الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية – كلمة العلامة عبدالله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
:كلمة حول
الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرُّف وخطاب الكراهية
معالي الشيخ عبد الله بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلممة
أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة،
أيها السادة والسيدات،
كل باسمه وجميل وسمه،
أحمد الله تعالى على تجدد اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة، أرض العلم والعمل والفقه والحكمة، في هذه المحفل السنوي المبارك، الذي أصبح سنة حسنة، حيث تتاح لنا الفرصة للمذاكرة والمدارسة حول جملة من قضايا الأمة وآمالها وآلامها.
وقد وقع اختيار الجهة المنظمة هذه السنة على موضوع (الوحدة الإسلامية.. في مواجهة تيارات التطرف وخطاب الكراهية)، وهو موضوع متسع الأرجاء مترامي الأطراف، ولا يزال محلّ الأشواق ومحلّ الإشفاق.
أود في هذه الكلمة الموجزة أن أُدْلي بدلوي وأسهم برأيي من خلالخمس برقيات سريعة، تتعلق بالعنوان دون الإفاضة في المقتضيات والمتعلقات، البرقية الأولى عن الوحدة وأهميتها والثانية عن الوحدة بين المثال والواقع، والثالثة عن التطرف، والرابعة عن ضرورة الوحدة الفكرية في وجه التطرّف، والخامسة عن الوحدة في سياق العولمة ومقاربة أولي بقية.
الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها
ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعات عامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.
ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.
إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:
فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.
وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،
فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.
كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.
الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع
وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.
فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.
ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.
فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني – وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).
ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.
وعند جهل بعض هدى الخمس ما العمل اليوم كمثل أمس
كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .
وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.
فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.
الكلمة الثالثة عن التطرف
(التطرف L’extrémisme) هو الخروج عن الوسط إلى الأطراف، واسم الفاعل متطرّف.
وهذا المفهوم ليس مفهوما علمياً في الثقافة العربية الإسلامية،بمعنى أنه لم يستعمل في وصف الأفكار والآراء والممارسات والسلوك، بل اسْتُعْمِل مُقابلُه وهو الوسط لوصف حالة الاعتدال الفكري والسلوكي والاتزان.
واستعمل نظير التطرُّف وهو: الغلو وهو: الخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.
كما استُعمل مصطلح التنطع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب.
كما استُعملت كلمة التشدد وهو إظهار الشدة في الدين.
وهذه المصطلحات المرادفة والمجاورة للتطرف وردت كلها في سياق الذم والتنديد في أحاديث معروفة، نورد منها بعضها:
فقد نُهيَ عن التشدد في حديث أنس:”لا تُشدّدوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم”.
ونُهي عن الغلو في الدين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.
ونُهيَ عن التنطع، ففي حديث ابن مسعود (مرفوعاً): “هلك المتنطعون قالها ثلاثاً”.
خلاصة القول: إن التطرف سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهوم يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.
وخطاب التطرُّف خطاب حادٌّ وآحادي، له مظهران: أولهما: التكفير في العقائد ، ثانيهما: ضيق الصدور بالخلاف في الفروع.
إنَّ آثار هذا الخطاب بمظهريه مدمّرة، حيث إنه المقدمة الفكرية لاستباحة الدماء والأموال والأعراض، وبالتالي الإخلال بمقاصد الحق ومقاصد الخلق، الذي يترجم بمقاصد الشرع ومقاصد المكلفين.
والإسلام براء من كل تطرّف، مع أن التاريخ الإسلامي قد عرف غلاة ومتطرفين ومتنطعين، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.
إلا أن تيار أهل السنة والجماعة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلوّ في الاعتقاد أو الأحكام العملية الفقهية لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة، التي كان عليها سلف هذه الأمة.
ولهذا فإن توحيد الخطاب وتأصيله وتفصيله لإبراز زيف خطاب التطرف والكراهية وضعف مستنده ومخالفته لمنهج السلف وقانون المصالح المعتبرة، هو ما على الأمة اليوم أن تقوم به. فالوحدة الفكرية للأمة هي السبيل الأمثل للتصدي للتطرف، من خلال القيام بجهود تربوية.
الكلمة الرابعة: الوحدة الفكرية سبيلا لمواجهة التطرُّف
إنّ روح الإقصاء التي يحذر منها مؤتمرنا اليوم تنبع أساساً من الانغلاق الذي يسبب رفض الآخر وإساءة الظن به، التي هي الداء. ولذلك فإنّ من أبرز وسائل تحقيق الوحدة اليوم تنمية أوجه التّضامن، من خلال تعزيز المشتركات، والإيمان بأن التنوع المتناغم هو القاعدة الذهبية، وأنه أساس الوحدة والانسجام وليس القطيعة والانفصام.
إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحا لتعزيز الوحدة هي احترام الاختلاف بل حبه بحيث ينظر له كإثراء وكجمال وكأساس لتكوين المركّب الإنساني، إن الاختلاف ليس بالضرورة عداوة وحربا بل إنه يمكن أن يكون جمالا كاختلاف ألوان الطبيعة.
إنّ الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع وما دام في حدود الشرع وضوابطه فإنه لا يكون مذموما، بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الثقافي والفكري، إذا احترمت آداب الاختلاف، كاحترام رأي المخالف وعدم تجريحه وإنصافه وعدم المعاداة وتغليب مصلحة الألفة وحسن الظن بالمخالف والبحث له عن أقرب الأعذار.
مع احترام آداب الاختلاف يكون الاختلاف رحمة كما جاء في الأثر المشهور على ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة).
وهذا الاختلاف يمكن أن يتصور في ثلاثة مستويات:
على مستوى العرق والقبيلة وهو موضوع أشبعته النصوص المحكمة من الكتاب والسنة ايضاحاً وألغت الفوارق وجعلته من أمر الجاهلية، ووضعت المعيار الوحيد للفضل وهو التقوى. فالوحدة في الإسلام تّتسامى على الفئوية ولا تلغيها، تستوعب الانتماءات الضيقة ولا تنفيها، حيث تكون الانتماءات ثراء والاختلاف جمالا وإغناء.
المستوى الثاني: هو مستوى اختلاف المصالح والتي تكون تارة حقيقية وتارة موهومة، ويزداد هذا المستوى أهمية في وقت كثرت فيه التصنيفات وتشعبت فيه الفرق والتفاريق، بما أنتجته الحداثة أو زادته حدّة من اختلاف المصالح بين الرجل والمرأة وبين الشباب والأقلّشبابا، وبين الفقراء والأغنياء وبين العمال وأرباب العمل والعاطلين،وبين أهل الريف وأهل المدينة.
ولم يعد مبدأ التكافل الطبيعي والتكامل والتضامن الأصلي الذي يقوم عليه مجتمعاتنا وينبع من صميم ديننا قائماً في حالات كثيرة بل أصبح التغالب والتضارب والاضراب هو الوسيلة المتبعة.
وعلى هذا المستوى لا بدّ من جهد تأصيلي يعيد مركزية قيم العدل والإحسان والمؤاساة والتآسي في العسر، التي أصابها الضمور في المنظومة التربوية في المجتمعات المعاصرة.
المستوى الثالث هو الاختلاف الفقهي والمذهبي.
وهذا المستوى من أخطر المستويات فبسببه تُشنّ الحروب ومن جرائه ترهق النفوس وتقطع نياط القلوب، ذلك أنّ منه ما يتعلق بدائرة التكفير المنهي عنه، ودعاوى الزندقة والبدعة.
وهذا النوع من الاختلاف علاجه النافي لآثاره الضارة هو أحد ثلاثة أشياء:
أولها: التسليم بأن الاختلاف من طبيعة الناس وفطرتهم فإنهم يختلفون في الإدراكات ويتباينون في التقديرات والأذواق وهو كذلك من طبيعة الأشياء، حيث يكون الاختلاف في المحكوم عليه لا في أصل الحكم فيسمى اختلافاً في حال أو في شهادة. كما يكون الاختلاف من الاحتمال في الدليل والاشتباه أو الحمل في التأويل،
ومن أهم من وسّع جيوب التأويل وبين تباين سبله لينفي التكفير أبو حامد في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” وذلك عندما اعتبر أن الحامل لنصّ من المتشابه على أحد الوجودات الخمسة لا يعد كافرا، وهذه غير الوجودات الأربعة في المنطق سوى الأول منها الذي سماه هنا الذاتي وهو الحقيقي الخارجي وميّز بينه وبين الحسّي القاصر على الحس.
ثانيها: معرفة أسباب الاختلاف فإذا عرف السبب اتسع الصدر وارتفع الحرج، وقد حاول العلماء حصر هذه الأسباب فذكر الشاطبي عن ابن السيد أن أسباب الخلاف ثمانية وفصّلها وأكثرها يرجع إلى الألفاظ. ومنها ما يرجع إلى الثبوت كمسألة علل الرواية،ومسألة الاجتهاد والأقيسة وهي تنقسم إلى أقسام.
وقد حصرها ابن رجب في ثلاثة واعتبرها ابن رشد الحفيد ستة بالجنس.
ولا اختلاف في الحقيقة بين هذه الأنقال إلا أن بعضهم فصل وبعضهم أجمل، ولو أردنا الاختصار لرددنا جميع الأسباب المذكورةإلى أربعة عناوين:
الكلمة الخامسة عن مقاربة أولي بقية
هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة الأمة في عصر العولمة من دون أن نربطها بسياقها العالمي، حيث إن ظاهرة التطرف وخطاب الكراهية والعنف، ظاهرة معولمة، تنبغي محاربتها من خلال معالجة كلية تنبذ التطرف مهما كان مصدره أو مصدّره، على الضفتين وفي الساحتين الدولية والإسلامية.
فإن اليمين الشعبوي أصبح خطابا طاغيا على امتداد العالم وبخاصة في ديار الغرب وذلك لأسباب شتى منها: الضيق بالمهاجرين، واستحضار الذاكرة التاريخية، والبحث عن الشهرة، واستجلاب الأصوات في الحملات الانتخابية. كل هذه الأسباب أصبحت ترمز لأكثر الأعمال وحشية وأكثر الأفعال همجية بما في ذلك ارتكاب المجازر ضد المصلين في دور العبادة، كما حدث في نيوزيلندا مؤخّرا، تلك الحادثة البشعة والعملية الإرهابية الشنيعةالتي ندد بها جُلّ القوى الحية في العالم، وقد قامت الحكومة نيوزيلندا بإجراءات لحماية مواطنيها المسلمين وللحد من الجنون الذي يؤججه تارة الحقد وتحش جاحمه خطب البغضاء.
قد لا تكون تلك نهاية القصة.
فالأمر يحتاج منا معشر المسلمين إلى تحرك عاقل ومدروس، مبنيٍّعلى القيم والإقناع، وليس على مجرّد الإدانة للتنفيس عن الغضب المستحق، وذاك مشروع إلا أنه نفثة مصدور، لا تحلُّ إشكالاً في عالم مُعولم، وقد يقيم بجهتنا من لا يزن العواقب ولا يقدر المئالات ليرتكب جريمة ضد أبرياء من الجانب الآخر لا ذنب لهم سوى ذنب أصحاب المسجد، أنّهم أغيار.
وهكذا يستمرُّ الفعل ورد الفعل في تسلسل، تضيع فيه القيم وتذهب فيه العقول وتهدر فيه المصالح وينال فيه السفيه المتطرف بغيتَه،بقيام حرب عبثية دائمة لا تخدم الأديان ولا الإنسان، ويُصْدّق كهّانُ صراع الحضارات ظنّهم، فيحيل الإرهاب على الإرهاب والتعصب على التعصب، وتذهب مصالح العباد والبلاد سدى.
أذلك خير أم استثمار الإمكانات المتاحة بوجود طاقات فكرية ونظم حديثة وقيم أصيلة ومصالح اقتصادية ونخب ليبرالية وأخرى دينية في الغرب والعالم الإسلامي بوسعها أن تفعل الشيء الكثير وأنتُفَعّل لتكون سداً منيعاً وحصناً حصينا ضد الهستيريا.
وهكذا تغدو الحريّة في خدمة القيم والتعايش وليست حرية التدمير والتكسير والسماح لنزعات الشر ونزوات السوء بالإفلات من عقالها لتعيث في الأرض فسادا.
ذلك ما نعتقد أنه الأولى والأكثر نجاعة والأوفق بأصولنا، وهو ما تتأسس عليه جهودنا المختلفة.
ومنها ما قمنا به في منتدى تعزيز السلم من حوارات جادة مع مختلف الديانات السماوية في أمريكا تحت عنوان “حلف الفضول”. لصناعة جبهة موحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات.
وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.
وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامح مبادرة تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم وعلى العالم أجمع.
لقد جمعت القافلة الأمريكية فئتين من الفئات الثلاث التي وجه إليهاالخطاب الإلهي، وهما مجتمع (يايها الذين آمنوا) ومجتمع (يا أهل الكتاب)
والمجتمع الثالث وهو مجتمع (يآيها الناس)،
وبعد عقد مؤتمر واشنطن، الذي لم يكن فقط خاصا بهذه الديانات بل شارك فيه ممثلون لهيئات دولية وأعضاء من الكونغرس الأمريكي، عقدنا مؤتمر “حلف الفضول” في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات في فضاء التسامح والسماحة.
وكان من أهم النقاط التي وضعت للنقاش والبحث: ما هو الإمكان المتاح في الإسلام لمثل هذا الحلف؟
وقد خرج المشاركون في هذا اللقاء وهم نخبة من أفضل العلماء والفقهاء والباحثين من أنحاء العالم، بنتائج ومقترحات رائعة أثبتوا فيها بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام يزكي كل اتفاق يؤدي إلى الفضائل والمصالح مهما كانت أطرافه إذا صلحت غاياته وأهدافه.
لقد حاولنا في حلف الفضول أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محلَّ ذلك روح الأخوّة والعدل وحبّ الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، فيكون الدين أساسا للوحدة والأخوة.
وفي الختام أجدّد الشكر لقيادة بلدنا الرشيدة، داعيا لهم بالتوفيق والنجاح، قائلا مع الزقاق:
فيا ربّ سلم من تولى أمورنا وسدّد وأصلح حاله ومع الملا
فحمداً وشكراً للإله الذي هدى على كلّ ما أسدى وأندى وأكملا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته