خطاب معالي الشيخ عبدالله بن بيه في مؤتمر التواصل الحضاري 2 – نيويورك – رابطة العالم الاسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين والصلاة و السلام على سيدنا محمد النبي الخاتم وعلى إخوانه من النبيين.
أيها السادة و السيدات،
إنّه لمن دواعي سروري المشاركة في النسخة الثانية من مؤتمر العلاقات الأمريكية-الإسلامية في نيويورك، إن تجدد انعقاد هذا المؤتمر دليل على أهمية موضوعه الذي يستحق المزيد من العناية والبحث المعمق.
إنّ رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الأمين العام الدكتور محمد عبدالكريم العيسى بتبنيها لهذه المبادرات النوعية عالية المستوى لتؤكد على دورها الريادي في مد الجسور بين الشعوب في الوقت الذي يعمل الكثيرون على تهديمها، وتقوم بنشر السلام في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات الخصام، ولا أدل على ذلك من حصول معالي الأمين مؤخراً على جائزة رائد عصرِ النهضة الأوروبية (جاليليو) بمدينة فلورنسا بإيطاليا، إن هذا الدور الريادي ليعبر أصدق تعبير عن المهمة الملقاة على عاتق أهل الأديان: ألا وهي إفشاء السلام بين الناس.
إنّ الدعوة للبحث عن المشترك ليست دعوة مثالية حالمة، ولا ضبابية واهمة، كلا، بل هي دعوة يسندها الشرع والعقل. لقد دعا القرآن الكريم المختلفين إلى البحث عن نقطة بداية للحوار، عن قاعدة للتفاهم، ”عن كلمة سواء“، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. ولقد حدد القران الوسيلة المناسبة للتوصل إلى هذه الكلمة السواء، إنه الحوار والمجادلة بالحسنى: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. إن الشريعة الإسلامية وكل الأديان في جوهرها لا تدعو إلى الفوضى ولا إلى العبث، إنها مشروع تعمير وليست مشروع تدمير، إنها طاقة للحياة والخير وليست للشر والدمار. إن ميزان الشرع هو ميزان المصالح والمفاسد، يضعها في كفتيه، فيرجح الأصلح، ويدرأ المفسدة، فكما يقول ابن القيم: ”الشريعة مصلحة كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فما خرج عن المصلحة إلى المفسدة، وعن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، ومن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة في شيء“.
التحدي الذي يواجه الأفكار النبيلة يتمثل دائماً في تحويلها إلى مشاريع وأعمال على أرض الواقع، وإني لأحسب هذا المؤتمر وأعمال رابطة العالم الإسلامي بقيادة أمينها نماذجا تحتذى من العمل الجاد والسعي الدؤوب. ولقد قمنا في منتدى تعزيز السلم بعدة مبادرات في هذا الإطار سعينا من خلالها إلى تفعيل جوهر الأديان وإبراز دورها الإيجابي في خدمة البشرية. إننا نريد من الأديان وأهلها أن ينتقلوا من مبدأ الاعتراف إلى منهج التعارف القرآني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. ولقد تحدثت إليكم من هذا المنبر عن بعض المناشط التي قمنا بها منتدى تعزيز السلم في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث الفضاء الرحب للتسامح والتواصل ، إحدى هذه المبادرات التي تنسجم مع سياق مؤتمرنا هي قافلة السلام الأمريكية التي استضفناها في أبوظبي وفي عاصمة المملكة المغربية الرباط في سنة ٢٠١٧، تتلخص فكرة القافلة في استضافة مجموعات من القيادات الدينية تمثل العائلة الإبراهيمية وإتاحة المجال لهم في التعارف فيما بينهم والتحاور في جو من المحبة والصراحة. الهدف أن ترجع القيادات الدينية إلى مجتمعاتها المحلية في الولايات الأمريكية لينقلوا الفكرة الصحيحة التي رأوها عن الأديان الأخرى. في هذا العام بحمدالله تطورت فكرة هذه القافلة لتصبح تحالفاً وحلفاً مقتبساً من السيرة النبوية الشريفة، لقد عقدنا في واشنطن بداية هذا العام بالتزامن مع إفطار صلاة الشكر مؤتمراً أعلنا فيه عن حلف الفضول أو حلف القيم المشتركة كما يمكن ترجمته، ولقد شرفتمونا بحضوركم وإسهامكم الفاعل.لقد استلهمنا الفكرة والاسم من ذلك الحلف الذي نشأ في مكة قبل البعثة و زكّاه الرسول صلى الله عليه وسلّم بقوله: {لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ}. ما هو هذا الحلف؟ إنه حلف مؤسس على القيم المشتركة من رد الظلم وإغاثة الملهوف والتعاون على الخير. إننا نرى أن هذا النوع من المبادرات قد يفتح باباً جديداً في العلاقات بين الأديان. إن حلف الفضول المعاصر الذي نقترحه يهدف إلى ثلاثة أهداف رئيسية:
أولاً: لتأكيد ما تم حتى الآن من أعمال تمثل إرادة التعايش السعيد وبناء جسور الصداقة والمحبة بين رجال العائلة الإبراهيمية ونسائها، الذين آمنوا بالقيم المشتركة وبأن إعلاء قيمة الإنسان أهم برهان على ما يتشاركون فيه من قيم الإيمان.
ثانياً: لإظهار الدين كقوة للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وليس عامل حروب وإثبات أن ذلك ممكن فعلاً، فديناميكية المحبة تتغلب على الكراهية، المحبة والسلام والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية وهي شعارنا.
ثالثاً: أن نوسع آفاق مبدأ التعارف والصداقة والتعايش السعيد لتتحول إلى عمل إنساني ميداني لمساعدة المرضى والمحتاجين باعتبار ذلك من صميم موروثنا الديني.
إننا نؤمن بأن ذلك ممكن حين لا نيأس من روح الله ولا من بعضنا البعض كما في وصية سيدنا يعقوب لأبنائه: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
إن الإسهام في تقريب وجهات النظر بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة الأمريكية لهو أمر مطلوب لخدمة الجانبين بل لخدمة العالم أجمع. إن هذا البلد الكبير يعتبر حديثاً بالقياس إلى شعوب وبلدان العالم الإسلامي التي تمتد رقعتها لتشمل أجزاء كبيرة من قارات العالم القديم وفي وسطها المملكة العربية السعودية مهبط الوحي ومهد الرسالة ومكان الكعبة المشرفة قبلة المسلمين وتراث سيدنا ابراهيم مما أعطى المملكة دوراً مميزاً في التاريخ الإسلامي والبشري وهي الآن تتحمله بجدارة وكفاءة بقيادتها الحكيمة للعالم الإسلامي على مختلف الصُّعد إنسانياً تساعد الدول الفقيرة في الأزمات والكوارث وتقود جهود السلام وتكافح الإرهاب والتطرف أمنيّاً وثقافيّاً، و إن الولايات المتحدة منذ نشأتها تحمل الكثير من الشعارات التي لا تتناقض بل تتوافق مع ما يدعو إليه الإسلام، مثل مباديء الإيمان بالله والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. هذه المباديء وإن اختلف تفسيرها وتطبيقها من سياق لآخر إلا أنها تبقى قيماً حاكمة ومرجعية أخلاقية يمكن للجميع الرجوع إليها والاقتباس منها مع احترام كل طرف لتفسيرات وتطبيقات الطرف الآخر. إن مفهوماً كالحرية مثلاً يتسبب في كثير من سوء الفهم والنزاعات في العالم، وإن السبيل الوحيد لحل هذا الإشكال هو الحوار والتعارف. نحن المسلمون نؤمن بالحرية أيضاً ونُثمنها، لكن دون أن تكون وسيلة للتعدي على المقدسات ولا ذريعة لنشر الفوضى في المجتمعات.
إن العلاقات الإسلامية الأمريكية علاقات قديمة بقدم هذا البلد فمن المثبت تاريخياً امتلاك الرئيس جفرسون أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة لنسخة من المصحف الكريم وهو المعروف بمشاعره الإيجابية وترحيبه بكل الأديان بما فيها الدين الإسلامي الحنيف. وبمناسبة يوم كولمبوس الذي يحل بداية الأسبوع القادم فإن من المناسب أن تختم بقصة تظهر أصالة العلاقات الإسلامية الأمريكية، هذه القصة التي وردت في كتاب” تاريخ غزو المكسيك “ الصادر سنة ١٥٢١م وفي عدة مصادر أخرى، تروي أن البحار الإسباني رودريغو دي تريانا، أول من رأى أمريكا وهتف ليوقظ قبطانه كولمبوس وبقية البحارة: تييرا tierra، توفي بعد عودته مسلماً في المغرب، إنه لأمر في غاية الرمزية أن ينتمي أول من رأى هذه الأرض التي نحن فيها اليوم إلى الدين الإسلامي.
وختاماً أشكركم جميعاً وأتمنى لأعمال مؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح.
…..
مؤتمر أمريكا والعالم الإسلامي، نيويورك 4 أكتوبر