاعة الإمام محمد عبده بالأزهر الشريف بحضور شيخ الأزهر، ومشيخة الأزهر، والجم الغفير من العلماء والطلبة، والكتاب كذلك هو حصيلة سنوات من الاجتهاد والبحث، عبر محاضرات علمية شكلت مشروعا معتبرا ونوعيا حول الاجتهاد والتجديد، وقد ظهرت معالمه الكبرى في ثلاث مؤلفات للشيخ ابن بيه؛ أحدها كتاب “أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات”، والثاني كتاب “مشاهد من المقاصد”، والثالث كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”، الذي تدور حوله ورقات هذه الدراسة.
وقد افتتح الشيخ ابن بيه كتابه البديع بمقدمة عرض فيها دعاوى التجديد في هذا العصر، مع نقدها وبيان تهافتها، وإن بدرجات متفاوتة، ثم شرع في التعريف بما هو مُقدم عليه من مشروع تجديدي عبّر عنه مرة بالمقاربة ومرة بالإثارات. وقد أشار الشيخ بن بيه، حفظه الله، إلى ثلاث دعاوى لها خطورتها على أصول الفقه بل على الشريعة، وهي باختصار:
الأولى: دعوى الحكمة والمصلحة غير المنضبطين بضوابط التعليل ووسائل التنزيل، مما سيحدث ارتجاجا في بنية الاجتهاد، وزلزلة لأسسه[1].
الثانية: الدعوة المقصدية مجردة عن مدارك الأصول، وعارية عن لباس الأدلة الذي هو لباس التقوى الذي أجمع عليه من عهد الشافعي.
ورغم أن هذه الدعوى فيها شيء من الصدق والمعقولية فهي تدعو إلى ضبط المقاصد، ولكنها لا تجيب على كيف؟ وهي إجابة لن تكون مماشية للموروث الفقهي إلا إذا تمسكت بعروة وثقى من أدلة الأصول[2].
الثالثة: دعوى تاريخية النص وظرفيته، وهي مذهب عرف في الغرب بأنه توجه فلسفي يربط المعارف والأفكار والحقائق والقيم بوضع تاريخي محدد بدلا من اعتبارها حقائق ثابتة[3].
هذا من شأنه أن يقطع الصلة بالنصوص الشرعية. نعم توجد مخصصات في الأحوال والمحال والأزمنة، ولكنها منضبطة بضوابط تشير إلى ظرفيتها، ومنها قضايا الأعيان عند الإمام مالك، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون قانونا عاما ولا مبدأ مطردا.
فهذه الدعاوى الثلاث تتفاوت في خطورتها إلا أنها جميعا تفضي إلى هروب من ديمومة النصوص، وقفز في المجهول، وخروج من العلم إلى الجهل، وبحث عن الوداعة والسهولة دون تجشم سبل البحث الجادة، وتقحم عقبات علوم الشرع بالعدة والعتاد.
أولا: أسس العملية البنائية التجديدية عند الشيخ بن بيه
لقد بنى العلامة ابن بيه إثاراته التجديدية بناء أساسه صورة تقريبية تعرف عند المناطقة بالعلل الأربع التي تمثل الماهية ولوازمها، وهي: المادة، والصورة، والغاية، والفاعل.
إن دعاوى بهذه التصورات يكون التجديد فيها أقرب إلى التبديد، ووعدها أقرب إلى الوعيد. وبقية الدعاوى مقاربة، يحاول بعضها التقريب والتسديد؛ لكنها يغلب عليها الجانب التعليمي والتربوي، دون جانب إنشاء الأحكام، الذي هو الغاية المتوخاة لعملية تدوين الأصول. وذلك من خلال صورة تقريبية تعرف عند المناطقة بالعلل الأربع التي تمثل الماهية ولوازمها، وهي المادة، الصورة، الغاية، الفاعل؛ فالأوليان ذاتيتان، والأخريان خارجيتان”[4].
وقد اختار الشيخ، حفظه الله، أن يسميها إثارات تجديدية، وشعار هذه الإثارات “الوفاء للأصول، والتصرف في الفروع” مع الاجتهاد في حصر الموضوع عقليا، ومحاصرة الانفلات عمليا. وقد صرّفها من خلال محاور أربعة:
المحور الأول: المادة
جعل الشيخ بن بيه “مادة أصول الفقه” ما يكون منه استمداده: وهي سبعة أصول: “أولا: الكتاب، وكل ما سواه راجع إليه. وثانيا: السنة النبوية الشريفة، أقوالا وأفعالا، وثالثا: اللغة العربية؛ كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى الخطاب، وتأويل أخبار الرسول عليه السلام. ورابعا: الفقه، يقول الغزالي: استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن المدلول مما تأباه مسالك العقول. خامسا: فتاوى الصحابة وقضاياهم، حيث كان الصحابة يجتهدون، ومن خلال تعاملهم مع القضايا أخذت عنهم جملة من قواعد أصول الفقه. سادسا: علم الكلام، ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوصة على الأحكام، مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل، ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل. سابعا: المنطق الأرسطي، لأن العلماء بدأوا من القرن الثاني يدمجون التعريفات المنطقية، والمصطلحات الكلامية في تعريفاتهم…”[5].
المحور الثاني: الصورة
أما الصورة فهي بيت القصيد، ومفتاح أقفال التجديد[6]. ومن خلال هذا المفهوم أجمل الشيخ بن بيه عملية بناء الأصول في الصورة التي شكلها صناع أصول الفقه، والتي ترتكز على خمسة ركائز هي:
1. التركيب: والمراد بالتركيب؛ تركيب الكلي من أجزائه، وتركيب الأجزاء بالكلي، أو تركيب الجزأين أحدهما على الآخر؛ فحسب بيان الشيخ، حفظه الله، الأدلة الإجمالية هي حقيقة أصول الفقه، والفصل الأول في تعريفه، إنما هي في واقعها كليات وضعها الأصولي، وصاغها من تفاريق المادة المشار إليها، بحيث:
الأولى: يقرر الكلي الثابت بدليل عقلي، أو نص شرعي، أو دلالة لغوية لتعريف أحكام جزئياته، والتعرف على مجال تطبيقاته… ومثال ذلك اختلاف الأصوليين في دلالة الأمر على الوجوب، أي في تقرير الأدلة التي ستصبح بالقوة كليا، وقاعدة أصولية[7].
الثانية: عملية معاكسة يرتقي فيها الأصولي من الجزئي صعودا ليصل إلى الكلي، أو من جزئيات أشهر ليصل إلى كلي أخفى؛ وهذا ما يسمى بالاستقراء. وعلى هذا الاستقراء بنى أبو إسحاق الشاطبي أصل المقاصد، واتخذ الاستقراء مسلكا لبيان أن الشريعة جاءت لمصالح العباد، يقول: “أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الفخر الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة. والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره”[8].
وقد أوضح المؤلف أن على مثل هذا الاستقراء بني الكثير من الكليات كالاستحسان، وسد الذرائع، والعمل بالعرف[9].
الثالثة: تركيب جزئي على جزئي، وأصل العبارة جمل جزئي على جزئي أعرف فيما يسمى بالقياس[10]. يقول الشيح بن بيه: “إن عملية التركيب معقدة، إلا أنها ضرورية لصوغ المفاهيم وصياغة الكليات… ولهذا فالمقاصد لها وظيفة أساسية في بناء هذه الكليات، فهي بطبيعتها وتنوعها من كلية، وجزئية، عامة وخاصة، في مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات تمثل مادة جوهرية متلونة ومرنة لخلق المفاهيم بمضامين متجددة، ومستوعبة للقضايا اللامتناهية لنهر الحياة الدافق”[11].
2. التبويب: والمراد به عند المؤلف الطائفة من المسائل، لها أول وآخر، وتجمعها وشائج قرب، وتسبح في فلك واحد، وذلك كباب القياس مقلا، فإنه يضم القياس الصحيح والقياس الفاسد، والعلل المتقاضية، والقوادح المانعة[12].
3. الترتيب: والمراد به ترتيب الموضوعات ابتداء من التعريفات، مثل تعريف علم الأصول، وغاية الحكم وأنواعه، والمحكوم به، والحاكم، ثم الأدلة من كتاب، وسنة، وإجماع[13].
4. التلقيب: فالمراد به وضع ألقاب وأسماء لمختلف مسائل الأصول، التي هي جزئيات باعتبار، وكليات باعتبار آخر. وقد اختلف الأصوليون في الألقاب وضعا وعدما، ومضمونا[14]؛ كاختلافهم في فحوى الخطاب، ودليل الخطاب، حيث نجد دلالة الأول عند الأحناف غير التي عند الجمهور، وقل مثل ذلك في المحكم، ودلالة النص، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء والتنبيه، وغيرها، مما هو معلوم اختلاف مدرسة الأحناف ومدرسة المتكلمين في تحديد معناه ودلالته.
5. التقريب: لقد حدد الشيخ بن بيه، حفظه الله[15]، التقريب في عمل المختصرين، والشراح، وأصحاب الحواشي، وهو في نظره عملية تعليمية أكثر من كونه عملية توليد للأحكام، وقد حملت في طياتها التشذيب الذي ألغى بعض المباحث غير المباشرة لكنها مفيدة في عملية التأصيل.
إن الألقاب الخمسة سالفة الذكر شكلت صورة بناء علم أصول الفقه في مختلف مراحله، وهي مسيرة منهجية رائدة، تخللتها فترات تجديدية، وإبداعية، همت أحيانا إبداع مصطلحات جديدة، ومركبات مبتكرة، ومفاهيم واسعة، أسعفت جميعها في الإجابة على عديد قضايا ومسائل واجهت المجتمعات المسلمة في مخالف الحقب.
وقد أبدع المؤلف في تحديد المراد بكل مرحلة على حدة، وبنى عليها معاني هي مقصوده الأصلي من إيرادها؛ حيث نجده وفي وعي تام بفقه الواقع وسياق الحال، يؤكد أن مسيرة مقررات الأصول كما رصدها، تسمح لنا بمراجعتها على ضوء الواقع المتغير، بل إن الشيخ ربط القول في هذه الألقاب بالعملية التجديدية، وفي هذا يقول حفظه الله: “نحن بحاجة إلى مراجعة الصورة المركبة التي قد تكون مصدر العجز، بل إن الفاعل[16] أيضا عليه قسط من المسؤولية، فكثير من الداعين إلى التجديد لديهم عجز وخصاصة علمية لا تسمح لهم باستيعاب الموجود، فكيف يبحثون عن الجديد؛ فإذا كانت الصورة هي مجال التجديد ومجرى عواليه ومجرى سوابقه”، فإن التركيب المتمثل في بناء الكليات الحاضنة للجزئيات، يمثل وجه الصورة التي إذا أميط عنه النقاب، يتعرف على حقيقة المطلوب، وينكشف عنه الحجاب”[17].
واستيحاء من موضوعات الاجتهاد الثلاثة عند أبي إسحاق الشاطبي، اختصر الشيخ بن بيه التجديد على مستوى الصورة في ثلاثة أجناس للتجديد تعد في حقيقتها أصول الفقه، وهي كذلك بؤرة استنباط الأحكام، وهي كما يلي[18]:
1. اجتهاد في دلالات الألفاظ، مرده إلى اللغة العربية.
2. اجتهاد يتعلق بما عقل من المصالح والمفاسد، مرجعه إلى المقاصد جملة وتفصيلا.
3. اجتهاد ثالث بتحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا، وهو متاح للمقلد إلى جانب المجتهد؛ لأن علاقته بالواقع، ولا يعقل تطبيق الشريعة بدونه، ومنه ما سماه الشاطبي بتحقيق المناط في الأنواع والأشخاص.
ولا يخفى أن هذه الأجناس الثلاثة تشتمل على أنواع كثيرة هي لب التجديد، ومضطرب المجتهدين، ومراد مراداتهم. من أجل ذلك اختارها الشيخ بن بيه بلوذعيته المعهودة، وهي التي تجيب على الأسئلة المفاتيح، وهي بدورها ثلاثة: ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ تشكلمنظومات ومجموعات، وفق تقسيم بديع جعل ماذا؟ لمدلول الدليل. ولماذا؟ لمنظومة التعليل. وكيف؟ لمباءة التنزيل؛ أي مسالك التنزيل على الواقع.
المجموعة الأولى: مدلول الدليل وشروط التأويل، أو الجواب عن لماذا؟
أو دلالات الألفاظ، وهو يسبر آفاق التجديد في هذا الجزء من الأصول الذي يمثل المرحلة الأولى للتعامل مع النص، وموضوعه دراسة الظاهرة اللغوية في علاقتها بالوحي.
وغاية الشيخ من هذا المحدد هو مراجعة ما أنتجه الفكر الأصولي لكي يتسنى البناء عليه من جديد صروح التجديد[19].
وكما هو معلوم فمجال دلالات الألفاظ، اهتمت به أجيال من العلماء في مختلف الحقول المعرفية، خاصة مجال التفسير، والبلاغة، وأصول الفقه، واللغة والنحو. بل إن دلالات الألفاظ كانت سببا لاختلاف المتكلمين في مسائل التأويل، يقول الإمام الغزالي: “ومعرفة ما يقبل التأويل، وما لا يقبل التأويل ليس بالهين، بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها، وتجوزاتها، ومنهاجها في ضروب الأمثال”[20].
وبعد أن أوضح الشيخ صنيع الجمهور، وصنيع الأحناف في تقسيمات الألفاظ، ورصد التفاوتات الحاصلة في عملية التوالد والتفاوت بين مولدي الدلالات، اقترح عملية تجديدية تتمثل في وضع مقدمة لدراسة الظاهرة اللغوية من كل جوانبها، ونواحيها، وزواياها، لاستخراج خباياها انطلاقا من ثلاثي: الوضع، والاستعمال، والحمل. نظرا لكون هذا الثلاثي “من أهم موضوعات دلالات الألفاظ التي حملت الشحنة الدلالية التي جرت ذيول الخلاف، وأجرت خيول حلبة الجدل بالإيجاف”[21].
وتبعا لذلك، يقرر الشيخ بن بيه أنه من الضروري أن تتضامن ثلاثة علوم في ضبط الظاهرة اللغوية في مختلف شياتها، وتنوع دلالاتها، وهي:
1. علم اللغة، نحوا وصرفا ومفردات.
2. علم البلاغة، وبخاصة علم المعاني والبيان في عوارض الإسناد، ومعاريض المجاز، والكناية والتشبيه.
3. علم الأصول في مسلكه في دلالات الألفاظ، لتحرير الدلالات الأصلية والتبعية والإضافية، والدلالات الأولية والثانوية، مع التأكيد على معهود العرب في خطابها.
وبذلك يتسع صدر الأصولي للتأويل، ويفرق بين التأويل الصحيح والفاسد، ذلك أن التأويل من شروطه أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع، وكل تأويل خرج عن هذا فعير صحيح[22].
وقد ختم الشيخ بن بيه حديثه عن دلالات الألفاظ بتوجيه متبصر، قال فيه: “كانت هذه إثارة لمراجعة نظرية لكل زمرة من أبواب الدلالات، عنوانه الظهور، وميدانه الاحتمال والبطون. أما الجزئيات المبنية على ذلك الكلي، فقد تكفل الفقهاء، رحمهم الله، بتقرير أحكامها حيث أسفرت جهودهم عن وفاق في بعضها واختلاف في الكثير منها، واستقر الفقه على ذلك. فلا أدعوا إلى تنفيره وإنما أدعوا إلى استنفاره؛ لمواجهة الجديد وليس لمنابذة القديم، وهو سبحانه ولي التوفيق”[23].
المجموعة الثانية: منظومة التعليل: الجواب عن لمَ؟
يعد التعليل في الأحكام من أهم موارد الاجتهاد، وأعظم قواعد الاعتماد، فعليه اعتمد الفقهاء في وردهم وصدرهم، ووجهوا إلى غايته سهام نظرهم، فمن مستكثر اللجأ والتعويل على التعليل ما وجد إليه من سبيل، حتى لو كان في أبواب العبادات التي هي مظنة التحكمات والتعبدات، كما هو دأب الحنفية في مسائل القيم، ومن مقتصد متحر للمناسبات المتقاضية للتعليل، محكما سيفه في رقاب العادات مبرأ ساحات العبادات في أغلب الأحوال والأوقات. كالشافعية والمالكية والحنابلة على تفاوت كبير في منازع الأخذ والرد والجذب والإرخاء والشد[24].
والتعليل هو المرحلة الثانية بعد تفسير النص، فبعد المعرفة والحكم، يظهر سؤال العلة، ذلك أن التعليل هو مفتاح التعامل خارج دلالة اللفظ. والتعليل المراد عند المؤلف هو بمعناه الأعم؛ أي قد يكون بكلي أو جزئي، وقد يكون عن طريق المسالك المعهودة في القياس، لقياس جزئي على جزئي لاشتراكهما في علة، وقد يكون عن طريق الاستقراء.
وقد اشترط الشيخ بن بيه أن يقدم للتعليل بمقدمتين:
المقدمة الأولى: عن مقاصد الشريعة الكلية والجزئية، الأصلية والتبعية، ومقاصد الشارع ومقاصد المكلفين؛ لأنها بيئة التعليل كليها وجزئيها، ليستبين الدارس أصول التعليل.
ولا يخفى أن بين المقاصد وبين العلل عموم وخصوص من وجه، فغالب العلل مقاصد، إلا أنه توجد علل ليست فيها رائحة ولا روح المقصدية، وذلك في العلة المستنبطة من مسلك الدوران طردا وعكسا، فإن الوصف المدار ليس مقصدا بل هو أمارة.
من هنا يدعو فضيلة الشيخ بين بيه إلى التعامل مع المقاصد تعاملا جديدا باعتبارها أدوات فاعلة في مختلف أبواب أصول الفقه، معممات محل الحكم في حال خصوص اللفظ، ومخصصات في حال العموم، ومقيدات ومطلقات في عكس كل منهما ومبينات في حالة الإجمال، سواء كان المقصد صالحا للعلية بالمعنى الخاص، أو منطويا على حكمة يلجأ إليها ذوو الاختصاص؛ إذ سيكون تفعيل المقاصد من خلال أدوات الإنتاج والاستثمار، موسعا لأوعية الاستنباط، وجهاز استشعار في مجال الالتقاط[25].
وقد شرح الشيخ بن بيه بإبداعية في الرؤية والمنهج، على عادته، شرحا مستفيضا في أكثر من ثلاثين منحى اندماج المقاصد في مختلف أبواب الأصول، وألقى بدليل قاطع ودليل ناصع مقولة استقلال المقاصد عن علم الأصول للحاجة المتبادلة بينهما. فالمقاصد بلا فروع عقيمة، والأصول وما ينبني عليها من الفروع بلا مقاصد يتيمة[26]. وقد ذكر، حفظه الله، أمثلة من كلام الأولين في جملة من الأبواب.
المقدمة الثانية[27]: منطقية أصولية تشرح التصورات من خلال قول شارح، لتصل إلى التصديقات من خلال الحجة بنوعيها النقلية والعقلية. وهنا تبرز أهمية البرهان الذي يقوم على المقدمات اليقينية عند المناطقة، للولوج إلى ثلاثي القياس:
ـ القياس الشمولي، وهو استنباط جزئي أخفى من كلي أعرف، وشروطه وأشكاله المنتجة.
ـ قياس الاستقراء.
ـ قياس التمثيل.
وقد أجاد الشيخ بن بيه في عرض دوائر التعليل، وأفاض في مناقشتها من مختلف الأوجه، مستحضرا اختيارات الرواد الأوائل من أهل الأصول والمقاصد[28]، مستشهدا بأقوالهم، ولم يكتف بإيراد الأقوال، بل كانت له ترجيحات وتعقيبات، وتوجيهات، أهمها ما اقترحه من توسيع لدوائر التعليل من خلال الاستنجاد بالمقاصد، واستنطاق للمنطق لتركيب المفاهيم وترميمها من جديد، ولا تحقق لهذا المبتغى دون النزول إلى مدرج التنزيل، وهو في حقيقته نوع من الرقي في التعليل.
المجموعة الثالثة: مباءة التنزيل: الجواب على كيف؟
يقصد الشيخ بن بيه بمباءة التنزيل الواقع، والتنزيل غير التنازل، وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ ناهيك عن الفقيه والأصولي مصطلحات من قبيل: تحقيق المناط: الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والحال، والمآل، والمصالح والمفاسد، ومعيار الكلي والجزئي…
ولا يخفى أن مصطلح التنزيل، هو “اختصار لجملة هي: تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو الواقع؛ أي الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة”[29].
وحيث إن العنوان الاصطلاحي لهذا النوع من الاجتهاد هو تحقيق المناط، خصص الشيخ بن بيه حيزا كبيرا للتفصيل فيه على طريقة أهل الصنعة. وقد حدد له صورتان:
الصورة الأولى: تطبيق القاعدة العامة في آحاد صورها، وحينئذ يكون تحقيق المناط بعيدا عن القياس كل البعد. وقد قدم له تطبيقا على قاعدة العدل[30].
الصورة الثانية: إثبات علة متفق عليها في الأصل في الفرع لإلحاق الفرع بها، وهذا ما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله:
تحقيق علة عليها ائتلفا في الفرع تحقيق مناط ألفا[31]
وهذا التعريف الثاني أدق من الأول، فالعلة المتفق عليها في الأصل إذا أثبتناها في الفرع، فهذا هو تحقيق المناط[32].
لقد رصد الشيخ بن بيه في جولة علمية مع أبي حامد الغزالي ومع أبي إسحاق الشاطبي وغيرهما من الفحول معاني تحقيق المناط، وخلص إلى أنه ثالث أنواع الاجتهاد، وأنه ليس خاصا بالمجتهد الفقيه، بل يسوغ لأصحاب الصنائع والأطباء والباعة، بل لكل مكلف في خاصة نفسه.
ولهذا فتحقيق المناط عام وخاص؛ فتحقيق المناط في الأنواع من نوع العام، وتحقيق المناط في الأشخاص من نوع الخاص[33].
ونظرا لأهمية موضوع تحقيق المناط في قضايا الاجتهاد والتجديد عموما، ومجال علم أصول الفقه خصوصا، أولاه الشيخ بن بيه أهمية خاصة، وتوضيحا زائدا، تحت العناوين الآتية:
أ. بيئة تحقيق المناط تأصيلا وتنزيلا
والمراد بالتأصيل الأحكام والأدلة، والمراد بالتنزيل الواقع المشخص، ووسائل التعرف عليه[34]. يقول الشيخ بن بيه: “نحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للواقع في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان، وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائما أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور”[35].
وإن القرآن الكريم والسنة النبوية يظلان النبراس الدائم، والينبوع الدافق، بهما يستضاء في ظلمة الدياجير، ومنهما يستقى في ظمإ الهواجر، بأدوات أصولية مجربة، وعيون معاصرة مستبصرة[36].
ووفق هذا المنهج يقرر الشيخ بن بيه أن كثيرا من القضايا التي ينظر إليها من خلال الأدلة الفرعية بنظر جزئي، وهي قضايا تتعلق بكلي الأمة؛ كمسألة جهاد الطلب، وتصنيف الدار، والعلاقات الدولية المالية، التي لا تحترم أحيانا من ماهية العقد إلا ركن التراضي… فالواقع الجديد يقترح صورة مغايرة للصورة التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، ومعنى قولنا الجزئية أن الأحكام الكلية التي يستند إليها التنزيل تشمل الصورة القديمة والحديثة.
فجهاد الطلب، يضيف الدكتور بن بيه، كان في وقت لا توجد فيه معاهدات دولية، ولا حدود إلا تلك الثابتة بقوة السلاح أو بعد المسافة، ولم تكن فيه إمكانية إيصال الدعوة لأكثر الأقاليم دون إسناد حربي، ولم تكن أسلحة نووية فتاكة يمكن أن تقضي على الجنس البشري. ذلك هو الواقع اليوم، والواقع القديم مختلف.
الحكم الكلي يحكم على الجزئي، وذلك دون مناقشة أصل وجوب جهاد الطلب اختصارا على الباحث. كما أن واقع الحريات في عالم أصبحت فيه السيادة شبه ناقصة، والمعاهدات والمواثيق الدولية شبه حاكمة يمثل واقعا مؤثرا في مسألة الحدود الشرعية، وبخاصة في قضايا الاعتقاد، وجرائم الأخلاق، ومسألة التعددية الدينية… إنه واقع يؤثر في النظم والقوانين ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل[37].
ولما كان تحقيق المناط انطباق وتطابق بين الواقع وبين الحكم المنزل فيه، يبرز سؤال: ما هو الواقع؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال يستشهد العلامة ابن بيه بنصين لعلمين شامخين؛ الأول لابن قيم الجوزية، في “إعلام الموقعين”، يقول فيه: “لا يتمكن المفتي ولا الحاكم (القاضي) من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما؛ فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني؛ فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان، صلى الله عليه وسلم، بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة من الأم”[38].
والنص الثاني للإمام القرافي، في الفرق الثامن والعشرين، بين قاعدة العرف القولي؛ يقضي به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضي به على الألفاظ ولا يخصصها، يقول فيه: “وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تحدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين”[39].
فحسب عبارات ابن القيم، والقرافي، رحمهما الله، الواقع الذي يجب فهمه والفقه فيه والاستنباط يعني من ضمن ما يعنيه، الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات، أو علاقة، أو نسبة ليكون المحكوم به، وهو الحكم الشرعي، المشار إليه بالواجب في الواقع، مطابقا لتفاصيل هذا الواقع ومنطبقا عليه[40].
ب. لكن ما هو نوع الواقع الذي يبحث عنه الفقيه؟ ولماذا يبحث؟
إنه الواقع الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتها حاقة فيه، أي ثابتة ثبوتا حقيقيا يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئيا أو كليا، فرديا أو جماعيا، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف[41].
وهكذا يكون هذا الواقع مفتاحا لتعامل الفقيه مع الأشياء والأشخاص؛ وعليه يكون من واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.
ج. وسائل تحقيق المناط
فإذا كان الحكم يعرف من خلال النصوص الشرعية وما يستنبط منها، فإن الواقع بحاجة إلى معرفات، وهي الموازين الخمسة عند أبي حامد الغزالي، وقد جعلها معيارا للتحقق من الواقع المؤثر في الأحكام، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق؛ اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية[42].
ونظرا لصعوبة تحقيق المناط في العديد من القضايا، أحيط هذا النوع بوسائل ضبط تجلت في علاقة بتنقيح المناط وتخريجه، وبدليل الاستحسان، ودليل الاستصلاح، ودليل الذرائع؛ إذ هي في حقيقتها ترجع في أغلب فروعها إلى تحقيق المناط، إلا أن لكل واحد منها مميزات هي في حقيقتها ضابطة. وهذا ما يفضي إلى سؤال لمعرفة من يحقق المناط؟
يقول الشيخ بن بيه: “لقد أجاب الشاطبي، رحمه الله، عن سؤال: من يحقق المناط؟ بأنه العالم الرباني العاقل الحكيم، الذي ينظر في كل حالة. والظاهر أنه هنا يشير إلى تحقيق المناط الخاص، الذي يمكن أن نضعه في دائرة الإحسان، والذي هو “مسحة ملك”، وعلم أورثه تقى ونور. وبصفة خاصة هو تعامل مشايخ التربية في تسليك المريدين، وتهذيب المنتسبين (…)، إلا أنه فيما يتعلق ببيان الواقع لتحقيق المناط، فقد قرر الشاطبي نفسه بأنه متاح لأصحاب الصنائع والعوام، وليس حكرا على الفقيه. وللإجابة عن هذا السؤال لابد أن نقرر أولا أن خطاب الشارع مستويات ومراتب، فمنه ما هو موجه إلى الفرد في خاصة نفسه، كما أنه بإمكان الجماعة، ممثلة في الجهات الولائية، إذا لاحظت حيفا أو تحققت من مفسدة غير مرجوحة أن تحقق المناط. وكذلك كل القضايا العامة للأمة إنما يحقق المناط فيها الجهة الولائية المختصة، كإنزال العقوبات، وكفرض الضرائب…”[43].
د. مجالات تحقيق المناط
يقرر الشيخ بن بيه أن تحقيق المناط يجب أن يكون في كل المجالات؛ كالمجال السياسي “الأحكام السلطانية”، والمجال الاقتصادي “المعاملات”، والمجال الاجتماعي، ومجال العلاقات الدولية… ففي كل هذه المجالات نحتاج اليوم إلى نظر كلي يلاحظ الواقع المستجد لتركيب الدليل مع تفاصيله، وترتيب الأحكام على مقتضياتها[44].
المحور الثالث: الغاية
وتمثل الغاية البوصلة الحقيقية لمحاكمة دعاوى التجديد، وهي عند الشيخ ابن بيه، حفظه الله، ترد باعتبارين: أولهما الفكر، ويسمى الباعث، ويسمى المبدأ. والثاني: المنتهى، ويسمى الفائدة؛ ولهذا قالوا: مبدأ العلم منتهى العمل؛ فالباعث على إنشاء علم الأصول، هو البحث والتوسل إلى استنباط الأحكام، والفائدة هي الوصول إلى الأحكام[45].
وبهذا التفسير الذي قدمه الشيخ بن بيه، حفظه الله، للغاية، ندرك أن أصول الفقه وسيلة لاستنباط الأحكام، وأن وظيفته هي الوصول إلى الأحكام بطرق منضبطة، ولهذا اختار له اسم: الاستنباط والانضباط. وبناء على كل ذلك يقرر الشيخ أن لا مجال للتجديد في الغاية[46].
المحور الرابع: الفاعل
وهو المجدد أو المجتهد، وفي نظر الشيخ العلامة بن بيه فيشترط في المجدد “أن يكون قد قدم إبداعات ما في مجال من المجالات، اعترف بها العلماء، وأثنوا عليها، كما دلت عليها أسماء أولئك النفر الذين نالوا جائزة التجديد”[47].
وارتباطا بسياقنا المعاصر اقترح الشيخ ابن بيه أنه من المناسب “أن يكون التجديد في هذا العصر، عصر المؤسسات جماعيا تتضمن فيه مختلف الخبرات والتخصصات، ليكون مرآة لسمات العصر، وعاكسا لتحولات العالم، ويشترك فيه الخبراء إلى جانب الفقهاء، في شتى المجالات المستهدفة…”[48].
عود على بدء
يعتبر علم أصول الفقه علم مركزي في علوم الشرع؛ لما له من وظيفة إنتاج الأدوات المثمرة للأحكام من جهة، وضبط النظر والفكر من جهة أخرى، بحيث أمسى بمثابة الوسيط بين الوحي والفهم البشري، والوسيلة للتعامل معه.
ولئن كان من أهم مُشكلات العصر البحثُ عن الانسجام بين الضمير الديني والواقع المجتمعي، أو عن التساكن السعيد بين كليّ مقتضيات الزمان وكليّ الشريعة والإيمان، فإنّ أصولَ الفقه تُمثل أفضل منهجٍ اخترعته العبقرية الإسلامية للتعامل مع نصوص الوحي الإلهي، وهو منهج خالدٌ لأنه يستمد ينبوعَه ومادتَه من نصوص الوحي ومن لغة القرآن المحفوظ؛ مما كفلَ له البقاءَ وضمن له النقاءَ، وهو عملٌ إنساني رائع أُنتج في أواخر القرن الثاني الهجري والحضارة الإسلامية في أوج عطائها وقمة سنائها، والاختراعات والإبداعات تتداعى، وبخاصة في مجال اللغة وعلم الكلام والنحو والبلاغة والفلسفة، في بيئةٍ تمازجت فيها الأعراق وتزاوجت فيها المواريث الإنسانية، وكان السقف القرآني حافظاً لها في الجملة من الانفلات، وعلى الرغم من حدة الجدل إلا أنه ظل محكوماً بمعايير إسلامية[49].
من خلال إمعان النظر في المشروع التجديدي[50] لفضيلة الشيخ العلامة بن بيه سواء في مشاريعه الرائدة في مجال العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي عامة، وفي علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة خاصة، يظهر أن لأصول الفقه عند فضيلة الشيخ وظيفتان متلازمتان؛ يمكن أنْ يُعبر عنهما بـ”الاستنباط والانضباط”، فهو من ناحية يسلط الفكر والنظر على النصوص، ألفاظاً وحكماً ومقاصد بنظر منضبط بقواعد وقوانين، فلا يصدر حكماً كلما لاحت لوائح المصالح أو كلما عنت سوانح الحاجات.
كما أن دراسة أصول الفقه من ناحية أخرى تدرب العقل المسلم على منهج التفكير الصحيح والنظر السديد؛ خاصة إذا ما استثمرنا المنهجية التي يستبطنها علم الأصول وتمكن فيه بالقوة بإبرازها إلى الفعل متمثلة في بناء الكليات وتوليد الجزئيات، وهي منهجية صالحة للتوظيف في كل المعارف، بل وكل مجالات المعايش، يقول الشيخ بن بيه: “إن دراسة أصول الفقه من الممكن أن تُدرب العقل المسلم على منهج التفكير الصحيح والنظر السديد، إذا استثمرنا المنهجية التي يستبطنها علم الأصول، وتكمن فيه القوة بإبرازها إلى الفعل متمثلة في بناء الكليات وتوليد الجزئيات، وهي منهجية صالحة للتوظيف في كل المعارف، بل وكل مجالات المعايش”[51].
بالإضافة إلى كل ما سبق، حرص الشيخ بن بيه، حفظه الله، على أن يذبج في مسك ختام هذا السفر المبارك، جملة مقترحات علمية، تعد مظاهر لإعادة التركيب، والترتيب، والتبويب:
ـ في المادة: إبدال عنوان التحسين بـ”مكانة العقل في التشريع”؛
ـ في مدلول الدليل: وضع مقدمة عن اللغة تتضامن فيها العلوم اللغوية، لغة ونحوا وبلاغة وصرفا، بالإضافة إلى الأصول، بما في ذلك دراسة مقارنة عن المنهج الغربي في اللسانيات والهيرمينوطيقا انطلاقا من ثلاثي الوضع والاستعمال والحمل لتوليد الدلالات.
ـ في منظومة التعليل: مقدمة منطقية تدرس فيها الأقيسة الثلاثة: الشمولي، والاستقرائي، والجزئي، تؤصل للتعليل، وتظهر مدى التواصل بين المنطق والأصول. مقدمة عن المقاصد، وضبط التعامل مع المقاصد بخمسة ضوابط لإدماجها في الأوعية الأصولية.
كما اقترح فضيلة الشيخ إحداث باب في هيكل الأصول بعد باب الاجتهاد لتمرين الباحثين على تطبيق القواعد الأصولية على المسائل الجزئية على غرار كتب التخريج، يقصد بذلك، حفظه الله، كتب تخريج الفروع على الأصول، من قبيل كتاب الإسنوي المسمى “التمهيد في تخريج الفروع على الأصول”، أو كتاب التلمساني الموسوم بـ”مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول”.
هذا على مستوى الصورة، أما على مستوى الفاعل، فقد اقترح الشيخ ابن بيه أن يكون التجديد في الشريعة جماعيا، تماشيا مع روح العصر، يشترك فيه الخبراء مع الفقهاء.
ومع ما ذكر، اختتم الشيخ بن بيه الحديث عن كل ما سلف بالقول: ” فإن مشاريع التجديد سواءً كانت جزئية تفصيلية تتعلق بأبواب أو بمسائل متفرقة للتخفف من الاختلاف، أو من البحوث النظرية التي لا جدوى منها علمياً، أو تتعلق بمجالات تطبيقية كالعلاقة مع القوانين أو بنظام الأسرة أو الفرد؛ فإني أعتبرها مفيدة في نتائج التجديد ولكن ليس في تجديد الآليات، وإنما في توليد الجزئيات، ولها مكانها في التفاصيل واختبار جدوائية المولدات التي تم حصرها في: تفسير النصوص، وتعليل النصوص، وتنزيل الأحكام.
فالتفسير: مدلول الألفاظ المفردة أو الأفعال، والتعليل؛ استنتاج العقول من مغزى النصوص الجزئية أو مجموع النصوص. والتنزيل؛ تفاعل بين واقع أو متوقع وبين أحكام ثابتة لنصوص واضحة أو مستنبطة بعلل من خلال كليات المصالح والمفاسد التي توسع مدى النصوص لتعميمها، وتطلق مقيداتها وتقلص مدى عمومها وتقيد مطلقاتها؛ طبقاً لمقاصد فهمت في محل النص أو خارجه عند تحقق المناط”[52].
الهوامش
[1]. عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، إثارات تجديدية في حقول الأصول، جدة: دار التجديد، (1434ﻫ/2013م)، ص24.
[2]. المرجع نفسه.
[3]. المرجع نفسه، ص25.
[4]. المرجع نفسه، ص26.
[5]. المرجع نفسه، ص29-30، ولمزيد اطلاع ينظر: معيار العلم للغزالي، ص:107، البحر المحيط للزركشي: 1/21، والمنخول للغزالي ص4.
[6]. إثارات تجديدية، م، س، ص33.
[7]. المرجع نفسه.
[8]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز-محمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، ط1، (1425ﻫ/2004م)، 2/10-12.
[9]. إثارات تجديدية، م، س، ص35.
[10]. المرجع نفسه.
[11]. المرجع نفسه.
[12]. المرجع نفسه.
[13]. المرجع نفسه.
[14]. المرجع نفسه، ص40. ولمزيد من التفصيل في شجرة الدلالات يراجع كتاب الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، المكتبة المكية – دار ابن حزم، ط1، 1999م.
[15]. إثارات تجديدية، م، س، ص41.
[16]. المراد بالفاعل المجتهد المجدد.
[17]. إثارات تجديدية، م، س، ص42.
[18]. المرجع نفسه، ص42-43.
[19]. المرجع نفسه، ص44.
[20]. انظر رسالة فيضل التفرقة، ص78. (ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي).
[21]. إثارات تجديدية، م، س، ص50.
[22]. انظر إثارات تجديدية، م، س، ص51-57، وأضاف الشيخ بن بيه معقبا: “قلت: وهذه الموافقة لوضع اللغة لا تعني أن تدل عليه دلالة مطابقة، فهذا لا يسمى تأويلا، ولكنها موافقة بحيث تدل عليه تضمنا أو التزاما”. انظر: إثارات تجديدية، م، س، ص57.
[23]. إثارات تجديدية، م، س، ص61.
[24]. المرجع نفسه، ص63.
[25]. المرجع نفسه، ص67-68.
[26]. انظر كتاب: عبد الله بن الشيخ محفوظ بن بيه، مشاهد من المقاصد، الإسلام اليوم، ط1، 1431ﻫ.
[27]. المرجع نفسه، ص77.
[28]. المرجع نفسه، ص77-99.
[29]. المرجع نفسه، ص100.
[30]. المرجع نفسه، ص101.
[31]. نشر البنود على مراقي السعود، 2/207.
[32]. إثارات تجديدية، م، س، ص102. وقد مثل الشيخ بن بيه لتحقيق المناط في صورته الثانية بعلة الربا في المطعومات.
[33]. المرجع نفسه، ص121-122.
[34]. المرجع نفسه، ص122.
[35]. المرجع نفسه، ص124.
[36]. المرجع نفسه، ص124.
[37]. المرجع نفسه، ص126-127.
[38]. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، (1417ﻫ/1996م)، 1/69.
[39]. إدريس القرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، صيدا-بيروت: المكتبة العصرية، ط (1424ﻫ/2003م)، 1/176-177.
[40]. إثارات تجديدية، م، س، ص131.
[41]. المرجع نفسه، ص136.
[42]. المرجع نفسه، ص140.
[43]. المرجع نفسه، ص142-146.
[44]. المرجع نفسه، ص146.
[45]. المرجع نفسه، ص156.
[46]. المرجع نفسه.
[47]. المرجع نفسه، ص158
[48]. المرجع نفسه.
[49]. المرجع نفسه، ص159.
[50]. يعرف العلامة عبد الله بن بيّه التجديد الأصولي: “بأنه تحريك المفاهيم التي تشكل المنظومة الأصولية، وتمثل الصورة المحددة لها لإبداع مفهوم جديد، أو إدراج مضمون حديث في مفهوم قديم في قراءة جديدة للأصول؛ قواعد ومقاصد وعلاقتها بالجزئيات الفقهية على ضوء مستجدات العصر؛ فهو ربط واصب بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته”. إثارات تجديدية، م، س، ص12.
[51]. المرجع نفسه، ص160.
[52]. المرجع نفسه، ص166.