ملحق (الرسالة ) : يناقش مشروع العلامة ابن بيه التجديدي

في بحث غير منشور يقدم العلامة عبدالله بن بيه -نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- لملحق (الرسالة) مقدمة مشروعه الخاص في تجديد أصول الفقه؛ حيث يعكف الشيخ على بلورة رؤيته الخاصة لتجديد علم أصول الفقه. وكان الشيخ قد قدم لمشروعه في محاضرة ألقاها بالدار البيضاء تحت رعاية “مؤسسة مسجد الحسن الثاني” على جمع من المتخصصين والباحثين والمهتمين بالشأن الشرعي.

 

التجديد مصطلح لايعرف

ابتدأ العلامة ابن بيه رؤيته بتعريف التجديد حيث أكد أن “التجديد مصطلح يكثر في الكتابات تناوله وعلى الألسنة تداوله؛ ولكنه غير محدد المعالم ولا محدود المدلول، فهو من تلك المصطلحات المعروفة جدًا إلى حد أنه لا يمكن أن يعرف؛ لأنه في أصله عبارة عن فعل متعد تظهر تجلياته في متعلقاته، فبقدر ما يتسع متعلقه وتتعقد علاقته وتتشعب أدوات الفعل وإمكانات الانفعال تنفسح مساحات المدلولات”.

وأشار إلى أن التجديد من المفاهيم المتمددة أو المشككة أو ما يسمى بكلمات التذكير والإثارة غير المحددة يصعب حصره بحدود الحد والرسم وإن كان يسهل التعاطي معه من خلال المثال والعد والسرد والتقسيم والسبر؛ لأنه حالة وعلاقات بين مؤثر ومتأثر ينشأ عن التأثير انفعال ليتشكل من جراءه الأثر أو النتيجة.
ثم سرد في بحثه بعض الاستدلالات والتعريفات للتجديد من السنة ومن بعض كتب التراث، وذكر العلامة ابن بيه أن التجديد يتجلى في خمس صور: الأولى: تجديد ما اندثر من الأحكام في حياة الناس. والثانية: تجديدٌ بإنشاء طرائق من شأنها أن تخدم الدين، ولا يبعد أن يكون إنشاء منهج في أصول الفقه من هذه السنن. الثالثة: تجديدٌ يتعلق بمستجدات حياة الناس لوصلها بحبال الدين. الرابعة: اختراع وإبداع وليس ابتداعًا، ومنه ما أحدث السلف من تدوين الدواوين والجمع للتراويح وإحداث السجون، وقد يكون منه ما أحدث الخلف من الاجتماع للذكر وتلاوة القرآن على خلاف في ذلك. الخامسة: تجديد يتعلق بالاجتهاد في الأحكام إنشاءً في قضايا لم يسبق فيها نظر للعلماء، أو قضايا سبق فيها نظر للعلماء وظهر ما يعارضه إما لضعف مستند الأول طبقًا للبرهان أو تغير زمان أو اجتهاد في كيفية تطبيق الأحكام، وهذا موضوع أصول الفقه.

ثم تساءل ابن بيه عن الحاجة إلى تجديد أصول الفقه قائلًا: هل التواصل بأصول الفقه في الوقت الحاضر مفضٍ إلى إنتاج الأحكام في مستجدات الوقائع؟ وهل هناك مستجدات تفتقر إلى استنباط؟ نافيًا إجابة السؤال الأول، مثبتًا الثاني؛ مضيفًا أن الحاجة داعية إلى مراجعة عملية الاستنباط التي كانت مدعاة لإنشاء أصول الفقه وهي وظيفتها الأساسية، وعملية الاستنباط ضرورية لوجود مستجدات، وسوق الاستنباط كاسدة لوجود طلب لا تقابله بضاعة صالحة بل يقابله عرض كثير لا يستجيب للحاجات ولا يلبي الاحتياجات.

فالحديث عن التجديد في أصول الفقه هو بالضرورة تجديد في الفقه ذاته؛ لأنه هو المستهدف في الأصل والنتيجة المتوخاة. مؤكدًا ضرورة التجديد الذي يختلف عن معنى الإحياء والإصلاح وحتى التنوير في الفكر الغربي الذي يعني تفكير بلا سقف.

 

دعاوى التجديد

وبعد أن أكد الحاجة إلى التجديد في أصول الفقه عرض إلى ما أسماه (دعاوى) تجديدية لأصول الفقه لها خطورتها -بتفاوت بينها- على أصول الفقه بل والشريعة، وهذه الدعاوى بحسب ابن بيه تتمثل في ثلاثة اتجاهات، الأولى: دعوى الحكمة والمصلحة غير المنضبطتين بضوابط التعليل ووسائل التنزيل مما سيحدث ارتجاجًا في بناية الاجتهاد وزلزلة لأسسه. الثانية: الدعوى المقاصدية مجردة عن مدارك الأصول وعارية عن لباس الأدلة. الثالثة: دعوى تاريخية النص وظرفيته.

واتهم ابن بيه هذه “الدعاوى” بأنها هروب من ديمومة النصوص، وقفز في المجهول، وخروج من العلم إلى الجهل، وبحث عن الوداعة والسهولة دون تجشم سبل البحث الجاد وتقحُّم عقبات علوم الشرع بالعدة والعتاد. ووصف هذه الدعاوى بأنها أقرب إلى التبديد منها إلى التجديد.

 

أصول الفقه والعلل الأربع

ثم شرع في طرح رؤيته من خلال صورة تقريبية تعرف عند المناطقة بالعلل الأربع التي تمثل الماهية ولوازمها، وهي: المادة، الصورة، الغاية، الفاعل. وكما تتجسد فلسفة الأشياء الحسية من خلال هذه العلل يرى ابن بيه أنه يمكن أن تتجسد فلسفة القضايا الذهنية من خلال ذات العلل. لذا فقد حاول فلسفة أصول الفقه وتفكيكه من خلال هذه العلل؛ فقد عرض “لمادة” أصول الفقه التي يكون منها استمداده وهي سبعة أصول: القرآن، والسنة، واللغة العربية، والفقه، وفتاوى الصحابة وقضاؤهم، وعلم الكلام، والمنطق الأرسطي، ويمكن الاستعاضة عن الأصلين الأخيرين بالعقل باعتباره مرجعيتهما.
وكان البحث في “الصورة” طبقًا للمفردات التي وضعها تحت عنوان “دلالات الألفاظ” مرتعًا خصبًا –كما يرى ابن بيه- وميدانًا فسيحًا للتجديد من خلال إعادة التركيب والترتيب والتبويب، وكان لمبحث مدلول الدليل نصيب وافر ارتكز على مسألة: الوضع والاستعمال والحمل التي انبثقت الدلالات بألقابها المختلفة واشتبكت المعاني بشياتها المتعددة بين وضوح وغموض منها. واقترح ابن بيه تضامن علوم اللغة من جديد في عملية التعامل مع الظاهرة اللغوية على مستوى المفردة أو دلالة الإسناد ووضع مقدمة عن اللغة تشتمل على الاشتقاق بأنواعه، وعن أنواع المجاز والكنايات والمعاني الأصلية والثانوية في الإسناد –في علم المعاني- ومعهود العرب في الخطاب لإبعاد ظاهرية التفسير التي سماها الباجي بدعة الظاهرية لأن من شأن ذلك أن يساعد على اكتشاف مكنونات النص وإمكاناته واحتمالاته.

 

الاستفادة من علم “اللسانيات” الغربي

وطالب العلامة ابن بيه بإضافة ما توصلت إليه المعارف البشرية في اللسانيات والهيرمينوطيقيا لتقريب صورة العلاقة بين اللفظ والمعنى، وما يعنيه المتكلم وما يفهمه المتلقي. وأكد أن تلك إشكالية لا تزال أصول الفقه وعلم الكلام والتفسير تعاني منها.

وشدد في بحثه على ضرورة مراجعة الأدوات؛ لأن “للتجديد أدواته، كما لكل بناء أدوات، فقبل الشروع في البناء علينا أن نخترع الأدوات أو نفحص ما لدينا من أدوات؛ لنرى “صلاحها وصلوحيتها”. ومعنى ذلك أننا سنتعامل مع الكليات التي تمثل أساس البناء ومادته. والتجديد بمعنى التوليد -الذي يعتبر الغاية- هو الوصول إلى التصور الجزئي وهو في حقيقته متردد بين اتجاهين: الكلي والجزئي ولهذا فإنَّ القسمة الأرسطية المتمثلة في الانتقال من الكلي إلى الجزئي وهو القياس المنطقي، ومن الجزئي إلى الكلي وهو الاستقراء، ومن الجزئي إلى الجزئي وهو قياس التمثيل تظل صالحة. وأشار ابن بيه إلى أن تحديد الغاية أمر ضروري في كل عمل واع وتصرف هادف، إذ إنه يجيب عن سؤال لِـمَ؟ في حين أن المادة في محل التجديد، تشير إلى جواب: عن أي شيء؟
أما الصورة فهي البناء الذهني الذي يجيب على ثلاثة أسئلة هي: ماذا؟ لماذا؟ كيف؟ فدلالات الألفاظ في الصورة تجيب عن ماذا؟ والتعليل يجيب عن لماذا؟ والتنزيل يجيب عن كيف؟

إنه كالسرير طبقا لمثال أبي حامد رحمه الله تعالى في “معيار العلم” فإنَّ الغاية من السرير أنْ يكون مستقرًا صالحًا للاعتماد عليه اضطجاعًا ونومًا وجلوسًا، والمادة من الخشب. أما صورته فهي أن يكون في وضع وكيفية تلبي الغاية التي يطلب لها، كأن تكون له قوائم يثبت عليها وطول وعرض وجلد وثير.
وأكد على أن التجديد مفتاحٌ لتغيير أوضاع الأمة في كل مناحي الحياة وميادين العلوم ليكون انطلاقًا من القوى المعنوية والتاريخية للأمة عبر معادلات ومرتكزات جديدة تنشئ فكرًا خلاقًا مستوعبًا ومضيفًا ومتجاوزًا الاستجابة والتكيف إلى الاختراع والإبداع، والأخذ والعطاء، والشراكة الحضارية والندية.
ويضيف: “إن التجديد تطور نابع من عبقرية الأمة وحاجتها، شامل لكل ميدان، مبلورٌ للمشروع الحضاري الواعد الواعي، مدمجٌ القيم والتاريخ في بوتقة الحاضر والمستقبل، في تناغم وتناسق، في خطاب قديم في مضامينه، جديد في طروحاته، أصيل في مقارباته، ولهذا فهو الجديد بالنوع، القديم بالجنس الذي يجعل من التراث حافزًا، ولا يقيم منه حاجزًا، إنه سيكون بمثابة التنوير للغرب مع فارق المرجعية”.

مقترحات في التجديد كما يطرحه العلامة ابن بيه

ويقترح الشيخ عبدالله بن بيه في بحثه لإعادة التركيب والترتيب والتبويب:
1- في المادة: إبدال عنوان التحسين بمكانة العقل في التشريع.
2- في مدلول الدليل: وضع مقدمة عن اللغة تتضامن فيها العلوم اللغوية، لغةً ونحوًا وبلاغةً وصرفًا، بالإضافة إلى الأصول، بما في ذلك دراسة مقارنة عن المنهج الغربي في اللسانيات والهيرمينوطوقيا انطلاقًا من ثلاثي الوضع والاستعمال والحمل لتوليد الدلالات في ثلاثة محاور.
3- في منظومة التعليل: مقدمة عن الأقيسة الثلاثة الشمولي والاستقرائي والجزئي تؤصل للتعليل.
4- مقدمة عن المقاصد وضبط التعامل مع المقاصد بخمسة ضوابط لإدماجها في الأوعية الأصولية، وهي:
– التحقق من المقصد الأصلي الذي من أجله شُرع الحكم.
– أن يكون ذلك المقصدُ وصفًا ظاهرًا منضبطًا؛ لأنه إذا لم يكن كذلك فلا يمكن التعليل به.
– أن نحدد درجة المقصد في سلم المقاصد هل هو في مرتبة الضروري أو مرتبة الحاجي لأن التعامل معهما ليس على وتيرة واحدة، وهل هو مقصد أصلي أو تبعي ووسيلة؟
– النظر في النصوص الجزئية المؤسسة للحكم لأنه من خلالها يمكن ضبط التصرف في ضوء تأكيد الشارع على الحكم أو عدمه للتعرف على المقصد ومكانته وضبط التعامل معه إلغاء أو إثباتًا لما يعارضه من الضرورات الحاقة أو الحاجات الماسة.
– هل المقصد المعلل به منصوص أو مستنبط؛ في الحالة الأولى يرتفع الحكم بزواله وفي الثانية لا يرتفع لكنه يمكن أن يخصص.
5- في التنزيل: وضع جملة من أبواب أصول الفقه في أربعة مؤطرات تدرس فيها علاقة الأحكام بالواقع والمتوقع (الحال والمآل)، والمصالح والمفاسد، والأعراف والعوائد، والاستعانة بعلم الاجتماع في هذا المجال، ودراسة الواقع الدولي وتأثيره على النظم والتشريعات المحلية، ومسألة الحريات الفردية والجماعية المنوه عنها في الدساتير ومواثيق حقوق الإنسان، ومدى ملاءمة ذلك لنظام العقوبات في الشريعة المطهرة.
بالإضافة إلى إحداث باب في هيكل الأصول بعد باب الاجتهاد لتمرين الباحثين على تطبيق القواعد الأصولية على المسائل الجزئية على غرار كتب التخريج.
6- في الفاعل: أن يكون التجديد في الشريعة جماعيًا تماشيًا مع روح العصر، يشترك فيه الخبراء مع الفقهاء.

Comments are closed.