ضبط الفتوى.. ومنهجية المذاهب الأربعة
بقلم: || فضيلة الشيخ الدكتور عبـــدالله بــن الشيـــخ المحفــوظ بــن بيـــه||
بالنظر فيما نقل عن مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدر التشريع وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين مبنيين على الأصلين وهذا في الجملة.
أما في التفصيل فإن ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث فيعمل بالمراسيل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد.
وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه أو للاستصحاب مساحة أوسع وربما قدم عمل الراوي على العمل بمرويه.
كما أن تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم ليشمل الإجماع السكوتيّ وسائر القرون والعصور. ومعتبر إجماع أهل المدينة. وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.
إلى غير ذلك من التفاصيل. وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء غير أن الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس كقياس الشبه وقياس العكس وكذلك بعض مسالك العلة.
أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا. وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها.
وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها بضوابطها التي ستراها في مبحث مستقل.
وبعد ما رأينا من منهجية المذاهب الأربعة في الفتوى وقبل ذلك منهجية أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن فتاوى العلماء المتأخرين بعد عصر المجتهدين يمكن أن تساعد في استقصاء مرجعية الفتوى في العصور المتأخرة مما يسعف في تجلية بعض الجوانب المساعدة على ضبط منهجية الإفتاء في هذه الزمان وبخاصة في فقه الأقليات الذي هو مجال تطبيق هذا الكتاب. فإنه بدراسة هذه الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط يمكن إبراز ثلاثة نماذج بعد عصر الاجتهاد.
||الأنموذج الأول||: فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنّة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين، ويمثل هذا التوجه مجموعة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنّة وأقوال السلف، يصحح ويرجّح أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة.
||الأنموذج الثاني|| من الفتاوى: هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا، وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنّة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلاّ أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرّج، وتمثّل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلح فيها النزاع بين جمهرة العلماء، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة.
أما || الأنموذج الثالث||: فهو طبقة المقلدين التي لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضي خانة من الأحناف، وعليش من المالكية وغيرهما، وهو الأنموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.
إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء.
أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً.
ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنّة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى. والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن على أصحابها أن يصنّفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس، وعندما يقلّد قولاً عليه أن يقلّد القول الصحيح، وعندما يقلّد الضعيف عليه أن يبيّن سبب ذلك. إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة عندما أجازوا قضاء المقلّد وفتواه، بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية.
كما تسوغ الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي التي هي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك، فهذه تبيح المحرّم ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه.
لكنها الضرورة التي تعنى الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء سنشرحه لاحقاً.
وأخيراً- الفتوى الجماعية: إنه من حسنات هذه الأمة المحمدية المحروسة المرحومة المعصومة إنها كما وصفها نبينا – صلى الله عليه وسلم- في بعض الأحاديث “مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره”. رواه أحمد والترمذي عن أنس وأحمد عن عمار وأبو يعلى عن عليّ والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.
وهكذا بدأ العصر الأول بالفتوى الجماعية وأشرنا إليها في حديثنا عن دليل الإجماع في عهد أبي بكر عليه رضوان الله، حيث كان يجمع رؤوس الناس وخيارهم ويستشيرهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به كما في حديث الدارمي. وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان يستشير عشرة من فقهاء المدينة وبعض الناس يسمى ذلك بالاجتهاد الجماعي وليس الأمر كذلك.
فالاجتهاد في تعريفه إنما يرجع إلى قناعة شخصية لأنه بذل المجتهد وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي ولكنه إفتاء جماعي. وقد أحيا العالم الإسلامي في مطلع القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري الفتوى الجماعية بإنشاء المجامع الفقهية العالمية سواء كانت رسمية أو شعبية مستقلة.
إن هذه المجامع يجب أن تعني بالقضايا العامة التي من شأنها أن يكون لها أثر على الأمة سواء كانت قضايا سياسية كقضايا النظم: الشورى والديمقراطية ومشاركة المرأة.
أو قضايا اقتصادية كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة القارات مع ما يشوب معاملاتها من أوجه الفساد الشرعية.
والانخراط في المنظمات كمنظمة الغات للتجارة العالمية. وقد ركزت هذه المجامع على بعض القضايا الاجتماعية كالعلاقة بين الرجل والمرأة من حيث الواجبات والحقوق المتبادلة.
ويحتاج الأمر في البحث إلى
|| أولاً||: إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه. وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطى مكانة كبيرة للخبراء السياسيين والاقتصاديين وأيضاً للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي.
||أما المحدد الثاني||: فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلي النظر المتوازن بين الكلي والجزئي لتضع نصب عينيها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها وبصيرتها النصوص الجزئية التي تؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد وشموله إن ذلك بعينه هو الوسطية.
وهو أيضاً إحياء سنة الصحابة في عرض الأمور العامة على الجماعة كما فعل عمر في مسألة الأراضي الخراجية وانتشار ظاهرة الخمور فلم يرد عمر أن تعالج قضايا الأمة من طرف أفراد مهما كانت درجتهم العلمية وإنما يصدر فيها حكم جماعي يكون مستنداً للأمة ومراعياً للمصلحة العامة.
كيف نستفيد من هذه الفتاوى؟ يمكن الاستفادة منها من وجهين:
|| أولاً||: دراسة نماذج من فتاويهم للتعرف على القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحكامهم وفتاويهم في مختلف العصور، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل.
وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع، وجلب المصالح ودرء المفاسد، ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين، والنظر في المآلات، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وسد الذرائع وتحكيم العرف، وتحقيق المناط والإذن في العقود وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم ولا يبطل إلاّ ما دلَّ للشرع على تحريمه نصاً أو قياساً.
وقد قال الشاطبي: إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه. وسُئل الشاطبي رحمه الله عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي، فقال إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله تعالى: {$ (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ) } [البقرة] وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج و اغتفاراً للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: “وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً أو رد القيراط على الدرهم في البيع”.
إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقق التفاضل.
|| ثانياً||: الاستفادة من الفتاوى القديمة في القضايا المعاصرة|| وذلك بالبحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة.
ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله وبخاصة في زماننا الذي أمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة. بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها، إلى الهندسة الوراثية.
ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة.
وينبغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة، بل إنها تدل عليها دلالة تضمن أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما وراء الأكمة بدون غوص في مضامينها أو تعمق في محتواها غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف، إذ إن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أم تحرّمه أو تحكي الخلاف فيه وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أياً من هذه النوازل سنداً يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلك الإتباع.
||السلم المتوازي|| من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل. فأجاب الفقيه ابن الحاج: (إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام). (المعيار6/162).
المؤجر يأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلاّ لما مضى من الزمان. مسألة التسالف بين الأحباس وقول ابن حبيب في الواضحة إن الأموال المرصودة في وجه من أوجه البر يمكن أن تُصرف في أوجه أخرى من أوجهها، وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض.
|| مسألة التضخم|| سُئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى فشوور فيها فقهاء قرطبة فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة.
وذكر كلام المتيطي لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة؟ فقال ابن سهل: له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء، كما لا حجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا ولا يجوز على الأصول سواه. (المعيار6/228 وما بعدها).
وفي قياس التضخم على الجائحة سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة ؟ فأجاب: أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأت المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر.
وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة. نصَّ على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره، فيُقال: كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيُقال: ألف درهم ويُقال: كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيُقال: خمسمائة درهم، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماة فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.
وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة. (الفتاوى لابن تيمية3/257).
مسألة تغيّر السكة أو انقطاعها: وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض ويقول: إنما أعطاها على العوض (المعيار6 /163).
كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حماماً بدراهم موصوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أنه يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي.
وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (6/164).
وقال أبو حفص العطار من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم. وفي كتاب ابن سحنون إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت لأن الفلوس لا ثمن لها.(المعيار6/106)
مسألة الإيجار يجتمع مع البيع فيشتري المستأجر الدار المستأجرة: في المعيار: وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط. سُئل عنها فقهاء قرطبة: أجاب عبدالله بن موسى الشارقي بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض، وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك وإن علم به فلا رد له ولاحق له في الكراء مع البائع المكري إلاّ أن يشترطه.
وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً: ابن الحاج إن باع مع الكراء عرضاً والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه ولو باعها من المكتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمران الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي إن ذلك جائز وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران. وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء.
وفي فتاوى المعيار بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز. وأما في القاعة فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر لأنها مأمونة وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها.
وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك كما يجوز بيعها على ألا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد وقد سبق بيان ذلك (هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي 6/464).
مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة).
أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب. فأجاب: إنها تباع لأنها كالعروض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم.
وهي كونه ثمناً للمبيعات ونظير هذا فى أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه في طعام أو دواء واستهلك فيه ثم لو شربه الصبي أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر. ( المعيار 6/311)
هذا ما يتعلق بالجزء الأول من هذه الدراسة وهو تأصيل للفتوى بصفة عامة لكنه محاولة لتوسيع دائرة الفهم عند القارئ وترسيخ جملة من المعاني تنافي ضيق الأفق إذا طالع بتؤدة وقرأ على مكث معتمد الفتاوى عند سلف هذه الأمة وتدبر في تعلقهم بالمعاني والمصالح وفكر في تشعب طرق الاستنباط ووسائل الاستنتاج فيتهيأ بذلك ذهنياً لقبول ما سنعرضه من فقه الأقليات تأصيلا وتفريعاً، حيث سنزيد الأمر بياناً.
ذلك أن مفتى الأقليات يجب أن يكون واضح الرؤية دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه.