|
|
|
كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم
بمناسبة مؤتمر القرآن الكريم وآفاق العلوم الكونية وجهود دولة الإمارات في خدمته
24-25 مارس 2024م
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش حفظه الله فضيلة الدكتور محمد الضويني سعادة الدكتور عمر حبتور الدرعي سعادة الدكتور خليفة الطنيجي أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة كل باسمه وجميل وسمه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
نلتقي اليوم تحت دوحة القرآن الكريم، ونستضيء بنوره الذي لا يخبو، مهما تعاقبت الأيام وتوالت الأعوام، ينير القلوب ويشرح الصدور، قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾. يندرج هذا اللقاء ضمن عناية دولتنا بكتاب الله، تعليما وتجويدا في المساجد والمدارس، خدمةً للدين وحرصا على ما ينفع المسلمين والناس أجمعين، وهو نهج راسخ ولله الحمد وامتداد لإرث المغفور له الشيخ زايد طيب الله ثراه، ولا أدل على ذلك من مكرمة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله لحملة القرآن من الأئمة والمؤذنين، نسأله سبحانه أن يجعلها في ميزان حسناته. كما نثمن الرعاية الكريمة لسمو الشيخ منصور بن زايد لهذا المؤتمر النافع المبارك.
أيها السادة الكرام،
نتذاكر اليوم حول آيات ربنا المكتوبة المعلومة بسبيل الوحي، وآياته المبثوثة في هذا الكون المدركة للإنسان بالحواس أو العقل أو عن طريق الاثنين معاً، أي عن طريق العلم بمعناه الحديث. قال تعالى في محكم التنزيل:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)
، إن هذه الآية تؤصل لعلاقة الوفاق بين آيات الآفاق أي العلامات التي تلوح في هذه الآفاق وبين صدق القرآن الكريم. ولقد صدق القائل:
وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنه الواحد لكن ما هي هذه الآيات وما هي الآفاق، وإلى ماذا يعود الضمير في هذه الآية؟ كان ذلك مثار اهتمام المفسرين ومدار الاحتمالات التي قدموا باعتبار كل واحد منها مقصودا في الآية. فهل هذه الآيات هي الفتوحات التاريخية أي أنها تلك البلاد التي فتحها المسلمون في أقل من مائة سنة، أو الآفاق هي الكون كله من آيات السماء والشمس والقمر والنجوم، والظاهر أن كل ذلك مقصود وكل ذلك موجود، فالكون بما فيه الآفاق التي أعلنت بها كلمة التوحيد، كلها علامات تدخل في عموم الآية وشمولها.
يدخل في ذلك ما ظهر وسيظهر، فإن الفعل المضارع (سنريهم) ممتد الدلالة وبخاصة مع حرف التسويف الدّال على الاستقبال والاتصال. كما أن الضمير (أنَّه الحق) قد يرجع إلى القرآن أو إلى النبي أو الإسلام. كلّ ذلك ممكن. إن الرؤية القرآنية هي رؤية الموافقة والانسجام، فالخلق والأمر صنوان؛ الكون كتاب الله المنشور؛ والأمر كتابه المسطور؛ يصدق كل منهما الآخر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، والكون
حق والوحي حق، (مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّابِالْحَقِّ );”(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)”;، فلا تعارض بين الحق والحق، بل توافق وتصادق.
هذه الرؤية التوافقية بين علوم الوحي وعلوم الكون، تجعل المسلم لا يشعر بالغربة في العالم من حوله، وتجعل الدين لا يخشى العلم بل يحبّه ويحثُّ عليه. وقد ذكر بعض أهل العلم أن نحو ألف آية منها تتناول الكون ومظاهره، بل لا تكاد سورة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون تدبرا وتفكرا.
وهو اهتمام يتجلى في أسماء السّور نفسها، فمنها أسماء فلكية كالبروج والشمس والقمر والفلق والضحى والنجم ومنها أسماء المعادن كالحديد ومنها النباتات والثمار كالتين ومنها أسماء الحيوانات كالبقرة والنمل والنحل والعنكبوت والفيل، ومنها ظواهر جيولوجية كالطور، ومنها الحقائق البيولوجية كالعلق، إلى غير ذلك من الظواهر الطبيعية والحوادث الكونية، التي تحيط بالإنسان، ويعيش في اتصال دائم بها. ثم من مظاهر هذه العناية أيضا، قَسَمُ الله تعالى ببعض مخلوقاته الطبيعية كالسماء ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) و(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا)، وبالزمان (والعصر والليل والنهار والضحى) بل أقسم بالكون كلّه، شهادةً وغيبا:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}. والقَسَمُ دليل التعظيم، وتعظيم الله لبعض مخلوقاته، تنبيه على شريف مراتبها وعظيم منافعها بل جمال وإحكام صنعتها، والقسم أسلوب له وقع جليل على العقول وأثر عجيب في القلوب، ناهيك به إن كان من الرَّبّ سبحانه وتعالى، وهو دعوة للمكلف للتأمل في هذه المخلوقات ليمتلئ قلبه إيمانا وتزداد نفسه يقينا، ويستشعر عظيم المنة فيذعن بالشكر لمن سخرها وقدَّرها سبحانه وتعالى.
وقد فصل القرآن الكريم منافع الأرض في الكثير من الآيات فذكر غلافها الجويّ وتكوين السحاب والأمطار وذكّر بمنافع البحار والأنهار والجبال، ومنافع النجوم والأجرام السماوية، (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وجعل الإنسان هو غاية الكون بآياته السماوية والأرضية، فهو المستخلف فيه، والقائم فيه بمقتضى الأمانة، ولذلك ورد في القرآن التعبير ب”لكم” ;، { وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 13)، قال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (البقرة: 29), واللام كما قال المفسرون لام التخصيص أو لام التّمليك، وقيل لام السببية أي من أجلكم، فكلُّ الكون بجميع ما حواه من أسباب الحياة، ومظاهر النعم التي لا تحصر، وأوجه المنافع التي لا تحصى، إنما خلق من أجل الإنسان لينتفع به ويعمر الأرض على أكمل وجه، وذلك من تجليات التكريم الذي خصّه الله به: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). بل فتح القرآن أمام الإنسان آفاقا رحبة من التقدم العلمي، قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).
قد لا أذهب إلى ما ذهب إليه موريس بوكاي من أنها بشارة بغزو الفضاء، لكن الآية تشير الى إمكان النفوذ إلى أطراف السموات، وهذا قد يكون وجهاً في غَيْبَةِ تفسير نبوي أو تفسير لصحابي. فإن الآية لم تقل لن تفعلوا بل قالت إنّ هذا النفوذ لن يكون الا بسلطان.
صاحب المعالي أيها العلماء والسادة الفضلاء، لقد دعا القرآن الكريم الإنسان إلى إعمال حواسّه وعقله لينظر في البرهان القائم في نفسه على نفسه من نفسه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون}. وفي الكون من حوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}. هذه الدّعوة الرّبانية تجعل المسلم ينظر إلى العالم من حوله، بوصفه آيات وعلامات، دالة بدلالة الالتزام العقلي على مُوجده، انطلاقا من قانون السببية، المركّب في فطرة الإنسان. كلّ شيء من حولنا هو دلالات ونقوش للقدرة الإلهية على صفحة الخلق، ليدركها أولو الألباب بالعبرة والفكرة.
فالعاقلُ يُدرك بمبدأ السّببيةِ ضرورة وجود سببٍ لإيجاد الخَلق، وبمبدأ الغَايةِ غايات الخَلق من خلال إدراك وظيفة المخلوقات كحكمة نزول المطر على الأرض وحكمة النبات ليكون غذاء للإنسان والحيوان: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ). فبالسببيّة يكون التَطلّعُ إلى الخَالق وبالغاية يكون الاطّلاعَ على حِكمَته ونِعمته. هذه الصنعة الإلهية المحكمة، تنبيه للإنسان، ثم يأتي الوحي على أيدي الرُّسل رحمة للخلق وإقامة للحجة (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، أوحى إليهم حقائق عظيمة، تقع وراء دائرة مدركات الإنسان الحسية وفوق طور تصوّراته العقلية: كصفة الرب وماله وجب وصلة الخلق ببارئ السبب ونشأة الكون وأصل البشر وكمصيره غداة المحشر فلا تناقض ولا تنافي بين علوم الوحي وعلوم الكون، بل تكامل وانسجام فإنهما وإن تناول كلاهما الكون، فإنهما يتناولانه من منظورين متكاملين، فالوحي يقدم للعقل العلل الأولى، علل الخلق وحكمة الوجود، التي لا يزال في حيرة منها كنشأة الكون وأصل البشر، ومصيرهم، بينما لا تعتني العلوم الطبيعية إلا بالعلل الثانوية كما يقول
العالم الفرنسي كلود برنارد، فمطالبة العلم بتقديم العلل الأولى التي تقع خارج مجاله شطط وعدول به عن منهجه: إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالكِ
لقد سلم العلم الحديث للدين أهم ما يطلب منه وهو الإقرار بحدوث العالم، فقد أصبح اليوم حقيقةً علمية ثابتة أن الكون ليس أزليا بل هو محدث له عمر كما أثبته مجموعة من العلماء كآرفيد بورد (Arvid Borde) والكسندر فيلنكن (Alexander Vilenkin)سنة 2003م, فالكون محدث كما يثبت العلم الحديث وهو أيضاً سائر إلى الفناء، بخُطى متسارعة. فالعلم إذن صديق الدين وصنوه.
أيها السادة الكرام، ولكن لا بد هنا أن نلفت الانتباه إلى أن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، أنزله الله بعلمه، ; ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) ;، يحتوي علم الله الذي هو الحقّ المبين، في مجالات كثيرة، لقصد هداية الإنسان بقيم الخير، وليس أطروحة علمية، فلا ينبغي أن نحصر حقائقه
وإشاراته البديعة ورحابة معانيه المتجددة في ضيق فرضيات البشر ونظرياتهم المعرضة للتغيّر، لأن مبناها على الاستقراء. على أنه لا مانع من الاستئناس بما يتقرّر في علوم الكون من معطيات جديدة، ومقبولة لدى الساحة العلمية، لإلقاء أضواء كاشفة على أوجه من الدلالة في القرآن الكريم تحتملها اللغة، لا سيما في ظل غياب تفسير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، أو كان التفسير المأثور يحتمله. ففي القرآن من الحكم والاشارات ما يفهما العامي على ظاهرها، والعالم الضليع في العلم الطبيعي بفهم خاص، كما يفهمها صاحب السلوك بفهم آخر وتأويل معين، وتبقى الآيات كما هي هداية ورحمة وموعظة وبشرى للمؤمنين.
أيها الأخوة الأفاضل تلك شذرات واضاءات على دروب هذا الموضوع الجميل الجليل، متمنيا لمؤتمرنا النجاح والتوفيق سائلين المولى سبحانه أن يكون من مجالس مدارسة القرآن الكريم، التي صحّ في الحديث أن السكينة تتنزل على أهلها، وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلدنا هذا وقيادته الرشيدة وسائر بلاد المسلمين والعالم، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.
|
© Copyright 2006-2017. His Eminence Sheikh Bin Bayyah website