بن بيه ورؤية العالَم – بقلم الدكتور يوسف حميتو
د/ يوسف حميتو
مدير إدارة البحث والنشر – مركز الموطأ
|
من طبيعة المشاريع التصحيحية ارتباطها بروح العصر حسب تعبير هيجل، وهي الروح التي تفرضها طبيعة الزمان والمكان وما غلب عليهما من سمات. لكن التعامل مع هذه الروح، أيضا -ودائما حسب هيجل- يستلزم أن تمتلك هذه المشاريع نظرة للعقل ترى خلف الأحداث، وذلك لتكون أكثر لصوقا بدنيا الناس، وأكثر واقعية في منهجية التعامل مع ما يجري فيها من أحداث. فروح العصر حسب الاصطلاح الهيجلي هي التي تحدد ما ينبغي أن نفهمه، وكيف نفهمه، وكيف نتعامل معه بعد فهمه. وطبيعة هذه الروح لا تنحصر بالزمان والمكان، وهذا ما يؤكد شموليتها ومعقوليتها، كونُها لا تختص بمجتمع دون مجتمع، ولا أمة دون أخرى، بل هي الحاضر في كل تجليات الوجود الإنساني.
ولئن كان هيجل ينطلق في تقريره لروح العصر من رؤيته الفلسفية التي تتناسب مع واقع ألمانيا في زمنه، فإن من حظ المجتمعات الإسلامية أنها تمتلك مرجعية أقوى وجودا وأبعد امتدادا لقضية روح العصر أو ما يسميه العلماء المسلمونبواجب الوقت الذي يجد شرعيته في عدد كبير من النصوص الدينية الإسلامية، وفي كثير مما حملته كتب التراث الإسلامي المفترى عليه جهلا به وبملهمات مقترحات حلول بعض أزمات الواقع المعاصر الكامنة في طياته.
ومن حظ المجتمعات المسلمة الذي يمتد إلى غيرها أن يوجد بين علمائها اليوم من يستحضر أهمية واجب الوقت في بعديه: المحلي والعالمي، ويجعله ثمرة لمشروع فكري وتصحيحي تبلور في إطار مؤسسي يحمل اسم “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، والذي نحتفي بذكرى تأسيسه الخامسة على أرض الإمارات العربية المتحدة يوم 09 مارس 2014.
كثيرون هم أؤلئك الذين يجهلون الامتداد الزمني للمنتدى كفكرة ومضمون ومنهج، ويربطونه باعتبارات فسادها يغني عن إفسادها كما يقول الأصوليون، ويكفي تأمل بسيط بعين الإنصاف في المسار الفكري لمعالي العلامة عبد الله بن بيهرئيسِ مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى تعزيز السلم على مدى أزيد من ثلاثين سنة ليفضي إلى أن المنتدى كان استجابة لواقع ملح اقتضى الحفر المعرفي في أصول وبنية خطاب منحرف عن جادة الوسطية فرض نفسه على المجتمعات المسلمة نتيجة مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، والذي تميز بثلاث سمات:
– اختلال في منهجية تأصيل المفاهيم الشرعية خاصة تلك التي تتعلق بالمخالف ديانة واعتقادا.
– غياب تصور صحيح لمنهجية تنزيل المفاهيم الشرعية على الواقع، والمؤسف أن هذا الغياب شمل فئة النخبة التي كان من المفروض أن تكون حامية حمى المنهجية السليمة في التعامل مع الدين ونصوصه ومفاهيمه.
– ضمور القيم الأربعة الكبرى للشريعة الإسلامية (الرحمة – العدل – الحكمة- المصلحة)، والتي من المفروض أن تكون القيم المؤطرة للتعامل مع واقع الإنسان فردا وجماعة ومجتمعات.
هذه الموجبات الثلاث، هي التي أسهم التفاعل الإيجابي معها في التأسيس للنظرة العقلية التي ينظر من خلالها العلامة عبد الله بن بيه إلى ما وراء الأحداث التي عرفتها المجتمعات المسلمة في العقد الأخير، وهي النظرة التي شكلت جزءا من رؤيته للعالم، أو ما أسميته في وقت سابق ب“براديغم السلم”، فمن خلال هذه النظرة يطرح علامتنا رؤيته للعالم مقابل براديغمات تتمسك بها عقليات إما أنها تتبنى عقيدة المغالبة والصراع الدائم داخل المجتمعات المسلمة وخارجها، وإما تتبنى منطق التقوقع في ركام التاريخ وتتغطى بغباره وتعيش في دهاليزه سواء كانت مجتمعات مسلمة أم مجتمعات مسلمة تعيش وسط و مجتمعات غير مسلمة لكنها لا تزال تحمل فكرة الغربة الدينية وعداوة المخالف الذي تعيش على أرضه وبسلطة قوانينه.
لقد فرضت النظرة العقلية للعلامة بن بيه نفسها على أنشطة المنتدى، باعتبارها مسلكا من مسالك الكشف عن الواقع ومآلاته، وإطارا يجعل من التاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي جزءا من حل مشاكل وإشكالات الواقع لا سببا من أسبابها، فالتاريخ حاضر بقوة في رؤية العالَم في فكر العلامة بن بيه، إذ يرى فيه أنه رافد عظيم الأهمية بكم هائل من النماذج التي يمكن استلهامها وإحياؤها لتقديم مشاريع حلول لأزمات العالم التي قد يكون الدين عاملها المهيمن ومسعر الحروب والصراعات، والدليل مبادرة إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية التي تأسست على صحيفة المدينة المنورة، وإعلان واشنطن لتحالف القيم وإعلان أبوظبي لحلف الفضول اللذين تأسسا على حلف الفضول العربي الذي كان قبل الإسلام وزكته النبوة المحمدية.
لذلك، فإن النظرة العقلية لما وراء الأحداث عند الشيخ بن بيه تثبت أنه لا يتنكر لتاريخ الأمة الإسلامية، ولا لرمزيته في وعيها المهزوز، وإنما يحاول أن ينأى بكثير من الفئات عن فهمه وتفسيره السطحي الذي يجعل الأمة تغيب عن مقام الفاعلية والشهود الحضاري.
إن رؤية العالَم لدى العلامة بن بيه والتي تجمع بين النظرة الدينية والنظرة العقلية لما وراء الأحداث تحاول:
1- أن تنظم وتؤطر “مبدأ الحق” بجعل السلم بيئة لكل الحقوق لا يتعداها ولا يغني عنها، وهو من أجل ذلك يقوي ويدعم نظرته العقلية لما وراء الأحداث بالنظرة الشرعية الممثلة في المنهجية الأصولية الأصيلة التي هي جوهلا روايته للإسلام ورؤيته للواقع، وهي منهجية تعتمد بعدين: “موقعة النصوص والمفاهيم”، و“موضعتها بنفس الروح في البيئات الزمانية والبشرية“، وهي النظرة التي من بين تمثلاتها صناعة المفاهيم، لأن المنطق العقلي والشرعي يوجبان أن أي مشكلة تحتاج مفهوما يلتصق بها لا يمكن حلها بعيدا عنه، وهو ما يتطلب أحيانا تصحيحا للمفهوم أو إعادة صياغته بما يراعي المتغيرات الطارئة التي تؤثر فيه. وبما أن بعض المفاهيم قد تكون هي نفسها المشكلة لا لعيب فيها وإنما بسبب الفهم السطحي أو الاجتزائي لها، أو بسبب المتغيرات التي قد توجب فقدان بعض جزئياتها التي قام بناؤها عليها، أو تفرض انضمام جزئيات أخرى مؤثرة عدم مراعاتها في تنزيل المفاهيم يؤول إلى نتائج معاكسة للمقاصد التي من أجلها كانت وتأسست.
2- أن تستبق أزمة أخرى ستنشأ إذا لم يبادر علماء الدين ورجال الدين في الملل الأخرى والفلسفات الروحية إلى العناية بها، فهو يدرك تمام الإدراك قضية عودة الناس إلى مساءلة الدين بعد أن أحبطتهم الحداثة وأصابتهم شظايا الفشل الأخلاقي للعولمة، وتنامي خطر التدمير الذاتي الذي ولدته التكنولوجيا ، ومن ثم يدرك الحاجة الملحة لأن يتدخل علماء ورجال الدين ليكونوا عامل جذب للسلام من خلال العمل في دائرة المشتركات الإنسانية وترسيخ ثقافة التسامح المتكافئ.