حوار مع العلامة عبدالله بن بيه حول “الإجتهاد ومراجعة التراث”
حجية السنة، استقلالها بالتشريع، عودة المسيح وظهور المهدي. ( أجري هذا الحوار سنة 2010م )
ضيف هذا الحوار فقيه أصولي ثبت، له باع في الفقه والأصول والعلم الشرعي، عضو في العديد من المجامع الفقهية، وواحد من المجددين خاصة فيما يتعلق بفقه الأقليات.. إنه العلامة الشيخ عبد الله بن بيه الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ووزير العدل الموريتاني السابق..
كان اللقاء بعد محاضرة لفضيلته في دورة المقاصد الشرعية بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وقد تحدث فيها عن ضرورة الاجتهاد والتجديد في بعض مسائل المعاملات المستحدثة، وعدم الاكتفاء بما قرره الأقدمون.
فكان مناسبًا أن نسأله عن رؤيته لمراجعة التراث وضوابط تلك المراجعة، وهل تعتبر من باب الاجتهاد والتجديد أم لا..
* بداية فضيلة الشيخ.. نريد أن نتحدث عن موضوع مراجعة التراث من الأساس، بمعنى هل تدخل مراجعة العلوم الشرعية ضمن الاجتهاد أم لا؟
– المراجعة هي مجال من مجالات العمل الفكري التي يظل مفتوحة إذا لم تكن هذه المراجعات موضوعها الكتاب أو السنة الصحيحة الثابتة من جهة الورود ومن جهة الدلالة.. فالمراجعات للمنهج وللطرق وللوسائل التي تعامل بها العلماء مع الأصلين أمر وارد.
يبقى بعد ذلك السؤال الأهم: ما موضوع هذه المراجعات؟ وما الثمرة والنتيجة التي يمكن أن تصل إليها؟.. هذه الأسئلة يجب أن تكون محل بحث وتحقيق حتى تتميز المراجعات المقبولة من تلك التي تمس أصلاً أو من شأنها التطاول على ثابت لا يحتمل تغييره.
تعارض القرآن والسنة
* أستاذنا تبقى القضية من البداية هي تحديد الأصل.. بمعنى أننا نفهم جميعًا أن أصول التشريع عندنا هي القرآن والسنة الصحيحة.. لكن البعض يتحدث عن أن السنة إذا خالفت أو عارضت فهمًا للقرآن الكريم يسقط الاحتجاج بها، وبالتالي يسقط استقلالها بتشريع، ويستشهدون بأن أبا حنيفة رضي الله عنه فهم من قوله تعالى: “حتى تنكح زوجًا غيره…” أن المرأة يمكن أن تنكح بغير إذن وليها؛ ولذلك لم يعمل بحديث “لا نكاح إلا بولي..” كيف ترى فضيلتكم هذا التصور؟
– ما ينبغي أن يكون ظاهرًا هو أن المعارضة لا تعني بحال المناقضة، السنّة الثابتة لا يمكن أن تعارض قرآنًا ثابتًا.. القطعيات لا تتعارض، وإنما التعارض يكون على مستوى الدليل الظني، وهو تعارض يقوم فيه المجتهد، ولا حق له في الخارج “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا”، فهو من عند الله إذن فلا اختلاف فيه..
أما بالنسبة للسنّة.. فالسنة إما أن تكون مخصصة لعام القرآن، وإما أن تكون مقيدة لمطلقه، وهنا لا إشكال، حيث نعمل بالتخصيص والتقييد، لكن السنة ينظر إليها من حيث الثبوت، هل ثبتت بالأدوات الحديثية للإثبات أو لم تثبت.
فهنا مسألة الثبوت في السنة كمسألة الاحتمال في دلالة القرآن والسنة معًا، الوجهان للظن، أي أن أساس الظن في الأدلة هو ثبوت الجهة بالنسبة للسنة والاحتمال الدلالي بالنسبة للسنة والقرآن معًا، خارج هذين الحقلين إذا ثبت الورود وكانت الدلالة قطعية بأن كانت نصًّا لا يحتمل التأويل فلا مجال لإنكار السنة ولا مجال للاعتراض عليها.
يمكن أن نقول إن خبر الآحاد إذا عارض ظاهر القرآن فتارة يأخذ به العلماء أي يخصصون به ظاهر القرآن أو يؤولونه على الأصح؛ لأن العدول عن ظاهره هو تأويل، وتارة يقدمون ظاهر القرآن.
وهذا ما دلت عليه أصول الشرع كثيرًا كما يقول صاحب كتاب المجتهد، العدول عن ظاهر القرآن، ومع ذلك فالشافعي وأحمد يريان العمل بخبر الآحاد، ومالك في غالب الأحيان يؤول ظاهر القرآن بخبر الآحاد، لكن مالكا أحيانًا يقدم عمل أهل المدينة على خبر الآحاد، وأبو حنيفة يقدم عمل الراوي على مرويّه، وأيضًا يعتبر أن التخصيص من باب النسخ فلا يعمل به في أحيان كثيرة.
المهم أن قضية خبر الآحاد -وهو أغلب الحديث- فيها بعض التفاصيل للعلماء، لكن هذه التفاصيل لا تصل أبدًا إلى إلغاء خبر الآحاد، هذه التفاصيل تعتمد مجالات معينة بين خبر الآحاد والقرآن الكريم، فخبر الآحاد هو ظني الورود عند الجمهور، وبعضهم قال إنه قطعي إذا ورد في الصحيحين، لكن الجمهور يقولون إنه ظني الدلالة، وهذه الظنية قد تتعامل مع ظني الدلالة في القرآن الكريم، وهذا مذهب الجمهور إليه، وقد لا تتعامل معه وهذا ما يذهب إليه أبو حنيفة أحيانًا.
* وهذا لا علاقة له بطبيعة الرواية وموضوع معالجتها، بمعنى هل يختلف الحكم إذا كانت الرواية تعالج شيئًا في العبادات عنه في العقائد مثلاً، وتعارض فهمها مع نص قرآني، ونحن نعلم أن النص في القرآن محتمل الدلالة وليس قطعيًّا في بعض النصوص؟
– نعم.. في العقائد يختلف عند مجموعة من العلماء، الإمام الجويني في كتابه البرهان يقول: “إن خبر الآحاد لا تثبت به العقائد؛ لأن العقائد لا تثبت إلا بقطعي”. لكن إذا كثرت الظواهر التي تدل على أمر معين وتواترت أفادت القطع، فهنا يكون خبر الآحاد إذا كان معضدًا من أخبار أخرى أو من روايات أخرى، أو من ظواهر من القرآن الكريم، أو تلقته الأمة بالقبول أو أجمعت عليه، فهنا يصبح حجة.
قواعد المحدثين
* عفوًا أستاذنا.. كلمة “تلقته الأمة بالقبول” كان صاحب إعلام الموقعين قالها عن حديث بَعْثِ معاذ إلى اليمن الذي رُوِيَ عن مجاهيل من أهل حمص، ولم يستطع هو أن يكذب كلام ابن حزم فيه في كتابه النبذ، لكن كلمة “تلقته الأمة بالقبول” البعض يقول إنها كلام غير علمي، فهل قبول الأمة وتعاملها مع النص بطريقة ما يدخل ضمن قواعد المحدثين أو يصلح حكمًا على الحديث، أم أن القواعد هي الأصل..؟
– يا أخي قبول الأمة من القرائن التي تجعل الحديث مقبولاً، ولا أقول صحيحًا؛ لأن الصحة لها طرق أخرى، لكن حديث معاذ رُوِي أيضًا بطرق أخرى موصولة، وما قاله ابن حزم من أنه روي عن مجاهيل ليس صحيحًا، فأنا أعرف كلام ابن حزم، لكن كلامه مردود من طرف كثير من العلماء؛ لأنه روي أيضًا بسند متصل وليس فقط عن طريق جماعة من أصحاب معاذ من أهل حمص كما هي الرواية المعروفة.
لكن حتى جماعة من أصحاب معاذ، هذه الجماعة لما روى عنها الراوي دلّ ذلك على أنها معروفة وأنها ليست مجهولة، ثم إن الحديث كما قلنا رُوي من طرق أخرى، هذه الطرق تعضد الحديث بحيث يرتفع إلى الحسن.
* لكن هناك اتجاهًا يرى أنه لا يمكن أن نثق بالرواة الذين نقلوا السنة لكون بعضهم كانوا يتحايلون على أهل الجرح والتعديل برواية الأحاديث الصحيحة حتى يحصلوا على أعلى درجة في التصحيح، وهم من يسمون بـ”السابرين”، ثم بعد ذلك يصنعون ما يشاءون، ويذكر هذا الاتجاه على أنه أسلوب معروف في مناهج النقد القديم، فما تعليقكم على هذا؟
– أنا أرى أن الحديث خدم خدمة لم يخدمها نص -طبعًا خارج القرآن الكريم- في التاريخ؛ لأن طرق التعديل والجرح وطرق الإسناد والشروط التي اشترطها العلماء في الراوي من الضبط والعدالة ومن اللقيا عند البخاري وليس فقط المعاصرة، الإمام مسلم يقبل المعاصرة في العنعنة، أما البخاري فلا بد له من اللقيا..
كل هذه الاحتياطات التي أخذ بها العلماء أعتقد أن الأحاديث التي تكون قد ثبتت بناء عليها لا يمكن أن يرقى إليها شك، وما يؤكد ذلك أن هؤلاء الأئمة الأعلام استبعدوا بناء على تلك الاحتياطات كثيرًا من الأحاديث التي كانت من الممكن أن تعيننا في عملية استخراج النوازل الحديثة والمستجدات.
هناك شيء آخر أريد أن أضيفه وهو أنه إذا تخلينا عن هذه المنهجية التي وضعت في عصور قريبة من عصر التلقي نصبح بلا منهجية، وبالتالي نخاف أن يضيع منا كثير مما بين أيدينا من المسلمات الفقهية والعملية والاعتقادية، وبالتالي نلغي منهجية دون أن نعتمد منهجية شاملة، وهذا الدين محفوظ، فلا يمكن للمنهجية التي سارت عليها الأمة أن تكون باطلة أو أن تكون غير فعّالة أو غير مقبولة.
* عودة إلى موضوع فهم النص القرآني وإمكان وجود تعارض بينه وبين نص من السنة.. نأخذ مثلاً قوله تعالى “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ”، فخاتم النبيين هنا يفهم منها أنه لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر الأمة قد اجتمعت عليه، هذا الفهم هل تراه فضيلتكم يتعارض مع نزول عيسى مرة أخرى؟
– لا أبدًا.. عيسى لا يرجع رسولاً، لا يرجع مكلفًا برسالته، يرجع بين يدي الساعة وهي أحداث خارقة للعادة “وإنه لعَلَمٌ للساعة”، كما يقرأ في بعض القراءات “وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ”، فينزل في هذه الأحداث وينزل تابعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والأعمال التي سيقوم بها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها قبل ذلك، فيضع الجزية ويكسر الصليب.
هذه الأعمال هي من شريعتنا، ليس الوقت وقت رسالة أبدًا.. رسالته انتهت، النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا إشكال في ذلك، ولا أرى أبدًا أي إشكال بين نزول عيسى بين يدي الساعة وبين خاتم النبيين وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
فكرة المخلص
* ألا ترى فضيلتكم أن الترويج لرجوع عيسى عليه السلام يُعَدّ انتصارًا لفكرة “المخلص” التي تروج لها اليوم المسيحية الصهيونية ومعها معركة هرمجدون، وأنها انتقلت للأمة مع فكرة المهدي المنتظر عن طريق الثقافة الشفوية وتداخل الأديان؟
– نعود مرة أخرى لموضوع الاحتياط في النقل، ألا تعلم أن هذا الاحتياط قد وصل عندنا في الحديث أن الصحابي الذي يقرأ من كتب أهل الكتاب لا يقبل ما قاله من تلقاء نفسه خوفًا من أن يكون أخذه من كتبهم؛ لأن الصحابي إذا قال غيبًا لا يمكن أن يقول من نفسه إلا إذا كان يقرأ من كتب أهل الكتاب.
فالاحتياطات موجودة في هذه الشريعة، وبالتالي هذه الأحاديث لا غبار عليها، وهي أحاديث ثابتة، وراجع كتاب -أعتقد- “صدّيقي” من باكستان، فله كتاب فيما تواتر من نزول المسيح، ذكر كل الأحاديث التي وصلت إلى حد التواتر.
وبالتالي فلا يهمنا مسألة “المخلص” أو ما يعتقده الآخرون، والنبي صلى الله عليه وسلم كثير مما يقوله مكمل للرسالة وليس مكذبًا لها، والأهم أن رؤية اليهود أو النصارى لهذا الأمر ليست هي الرؤية التي نراها، وليست بالطريقة التي نتحدث بها، وأنا سبق لي فيما يسمى بالقمة الإسلامية المسيحية التي عقدت بعد 11 سبتمبر، في خطابي ذكرت حديث نزول عيسى، والنصارى تعجبوا كثيرًا وقالوا أين يوجد هذا الكلام؟!!
قلنا لهم نحن نعرف كيفية نزول عيسى وكيف ينزل وعندنا نصوص نبوية في هذا حددت المكان والزمان ولا تشبه النصوص الأخرى، والنصوص النبوية واضحة جدًّا وهي ليست رسالة لعيسى..
يجب أن نفهم هذا.. عيسى ينزل في أحداث خارقة للعادة، فيها الدجال.. فيها يأجوج ومأجوج، الدنيا تنقضي، ففي هذه الأحداث الله عز وجل ينزل أي شيء يريد أن ينزله، وعيسى ينزل في هذه الأحداث، ينزل ولم يبق في الدنيا ما يستطيع فيه عيسى أن يقدم رسالة للناس، فقط هو مطبق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين، والجماعة التي تكون حوله هي جماعة من المسلمين بدليل أنه يصلي خلف المهدي كما ورد في الحديث “أئمتكم منكم”.
* عفوًا مرة أخرى يا أستاذنا.. الآية التي قرأتها فضيلتكم دليلاً على نزول عيسى “وإنه لعلم للساعة” أو “وإنه لعَلَم للساعة” هناك من يؤكد أن الضمير فيها لا يعود على عيسى مطلقًا، ويثبت هذا بأن “وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ”، مؤكدًا أن هذه الآية فصل بين عيسى وبين هذا الضمير، والضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما أسماه الوحدة البنائية للقرآن الكريم.. فالسورة من بدايتها “الزخرف” تتحدث عن الوحي وجاء عيسى هنا لمهمة محددة يعني للإجابة عن سؤال محدد، وبعد هذا انتقل الحديث عن النبي مرة أخرى وعن الوحي “وإنه لعلم للساعة “، أي وإن الوحي والنبي صلى الله عليه وسلم لعلم للساعة فلا تمترنّ بها واتبعوني أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل توافق على هذه القراءة وهذا التفسير؟ هل له أصل في التراث؟
– في التفسير لا يستبعد هذا التفسير، لكن قال تعالى: “إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ” الأصل أن الضمير يرجع إلى الأقرب والأقرب هو عيسى عليه السلام، كما قال ابن مالك:
والأصل أن يؤخر المفسر *** وبسوى الأقرب لا يفسر
أي أن الضمير يفسر بأقرب مذكور إلا نادرًا، كما في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ”. فرجع الضمير إلى إبراهيم، لكن مع ذلك لا يستبعد أن يوجد تفسير بالشكل الذي ذكرته، لكن هذا لا ينفي أصلاً عودة عيسى، فهذا من الأدلة الحافلة وهي أدلة كثيرة تتضامن لتؤكد نزول عيسى عليه السلام.
الوحدة البنائية للقرآن
* موضوع الوحدة البنائية للقرآن ومراعاتها في قراءة النص القرآني، البعض يؤكد أنها تغير كثيرًا مما ألفه الناس، فمثلاً قوله تعالى “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا” هناك من يؤكد عدم وجود دليل على النسخ المعروف في هذه الآية، ويؤكد طبقًا للوحدة البنائية أن سورة البقرة من الآية 39 إلى الآية 106 تعالج الظاهرة الإسرائيلية بكل ما فيها من بدايتها إلى نهايتها، وفي النهاية أي في الآية 106 قال “ما ننسخ من آية..”، أي من آية بني إسرائيل، حيث إنهم لم يعودوا صالحين لحمل الرسالة، “نأت بخير منها..” أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا النسق يمكن قراءة القرآن قراءة صحيحة، فما رأيكم في موضوع الوحدة البنائية، وما معيارها من وجهة نظركم..؟
– الوحدة البنائية إن كان لها أساس فهي عبارة عن السياق، فالقرآن به سياقات في الكلام بصفة عامة، والسياق له دلالته لكنها دلالة لا تتغلب على البناء اللغوي والنحوي؛ لأن هناك اقتضاءات نحوية، هذه الاقتضاءات النحوية لا يمكن أن يتغلب عليها السياق..
* فضيلة الشيخ.. مكانة السنة في التشريع، وكونها مصدرًا ثانيًا كما نعلم جميعًا، البعض يقول إن مقولة (السنة هي المصدر الثاني للتشريع) خاطئة، ويؤكد أن هذا التفكير أوجد عقلية تراتبية، بمعنى أننا بحثنا عن شيء في القرآن فلم نجده فتوجهنا إلى السنة فوجدناه فيها، وهذا فيه انتقاص للقرآن.. فكيف ترى أن السنة مصدر ثان للتشريع، هل هذا تَعدٍّ على القرآن؟
– لا أبدًا.. الله سبحانه وتعالى يقول: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى”؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم سواء في القرآن أم في السنة هو مبلغ، فكل ما يقوله من القرآن أو من نفسه في مجال التشريع أو في مجال البلاغ، هذا عن الله سبحانه وتعالى؛ لذلك لا محيد عنه، لكن شريطة أن يثبت بالأدوات التي يثبت بها الحديث، والحديث معلوم كما أشرنا أنه يتطرق إليه الاحتمال من جهة الثبوت، وهذا لا يتطرق إليه القرآن، ثم من جهة الدلالة يشترك الاثنان معًا في تطرق الاحتمال إليهما.
* نفس الحديث يقال أيضًا على الإجماع والقياس، كمصادر للتشريع، ليس لهما مكان لأن القرآن أصل؟
– الإجماع له أصل قرآني، والشافعي لما قرر مسألة الإجماع قال: إنها مأخوذة من قوله تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا”، وجادل في ذلك بعض المعتزلة وقالوا إن هذا لا يدل على حجية الإجماع.
نعم قالوا هذا وقالوا إن سبيل المؤمنين الإسلام وهو لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأنه معطوف على مشاقة الرسول، لكن متابعة العلماء لهذا القول واعتبارهم للإجماع حجة، مع ما ورد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يجمع رؤوس الناس فيستشيرهم كما في الدارين، وكذلك عمر رضي الله عنه كان يفعل كما ذكر ابن القيم، كل هذا يدل على أن الإجماع بدأ يروّج كدليل بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما رآه المسلمون حسنًا فهو حسن”، فهذا يدل على الإجماع.. فالإجماع عند كثير من العلماء ليس دليلاً مستقلاً.
* وماذا يعني كونه ليس دليلاً مستقلاً..؟
– يعنى أن الإجماع يؤكد ظاهرًا من قرآن أو سنة، ووجود الإجماع يرفع من مستوى السنة الأحادية إلى القطع.. فالإجماع لا بد أن يعتمد على شيء.. على دليل من كتاب أو سنة أو قياسًا على مذهب الجمهور، خلافًا للشافعي، فالشافعي يرى أن الإجماع يستقل بنفسه ولا حاجة إلى دليل؛ لأن بعض العلماء قالوا إذا لم يوجد دليل فمعناه أنه يقدر الدليل.
الشافعي يرى أنه لا حاجة إلى دليل، بل هو مقدر لأن السنة لا تعزوه عن الأمة جميعًا، وقال ذلك بصراحة في الرسالة، وهو مذهب لبعضهم قاله الآمدي وغيره، وبعض العلماء قالوا إن الإجماع لا يحتاج إلى ما يستند إليه، وبعضهم قال يحتاج إلى مستند، لكن المستند الذي كان خاملاً الإجماع جعله ظاهرًا والذي كان ضعيفًا إلى حد ما الإجماع قواه.
ثم إن أمرًا آخر لا بد أن يكون واضحًا.. نحن لسنا في حاجة إلى هذا أبدًا، لسنا في حاجة إلى إضعاف الإجماع، لسنا بحاجة إلى تكسير هذه الأدلة، نحن بحاجة إلى توسيع الأوعية، توسعة الاجتهاد وأوعيته، الاجتهاد متاح بوسائل أخرى من خلال المقاصد، ومن خلال القيم والأدلة الكبرى التي ترسي قيم الإسلام، فيمكن أن نوسع تمامًا أوعية الاجتهاد دون أن ننكر على هذه المسلَّمات بالبطلان، وبالتالي توجد بلبلة فكرية دون أن يوجد بناء ليوضع مكان هذا الذي أزيل.
* على ذكر الاجتهاد وتوسيع أوعيته.. موضوع الأقليات المسلمة في الغرب.. فضيلتك تعرف بأنكم أحد من أسهموا في تنظير فقه لهذه الأقليات، نحن نريد أن نعلم على أي مرتكز يقوم فقه الأقليات؟
– فقه الأقليات ليس فقهًا مستقلاً عن أصول الفقه، الأصول التي يستفيد منها الفقه، فهو مأخوذ من الكتاب والسنة ومن الإجماع ومن القياس، الأدلة الكبرى بالإضافة إلى الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب، هذه كلها أدلة تتضامن وتستنفر في عملية نحاول من خلالها أن نوجد للمسلمين فقهًا هو من الفقه لا شك في ذلك وليس خارج الفقه.
لكنه اجتهادات ميسرة تجعل الفقه جماعيًّا في هذه الديار، نتجاوز الفردية إلى الجماعية من أجل توطين الفقه في هذه الديار من جهة، ومن جهة أخرى من أجل تيسير الحياة على المسلمين فيما يخص العبادات والمعاملات، وكذلك فيما يخص التعايش والعلاقات مع الآخر، فنحن نعتمد على ثلاثة أنواع من الاجتهادات:
-
الاجتهاد المطلق أحيانًا وهذا نادر.
-
الاجتهاد الترجيحي الانتقائي وهذا هو الغالب، أي نرجح مسألة كانت ضعيفة أو قولاً كان مرجوحًا ليس عاريًا عن الدليل، ولكن قد يكون الدليل الآخر أقوى، لكن ليس عاريًا عن الدليل، نرجحه لمصلحة راجحة بناء على ضوابط ذكرها العلماء في الترجيح، فهذا نسميه اجتهاد انتقائي أو ترجيحي.
-
الاجتهاد الثالث هو تحقيق مناط، وهو عبارة عن اكتشاف وضع يمكن أن تنطبق عليه قاعدة، فهذا في الأصل هو تحقيق المناط، إلحاق مسألة بأصل وليس بفرع بمعنى أن تقاس على أصل وليس فرعًا، وهذا هو الفرق، هو نوعان، وهناك النوع الذي ذكره الشاطبي وهو تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، بمعنى أن تطبق على هذه الحالة حكمًا لا تطبقه على حالة أخرى بناء على ضرورة أو حاجة، وسماه تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، وهذا مما اختص به الشاطبي ولم يذكره غيره من الأصوليين.
فنحن نتعاون على تسهيل الحياة على المسلمين وتوطين الفقه لجعله جماعيًّا، وجعل العبادة جماعية وليست فردية، توجهات فقهية جماعية وليست فردية.
* لكن دعنا ننقل لفضيلتكم ظن بعض الاتجاهات أن هذا باب واسع لدخول كثير من التسهيلات على بعض الأمور التي يظن الناس أنها من الثوابت والتي لا يجوز أن تلغى بحال، فمثلاً البعض اعترض على فتاوى بقاء الزوجة مع زوجها النصراني، وغيرها.. فما مساحة الثوابت إذن في هذه المنطقة؟
– مساحة الثوابت حاكمها هو الانضباط بأدوات الانضباط عند العلماء والثبوت، ثبوت قيام الاحتمال والترجيح من خلال التأويل، أو من خلال الترجيح من جهة النظر أو من الناحية المقاصدية..
فنحن لدينا أدوات نتعامل معها هي الأدوات المنضبطة التي أجمعت عليها الأمة، وهي أصول الفقه، نتعامل معها بكثير من الانتقاء والاهتمام، حيث إن القول الضعيف مثلاً لا نعمل به إلا إذا ثبتت فيه ثلاثة شروط:
-
الأول: أن تكون الحاجة ماسة فندرس أولاً الوضع بالنسبة لهذه القضية.
-
الثاني: أن يثبت قائل لهذا القول بحيث لا يكون عاريًا عن الدليل.
-
الثالث: أن يكون هذا القائل ممن يُقتدى به.
بهذه الشروط الثلاثة التي قال بها المالكية بشرط ألا يكون ضعيفًا جدًّا، وأن يعرف قائله وأن تثبت الضرورة هنا أي الحاجة، بهذه الشروط الثلاثة أخذنا وطبقناها، وبخاصة في قضية المرأة؛ لأن المقصد العام هو المحافظة على إسلامها، فأكثر النساء يدخلن الآن أفواجًا في ديار الغرب.
فإذا أغلقنا هذا الباب رجعت بعض النساء عن الإسلام، وكذلك تخاف النساء من دخول الإسلام؛ بسبب علمها بضياع أسرتها وتشتتها، وهذا ما انتبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: “يكفي تخويفًا لها أن تعلم بأنها ستطلق إذا أسلمت”. فانتبه رحمه الله لهذا المقصد.
فهذا المقصد بالإضافة لما ثبت عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما يعضدان الأمر، ثم إن نص القرآن يقبل بذلك قال تعالى “لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ” وهذه واردة في الممتحنة، ولها وضعها الخاص حيث إنها جاءت من بلاد محاربة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وترك زينب في ذمة أبي العاص رضي الله عنه حتى ردها إليه بالعقد الأول فهذا مع هذا، وما ورد أيضًا عن بعض التابعين، كل هذا يدل على أن المسألة ليست عارية عن الدليل، وإنما فيها دليل، والحاجة قائمة للمسلمين في هذا المجال.
* يبقى السؤال أيضًا شيخنا.. من يصلح لهذا العمل، بمعنى من يصلح للاجتهاد، بعيدًا عن الضوابط الموجودة والمعلومة في كتب الفقهاء؛ لأن ادعاء العلم أصبح أمرًا سهلاً ميسورًا؟
– صحيح.. لكنني أؤكد أن هؤلاء العلماء الذين يدعون العلم لا بد أن يقتنعوا بهذه الأدوات التي وضعها الأولون، وأن هذه الأطر الثابتة منذ أربعة عشر قرنًا هي الأطر المناسبة والملائمة والتي يمكن من خلالها أن نقدم ثمرة استثمار الأدلة كما يسميها أبو حامد الغزالي، أن نستثمر هذه الأدلة، وأن تكون رؤيتنا واضحة بالنسبة لهذه الأدوات، أن نقول هذا رجح لكذا وهذا بسبب كذا، بالألقاب التي يعرفها العلماء، الألقاب الأصولية، أما أن نقول: هذا جائز لكذا يعني للقب ليس معروفًا عند الأصوليين بالتشهي والاستحسان هذا ليس مقبولاً أبدًا.
أنا أدعو إلى الانضباط، وأدعو إلى مراجعة أصول الفقه مراجعة جيدة، أي التعرف على أصول الفقه من جديد وليس مجاوزة أصول الفقه، نحن لسنا بحاجة لأدوات جديدة، الأدوات التي عندنا والأوعية التي عندنا أوعية جيدة جدًّا، فقط تحتاج إلى من يراجعها مراجعة منضبطة لننتج من خلالها أحكامًا.
* تقصد أن ننتج أحكامًا لا أن نهدم أحكامًا؟
– نعم ننتج لا أن نهدم، نستنبط ونستنبت، نستنبط مقاصد ونستنبت أحكامًا.. هذا هو الطريق الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم.